لا يعد اكتشافاً كما أنها ليست شيئاً جديداً،
تلك الحقيقة التي خصصت لها الكاتبة الأمريكية ساندراماكي مقالتها
التي كتبتها في صحيفة لوس أنجلس تايمز، وأعادت نشرها صحيفة الشرق
الأوسط اللندنية
فعلى الرغم من الحقيقة التي كانت محور المقالة
وهي موضوع العشائر العراقية ودورها السياسي في العراق الحديث وما
يمكن أن تلعبه من دور في عملية إسقاط النظام الحاكم في بغداد، إلا أن
تلك الحقيقة كانت ناقصة بل كانت تقف على رأسها بـ (المقلوب) في كثير
من الأحيان، كما أنك تستطيع أن تلمس وهذا هو الدور الخطير للإعلام
الغربي عامة والأمريكي بشكل خاص، ومن خلال سطور المقالة الدس المبطن
أحياناً والمكشوف الصريح في أحيان أخرى، على العراق كدولة وكشعب،
وأيضاً في تعاطيها مع فترة السبعينات من عهد النظام الدكتاتوري.
ونحن هنا لا نريد أن نخصص هذه المقالة للرد
على تلك الحقائق المقلوبة، أو ذلك الكلام الذي أوردته الكاتبة
ساندراماكي في مقالتها موضوعة كلامنا والذي ينطبق عليه قول الإمام
أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع): (كلام حق يراد به باطل).
لسنا هنا في صدد ذلك، ولكننا سنحاول أن نوقف
الحقيقة على رأسها مجدداً، لأهمية موضوع بحث المقالة وخطورته وخاصة
ونحن نعيش مرحلة غاية في الدقة والحساسية من تاريخ العراق ومن ناحية
تقرير مصيره وتحديد مستقبله، حيث تشير كل الوقائع والأحداث السياسية
والمؤشرات الإعلامية، على أنه حالة مخاض عسير وصعب، باتجاه تغيير
النظام الدكتاتوري الحالي. الذي تسلط على رقاب الشعب العرقي منذ أكثر
من ثلاثين عاماً، والذي لم يشهد تاريخ البشرية له مثيل وكما قال
الإمام الشيرازي الراحل (رحمه الله) في كتابه (لنبدأ من جديد): (وها
نحن نرى اليوم وقد استبد صدام بأمر العراق ويفعل مالم يفعله الحجاج
والمغول وبريطانيا).
لقد أكد المؤرخون والكتاب الأجانب والأعداء
منهم قبل العراقيين والأصدقاء، ومنهم على سبيل المثال الضابط
البريطاني ستيفن لونكريك في كتابه (أربعة قرون من تاريخ العراق
الحديث) بأن العشائر العراقية التي كانت ممثلة باتحادات القبائل
كاتحاد الخزاعل واتحاد المنتفك واتحاد بني لام، إضافة إلى عشائر
ربيعة وتميم وزبيد وبني أسد وغيرها. قد لعبت ومنذ بداية القرن السابع
عشر الميلادي تقريباً الدور الرئيسي والحيوي في تأريخ العراق الحديث،
حيث أنها وبسبب غياب الدولة العراقية مثلت العراقيين المعروفين وعبر
تاريخهم الطويل الذي يمتد لأكثر من ثلاثة آلاف سنة، بنزوعهم للحرية
ورفضهم للاحتلال والتسلط الأجنبي والعبودية، والذي أضاف له الإسلام
العقيدة الإيمانية الراسخة والواجب الشرعي في الجهاد وحب الشهادة.
فمنذ بداية القرن السابع عشر شهدت الأراضي
العراقية حركات تمرد وعصيان مسلح قامت بها تلك العشائر ضد جيش الدولة
العثمانية المحتل، ظل مستمراً حتى انتهاء ذلك الاحتلال وما كانت
تتوقف قليلاً إلا لتعود من جديد أكثر قوة وأشد شراسة، وفي خلال تلك
الفترة كانت المرجعية الدينية هي القائد الروحي والموجه الشرعي لتلك
العشائر، التي ما كانت لتقوم بأي عمل إلا بعد الرجوع للمرجعية
واستفتائها.
وقد تطور دور المرجعية لاحقاً إلى حد اشتراك
عدد كبير من علمائها الأعلام وسادتها وشيوخها الأجلاء بقيادة جموع
تلك العشائر في تصديها للبريطانيين الغزاة ومنذ لحظة أن وطأت أقدامهم
أرض العراق الطاهرة، فيما سمي في تاريخ العراق الحديث بـ (حركة
الجهاد) سنة 1914م، حيث أفتت المرجعية الدينية بوجوب التصدي للمحتلين
الكفار الأجانب والوقوف مع الجيش العثماني في حربه ضدهم، على الرغم
من السياسة الطائفية البغيضة التي اتبعتها الدولة العثمانية في
العراق طيلة فترة حكمها. والتي تجسدت بحملات القتل والتنكيل وحتى
استباحة مدن بأكملها، التي كان أخرها ما قام به الجلاد عاكف بيك،
عندما استباح مدينة الحلة (بابل حالياً) في عام 1916م، في الوقت الذي
كان فيه العراقيون بقيادة علمائهم الأعلام يضحون بأرواحهم في خنادق
القتال في جبهة المعركة جنباً إلى جنب مع الجنود العثمانيين، بل أن
معركة الشعيبة الشهيرة في سنة 1914 والتي شهدت انهزام العثمانيين
وهربهم من ساحات المعارك، في مقابل ذلك شهدت صمود رجال العشائر
العراقية وبقائهم يقاتلون حتى الطلقة الأخيرة.
وفي ثورة العشرين الوطنية الكبرى هبت العشائر
العراقية، عربية وكردية، سنية وشيعية، ملبية نداء المرجعية الدينية
التي تمثلت بفتوى الإمام الشيرازي الكبير، بالثورة على المحتلين
الإنكليز، وقد استطاعت تلك العشائر ببنادقها القديمة وأسلحتها
البدائية (الفالة والمكوار) من أن تهزم جيش الإمبراطورية البريطانية
التي كانت لا تغرب عن أراضيها الشمس، كما وكانت في عز مجدها وزهو
انتصاراتها في الحرب العالمية الأولى، وإن تمرغ كل ذلك في أوحال
الأرض العراقية التي امتزجت بدماء رجال العشائر الشجعان في معارك لا
زالت أسمائها تثير فزع البريطانيين كالرارنجية والعارضيات.
وكذلك فقد تمكنت بثورتها تلك من أن تجبر تلك
الدولة العظمى بوزارة مستعمراتها التي كان يديرها السياسي البريطاني
الاستعماري الشهير ونستون تشرشل على تغيير مخططها الذي سبق وأن أعدته
للعراق، ولسنا هنا في صدد ذكر ذلك المخطط، فوافقت وبالرغم منها على
إقامة الدولة العراقية الحديثة في عام 1921.
تلك الدولة لم تكن هبة من المحتلين ولا هي منةً
من أحد، كما تحاول الكاتبة ساندرا ماكي أن توحي للقارئ بذلك في
مقالتها المشار إليها، بل كانت هي حصيلة جهاد وصراع بطوليين خاضت
العشائر العراقية بقيادة المرجعية الدينية استمر متواصلاً لعدة قرون،
أسال فيه العراقيون أنهار من الدماء امتزجت مع نهري دجلة والفرات
وقدموا خلالها آلاف الشهداء وتعرضوا عبرها لعمليات الإبادة والتنكيل،
وحرق القرى والمدن وحتى استباحة الأعراض من قبل جيوش المحتلين الغزاة
الأوباش عثمانيين كانوا أم بريطانيين.
وبعد تأسيس الدولة العراقية الحديثة 1921 لم
تشكل العشائر العراقية الركن الرئيس في بناء المجتمع العراقي فحسب،
بل أنها شكلت أيضاً إحدى الدعامات الأساسية والهامة التي قام عليها
كيان تلك الدولة، فقد ظل لزعماء تلك العشائر الدور البارز والكبير في
الحياة السياسية العراقية وحتى قيام ثورة 14 تموز 1958 حيث كان قطبي
السياسة آنذاك نوري السعيد وياسين الهاشمي يتسابقان على استرضاء
زعماء العشائر من أجل استمالتهم إلى جانبهم في صراعهم على السلطة وفي
ترجيح كفة أحدهما على الآخر.
ومنذ قيام الجمهورية وحتى اغتصاب العفالقة
للسلطة في انقلابهم المدبر خارج الحدود في 17 تموز 1968، كانت
العشائر العراقية تمثل الأغلبية الصامتة من العراقيين التي كان يحسب
لها الحكام ألف حساب، كما وأنها بقيت وطيلة تلك المرحلة من تاريخ
العراق الحديث على ولائها المطلق للمرجعية الدينية ووفائها للقيم
والمبادئ الإسلامية.
كانت ولا زالت العشائر العراقية هي من أكبر
ضحايا النظام المستبد في بغداد وأكثرها تضرراً من سياساته الإجرامية
والخيانية، حيث فقدت العشائر العراقية الآلاف من أبنائها في حرب
النظام ضد الجارة المسلمة إيران من سنة 1980 وحتى 1988 وكذلك في حربه
الثانية أثر غزوه للكويت الشقيق في حرب الخليج الثانية سنة 1991.
كما وذهب الآلاف من أبناء تلك العشائر ضحايا
لحملات الإعدام الجماعية التي كان يقوم بها نظام القتل والجريمة في
بغداد، بسبب تمسك أولئك الرجال بمبادئ دينهم الحنيف.
فلقد قام النظام الدكتاتوري بإعدام واغتيال
العديد من المراجع والعلماء الأعلام ومن زعماء العشائر ورجالاتها
البارزين، وخاصة أولئك الذين كانوا هم أو آبائهم قادة ورموز الثورة
العشرين، وممن صارت لهم منزلة خاصة ورفيعة في قلوب الجماهير العراقية،
ومنهم على سبيل المثال السيد حسن الشيرازي والسيد عبد الحميد السيد
علوان الباسري الذي أعدم وهو يبلغ من العمر الخامسة والثمانين وأيضاً
الشيخ راجي عبد العباس بن الشيخ عبد الواحد الحاج سكر وعشرات غيرهم.
وعند قيام الانتفاضة الشعبانية الباسلة على
أثر هزيمة النظام الدموي في حرب الخليج الثانية، في آذار 1991م، كانت
العشائر العراقية هي أول من لبى نداء المرجعية الدينية التي دعتها
إلى حمل السلاح من أجل إسقاط أعتى الأنظمة الدكتاتورية في تاريخ
البشرية وابشعها على الإطلاق.
ومرة أخرى كان أبناء العشائر هم جيش الانتفاضة
الرئيس ورأس الحربة فيه، ولذلك أيضاً كانوا هم أكثر من غيرهم ممن
تعرضوا وبعد فشل الانتفاضة بسبب العوامل الإقليمية والدولية والموقف
الأمريكي منها على وجه الخصوص، تعرضوا إلى بطش النظام وقمعه بابشع
صنوف القتل والتعذيب وزج بالآلاف منهم في معتقل الموت في الرضوانية
حيث جرى إعدامهم على شكل وجبات جماعية، ولم تسلم جثث معظمهم إلى
ذويهم، بل دفنوا في مقابر جماعية عديدة منتشرة داخل بغداد وخارجها.
لكن وعلى الرغم من كل فاشية النظام ودمويته
وما اقترفته يداه من مجازر رهيبة بحق العراقيين لقمع انتفاضتهم
وإسكات صوتهم الذي أعلنوا فيه رفضهم المطلق والتام له، والذي يعتبر
من أكثر الاستفتاءات شعبية وديمقراطية، كتبته الجماهير العراقية
بدمائها الزكية الطاهرة.
نقول أنه على الرغم من كل ذلك فإن العشائر
العراقية (القوة الضاربة) للجماهير العراقية لم تهدأ ولم تستكين ولم
تخضع للنظام الذليل والمتخاذل أمام قوة الأمريكان، حيث استمرت
بمقاومتها الشجاعة وتصديها البطولي وإصرارها على رفضها القاطع له.
ولم تكن انتفاضة عشيرة البوحسان من عشائر بني
حجيم في الرميثة سنة 1999 التي أعادوا فيها أمجاد وبطولات هذه
المدينة التي كانت الأرض التي انطلقت منها شرارة ثورة العشرين
وطلقتها الأولى، هي آخر تلك المواجهات الدامية بين العشائر العراقية
والنظام الديكتاتوري، بل إن أخبار العراق تؤكد على استمرار التصدي
اليومي وبشكل متواصل لا يعرف المهادنة أو التوقف.
واليوم والعراق وكما ذكرنا ذلك في بداية
مقالتنا هذه، يعيش حالة مخاض عسيرة باتجاه تغيير نظام صدام حسين
الدكتاتوري، يحاول الأمريكيون في هذه المرة لعب دور المحرر للعراق
والمخلص والمنقذ لشعبه، وهو ما يعيد إلى الذاكرة العراقية التي لا
تنسى ولا تخطأ قول الجنرال مود قائد القوات البريطانية التي احتلت
العراق، عند دخوله مدينة بغداد سنة 1917م (لقد جئنا إلى العراق
محررين لا فاتحين)، ولكن لم يصدقه أحد من العراقيين وقتها!!.
نعود إلى مقالتنا فنقول: إن الصحافة العربية
والعالمية أخذت تطلع علينا يومياً ومنها المقالة موضوعة مقالتنا هذه،
بالعديد من السناريوهات والمخططات التي يجري أعدادها ورسمها في أروقة
ودهاليز الدوائر الرسمية الأمريكية بدءاً من البيت الأبيض وحتى
وكالات المخابرات المركزية الـ (C.I.A)، لكيفية إجراء وإحداث ذلك
التغيير المحتمل محاولين تغييب دور الشعب العراقي في عملية التغيير
هذه من أجل بسط هيمنتهم الاستعمارية على العراق وفرض شكل الحكومة
ومضمونها عليه وبما يؤمن لهم التحكم في مصيره وتقرير مستقبله
والاستيلاء على ثرواته الوفيرة، غير أن حساب البيدر لا يكون كحساب
الحقل كما يقولون، فنحن كعراقيين واثقين تمام الثقة من أن شعبنا وفي
طليعته قوته الضاربة واحتياطيه الكبير، عشائره الوفية الباسلة، سيكون
هو وليس أحد غيره صاحب الكلمة الفصل والأخيرة في تقرير مصيره ورسم
وبناء مستقبله، عندما يحين الوقت وتدق ساعة الخلاص.
وخاصة بعد أن أعلنت مرجعيته الدينية المتمثلة
بآية الله العظمى السيد صادق الشيرازي موقفها الشرعي، الصريح والواضح
حول هذه المسألة، ذلك الموقف الذي جاء عبر فتاويها الشرعية العديدة،
والتي دعت فيها الشعب العراقي المظلوم كله إلى وجوب التوحد ورص
الصفوف، واغتنام الفرص المتاحة حالياً والمتمثلة بالموقف الدولي
الراهن الذي تتجه بوصلته الحالية صوب العراق داعية إلى تغيير النظام
الدكتاتوري المقيت، الحاكم في العراق، والتخلص منه بشكل نهائي بصفته
يشكل خطراً دائماً ومستمراً ليس على شعبه فقط بل والدول المجاورة
والعالم كله أيضاً.
كما دعت المرجعية إلى إقامة العراق الحر،
التعددي، الشوروي (الديقراطي)، والذي يتمكن فيه كل أبناءه من العيش
بسلام وعدل وأمان، بشرط أن يكون ذلك كله قائماً على الأسس والمبادئ
الإسلامية السمحاء العظيمة.
|