اجتماع النقيضين.. لغز الجوع والعطش أمام الوفرة في عالم الرفاه والعولمة

 

من الصعوبة بمكان عند البعض، أن يجدوا تفسيراً أخيراً لاستمرار المجاعة بين شرائح اجتماعية عديدة في العالم بشكل عام وداخل البلاد العربية نظراً لما يسوده من وفرة المواد المنوعة، والخيرات التي تعم أرجاؤه في الوقت الذي تنكر فيه غالبية الرسميات العربية أن يكون هذا الخلل الملموس ناتج عن أي إجراء متعمد.

 

إن التطورات الاقتصادية العالمية تملي على الدول العربية تبني مسايرات محددة، تتقبل أن تكون العلاقة مع الدول الخارجية ذات ركائز فيها شيء من التنازل عن الحقوق الأساسية التي يصعب فرضها على الآخرين، ويعود ذلك لسبب (من مجموعة أسباب) إلى أن أولويات تلك العلاقة قد اتخذت نمطاً يتمثل في أن الإنفاق العربي – في العموم – الذي عليه أن يعترف ضمناً، أن الدول المصدرة للتكنولوجيا الحديثة لها ميزة فرض الأسعار على صادراتها التكنيكية، وفقاً لما ترتئيه السقوف المالية المرسومة، وهذا ما يجعل في جانب من معادلة العلاقة بين الدول الصناعية المصدرة والمسماة بـ (المتقدمة) من جهة، والدول النامية المستوردة للتكنولوجيا الحديثة والمتجددة باستمرار، أن تدفع الحاجة عند بلدان النماء أن تتعامل مع الشركات والمؤسسات الغربية، كجهات قائدة في تحديد نوع العلاقةالقائمة معها، أي أن العلاقة الدولية تشبه لحد كبير ما هو سائد في الأسواق المحلية بين التاجر والمستهلك، فالبضاعة التي بحوزة التاجر هو الذي يعين سعرها، وهو الذين يحدد المقدار المالي المسموح به للتخفيف من سعر بضاعته، وعلى أساس من كل ما يماثل هذا، تتم الصفقات الاقتصادية الدولية بين الدول الصناعية والدول النامية التي منها تصنف البلدان العربية.

أما حين تكون العلاقة حين تلعب الدول العربية دور المصدر لبضائعها التي غالباً ما تكون مواد خام كالنفط أو القطن أو غيره، والدول الصناعية تكون هي المستوردة لتلك المواد، فإن معظم الرسميات العربية لن تستطيع أن تفرض اسعارها التي ترتئيها على خلفية الشعور بعقدة (التفوق) التي يتمتع بها المصدر ويفرضها في أحيان غالبة، الصناعي.. وأن كان قد انتقل إلى موقع المستورد من التاجر العربي. ويتم كل ذلك في شبه غياب للتنسيق على مستوى العمل العربي المشترك، المطالب بالإسراع للبدء في بعض البرامج الاقتصادية العربية، مثل تطوير أسواق المال العربية الذي يكفله صندوق النقد العربي من أجل تدعيم المركز التنافسي للوحدات المالية العربية، أمام عملات السوق النقدية الأجنبية، لضمان ثابت عادل لقيمة الوحدات النقدية العربية، المتأثرة أوتوماتيكياً في حركة الأموال والتسوية المتعلقة صعوداً أو نزولاً بالقيم الطارئة يومياً على بورصة (العملات الصعبة).. وبهذا الصدد أشارت مجلة (السياسة الدولية) وهي مجلة فصلية تصدر عن مؤسسة الأهرام الصحافية المصرية، في دراسة متخصصة وثقتها المجلة المذكورة مؤخراً بأحد أعدادها قالت فيها: (أن الركيزة الأخيرة تتعلق بالطلب من الدول المتقدمة للسماح بالمزايا المقترحة للدول النامية في إطار كون الدول العربية تعتبر من الدول النامية عموماً، وأن كان بعضها يدخل في إطار الدول الأقل نمواً في إطار منظمة التجارة العالمية).

ومن المعلوم أن (منظمة التجارة العالمية) تسيطر اليوم على زهاء (90%) من حجم التجارة العالمية، وأن الفوائد الديناميكية تتحقق من المكاسب الخارجية الناتجة عن زيادة المنافسة الحرة، والتقدم التكنولوجي والأثر الإيجابي الزائد لوتيرة الإنتاجية على معدلات الاستثمار والإدخار مما ينعكس حتماً على العوائد المالية. مع الأخذ بعين الاعتبار أن لفعالية الأسواق المحلية (الاقتصادية والمالية) والانفتاح العقلاني والضروري لجذب الاستثمارات الخارجية المؤقتة دوراً لم يعد من الملائم أن تهمله أي توجهات اقتصادية مدروسة.


 

تسليط الضوء على الواقع الاقتصادي في العالم العربي بهدف دراسة هذا الواقع الجامع بين نقيضي إدامة الجوع في ربوع واسعة من جغرافية سكان البلدان العربية، مقابل غناها المالي الكبير في بلدان عديدة منها من حيث امتلاك الموارد، مسألة تثير الحفيظة لدى العديد من المتخصصين قبل المواطنين المتضررين، من وضع هذا اللغز دون حل، ففي إحصائية وثقها قبل فترة وجيزة مؤتمر (تكنولوجيا ومكافحة الفقر والبطالة في الدول العربية) الذي نظمته (اللجنة الاقتصادية لغرب آسيا (اسكوا) وحضره مندوبون عن (منظمة العمل الدولية) أشارت الأرقام أن متوسط دخل الفرد العربي في عموم البلدان العربية، يصل لزهاء (800) دولار سنوياً فقط مقابل (10000) عشرة آلاف دولار كمعدل وسطي للفرد في بلدان مجلس التعاون الخليجي وهذا ما ينعكس بكل بداهة على فارق المستوى المعيشي.

أن تركّز التكنولوجيا في البلدان العربية، سيؤدي حتماً إلى توازن أفضل بين عمليتي الإنتاج والاستهلاك ويوفر مناخاً ملائماً لبيئة علمية وتكنيكية ناجحة تساهم في الدفع نحو توسيع إنتاج العلوم والتكنولوجيا، ويجلي الدور المتوقع الذي تساهم به المخترعات التكنولوجية في تقدم عملية الإنتاج الاقتصادي نحو أفق محبذ سيحد حتماً من مكافحة الفقر، إذا توافرت سلامة النوايا جنباً إلى جنب مع الجهود المبذولة للاستفادة القصوى من غزارة الإنتاج الذي يعتمد على الكفاءة التكنيكية وأكيد فإن الهدف الأساسي من استخدام التكنولوجيا في جميع بلدان النماء العربي سيعد ثورة صناعية محلية لزيادة معدل الإنتاج وتسيير أمور لا حد لها في آن واحد، للمساهمة في تحسين مستوى معيشة من يعنيهم الأمر من فقراء العالم العربي.


 

يشهد الناتج المحلي الإجمالي العربي في المجالات المالية والاقتصادية تراجعاً إذ أكدت مسودة التقرير الاقتصادي العربي الموحد لهذه السنة 2002م أن نسبة التراجع الآنف قد بلغ رقماً قدره (1.9%) سنة 2001م بفعل عوامل انخفاض أسعار النفط وكمياته المنتجة فعلياً في الدول العربية، حيث تراجعت تبعاً لذلك العائدات المالية لديها من (193) بليون دولار، إلى زهاء (152) بليون دولار.

ونظراً لخطورة المآل في الانخفاض الحاصل فقد وزع (صندوق النقد العربي) مسودة التقرير الآنف على الجهات المختصة لدى الدول العربية،لإبداء الملاحظات في شأنها، ومما ساعد على ذلك أيضاً انخافض أسعار عدد من السلع الأولية الأخرى المهمة في الدول العربية.

وفيما حظي التقرير الذي أصدره مؤخراً برنامج الأمم المتحدة للإنماء تحت عنوان: (تقرير التنمية الإنسانية في العالم العربي لسنة 2002م) باهتمام واسع وتعقيبات عديدة لدى الدوائر العربية ذات الصلة بهذا الموضوع الحساس وتبنت وسائل الإعلام العربية طرحه على الرأي العام العربي، إذ تم تجديد التأكيد على أهمية الأداء الاقتصادي العربي في هذه المرحلة التاريخية التي تشهد تكتلات اقتصادية دولية هائلة، ينبغي أن يكون فيها للعرب دور المتعامل الكفوء معها – على الأقل – إن لم يكونوا طرفاً فاعلاً فيها، نتيجة للموارد الضخمة التي بحوزة البلدان العربية الغنية، المرشحة للعب دور أكبر في عمليات التنمية العربية، ومشاريع الاستثمار في البلدان العربية ذات الحاجة القصوى لمثل تلك المشاريع الكفيلة بسد ثغرات عديدة من ظاهرة الخلل العام التي يشهد فصولها المجتمع العربي في بلدانه كـ (ظاهرة البطالة). إذ من اللاعدل أن يكون في أي بلد عربي مواطن واحد جائع وهذه الوفرة في المواد والإمكانات المعطلة أمام أنظار الجميع، فـ (لغز) الجوع في العالم العربي يشكل نقيضاً مع مبرر وجوده بين أناس فقراء يعيشون في حياة عصور ما قبل اكتشاف النفط. والنفط منتج في بلدانهم ويسميهم العالم الخارجي بأنهم شعوب النفط.


حذّر المعهد الدولي لأبحاث الغذاء مؤخراً من أن الاستمرار الحالي في نمط إدارة الموارد المالية في أنحاء العالم سيقود إلى كارثة عالمية نتيجة لعدم استحصال الكميات المطلوبة من المياه الصالحة للشرب ومن المتوقع أن سنة 2025م ستشهد نقصاً حاداً في توفير الماء الصافي مع ما يرافق ذلك من ارتفاع في الأسعار مما سيعرض الأمن الغذائي العالمي للخطر.

وأورد المعهد الدولي المذكور في تقرير عرض على الصحافة ثلاثة سيناريوهات محتملة لما يمكن أن يؤول إليه الوضع في مجال توفير وإنتاج واستهلاك وتوزيع المياه في عام 2025م وربط التقرير توضيح مبرراته باحتمالات تفاقم الأوضاع الحالية المنذرة بشحة المياه التي إذا ما استمرت فإنها ستقود إلى مشكلات خطيرة في توزيع المياه تطال احتياجات مئات الملايين من البشر لمياه الشرب، وكذلك انحسار المستنقعات والزحف الصحراوي نحو الأراضي الصالحة للزراعة وما يعنيه ذلك من انخفاض كبير في الإنتاج الغذائي وارتفاع حاد في أسعار المواد الغذائية مما سيؤدي إلى انخفاض بمعدلات الاستهلاك الغذائي في العديد من البلدان.

ويكاد أن يعتبر هذا التحذير مكرراً في مغزاه وأهدافه الإنسانية إذ سبق وصدر أكثر من تقرير بهذا الصدد ولكن دون حصول تقدم يذكر في مجال توفير مياه الشفه.