مثلما كان الإمام الراحل آية الله العظمى
السيد محمد الشيرازي (قدس سره) في حياته مادة مثيرة للجدل الديني والنقاش
السياسي، بين أوساط الحكومات الخليجية والطبقة المثقفة ورجال الثورة
والسياسة، وصولاً لفقهاء ومراجع الحوزة العلمية وطلبة العلوم الدينية وعامة
الناس. جاءت وفاته لتعيد طرح الأسئلة الهامة على مستوى الحوزات العلمية
والمدارس الإسلامية المعاصرة.
تكريم عظماء الأمة..
تدين كافة الأمم والشعوب المتحضرة لرجالاتها المخلصين بالطاعة والولاء،
فوقوفنا أمام سيرة هؤلاء العظماء والمصلحين هو ضرورة عقلية تفرضها السنن
الكونية والاجتماعية. وذلك بهدف إصلاح النفس الإنسانية الساعية لمراتب التطور
والكمال، ومحاولة إصلاح حركة المجتمع الإنساني وتحقيق مبدأ العدالة
الاجتماعية وزرع القيم والمبادئ التي بشر بها الأنبياء والمصلحين. ومن هنا
جاء ارتباطنا الفكري والروحي بالعلماء والمجاهدين والمصلحين المخلصين كقدوة
أخلاقية وأنموذج مثالي للشخصية الإسلامية. وصدق تعالى عندما قال: (لقد كان في
قصصهم عبرة) "يوسف/ 111"، (فاقصص القصص لعلهم يتفكرون) "الأعراف/ 176".
توضيح عام.. لست أهدف بمقالي هنا إلى استعراض
مختلف الأعمال والإنجازات التي قام بها سماحة الإمام الشيرازي (قدس سره)،
بقدر ما أحاول بحديثي أولاً الاقتراب من مناطق أصبح من الصعب تجاهلها بفعل
تطور الأحداث الإقليمية والعالمية، وثانياً لقناعتي بمدى سيطرة الرموز
الدينية والسياسية على مسار الأحداث العامة داخل المجتمع الإسلامي، وارتباط
القاعدة الشعبية بهم ارتباطاً روحياً وفكرياً. وثالثاً تأكيد استقلالية
الحركة الإسلامية والقوى المعارضة عن الأنظمة الحاكمة. وبالتالي محاولة
استقراء الأحداث المعاصرة في مجتمعنا الإسلامي وفق رؤية موضوعية مستقلة،
وصولاً لنتيجة مرضيّة آمل أن تكون محل اتفاق بين الفريقين.
المكانة العلمية والاجتماعية للسيد.. أمتاز الإمام
المرجع الديني الإمام السيد محمد الشيرازي (قدس سره) بالخلق الرفيع وسعة
الصدر والإحسان لمخالفيه، إلى جانب حرصه على الدراسة الحوزوية والكتابة
والتأليف المكثف. وكان يهتم ببحث مسائل جوهرية قل الالتفات إليها من قبل
فقهاء الطائفة الشيعية، مؤكداً على شمولية الإسلام في تعاطي الحياة
الإنسانية، والسمو بقيمه الأخلاقية ومبادئه الأصيلة كالعدل والحرية والسلام.
ولا عجب من ذلك، لأنه من أسرة عريقة في العلم والتقوى والجهاد، خرج منها
العديد من العلماء والمجاهدين والقادة العظماء. ويرجع نسبه الشريف إلى الشهيد
زيد بن علي بن الحسين بن أبي طالب (ع)، ويعود تاريخهم في العراق إلى أكثر من
مائة وخمسين عاماً. وقد عرفوا بالانتساب إلى مدينة (شيراز) لكون جدهم الأعلى
(والد المجدد الشيرازي) كان يقطنها.
وممن اشتهر من عائلة الشيرازي العريقة.. المجدد الميرزا محمد حسن الشيرازي
(قدس سره)، الذي قاد (ثورة التنباك) في إيران لدحر قوات الإمبراطورية
البريطانية العظمى. والميرزا محمد تقي الشيرازي الذي فجر ثورة العراق الكبرى
في عام (1920) ووقف بشعبه العراقي الأعزل الذي لا يتجاوز عدد نفوسه الخمسة
ملايين نسمة في وجه أعتى إمبراطورية في ذلك الوقت حتى نال العراق استقلاله.
وكذلك المفكر الإسلامي الشهيد آية الله السيد حسن الشيرازي (أخ الإمام محمد
الشيرازي) الذي أغتاله النظام البعثي في العراق. بالإضافة إلى بقية الأسرة
الكريمة التي توزعت عبر بلاد المسلمين كأخوة السيد كالسيد صادق الشيرازي
والسيد مجتبى الشيرازي، أو ممن سُجن أو قضى نحبه على يد جلاوزة النظام البعثي
الجائر في العراق.
وقد دافع الإمام الشيرازي طوال حياته عن مبادئ الحرية والتعددية والأخوة
الإسلامية والشورى والدفاع عن حقوق الإنسان والالتزام بمنهج السلم واللاعنف
في الإسلام. وكان نشاطه الميداني يركز على فضح الممارسات الخاطئة للأنظمة
الحاكمة، وكانت له مواقف مشهورة ضد وحشية النظام العراقي وعدم شرعية احتلال
الكويت. وقد دعا سماحة السيد في مؤلفاته -التي تجاوزت الألف كتاب- إلى مقاومة
الاستكبار العالمي والثقافة الغربية والصهيونية، ومن أهم مؤلفاته: (الصياغة
الجديدة لعالم الإيمان والحرية والرفاه والسلام)، و(السبيل إلى إنهاض
المسلمين) و(ممارسة التغيير لإنقاذ المسلمين) وغيرها.
وينتشر أتباع الإمام الشيرازي ومريديه في دول الخليج كالبحرين والسعودية
والكويت وعمان، بالإضافة إلى تواجدهم في سوريا ولبنان وبريطانيا والهند
وغيرها من الدول، بحكم الانتشار الواسع للمدارس والمراكز الدينية والمؤسسات
الخيرية والأهلية التي تتبع مرجعيته الرشيدة.
الأسئلة الممنوعة.. يمكن القول بأن وفاة الإمام
الشيرازي فتحت الملفات المغلقة كمناسبة لكشف الأسئلة الممنوعة التي يخشى
البعض من إعلانها أو التحدث حولها دون وصاية دينية أو موافقة أمنية!! فقد دار
الجدل طويلاً في الأوساط الدينية والسياسية، حول ماهية الفكر الإسلامي الذي
يطرحه سماحة السيد الشيرازي، وموقعه بين أصحاب المدارس الإسلامية الأخرى. وما
مدى واقعية نظرية الشورى في عالم تتجاذبه قوى حزبية وسياسية متعددة؟ وإلى متى
يستمر الخلاف بين أنصار نظرية (ولاية الفقيه) وبين أنصار نظرية (شورى الفقهاء
والمراجع)؟ وهل يستمر التجاذب طويلاً بين السلطة الإيرانية ومدرسة الإمام
الشيرازي؟ ولماذا تنظر بعض حكومات الخليج بخوف وتوجس لمرجعية الإمام
الشيرازي؟ وما مدى ارتباط حركات المعارضة السياسية والتنظيمات الدينية بفكر
بالإمام الشيرازي؟
أسئلة عديدة -لا يسعني الإجابة عنها الآن- برزت في الآونة الأخيرة بعد وفاة
الإمام الشيرازي، والذي طالما حرص أصحاب المدارس الدينية الأخرى على إقصاءه
من مسرح الأحداث، أو التقليل من مكانته والتشكيك في مرجعيته الطويلة، وصولاً
للتضييق على أتباعه ووضعه قيد الإقامة الجبرية حتى آخر لحظات وفاته (رحمه
الله).
من ذكريات الماضي.. لعل الكثير من الأخوة الصامدين
في البحرين يتذكرون أثناء مراحل الاستجواب والتحقيق الأمني معهم في مرحلة
قانون أمن الدولة، كيف كان المحقق المعروف يطرح أسئلته الدقيقة لمعرفة
المرجعية الدينية والانتماء السياسي للمتهم. فإذا ثبت لهم بأن المتهم مقلد
لمرجعية السيد محمد الشيرازي، حُكم عليه بالسجن لفترات طويلة أو تعرض لتعذيب
بدني ونفسي شديد. فكانت عادة (التقية) رائجة لدى المعتقلين لإخفاء المرجعية
الدينية التي تكشف طبيعة انتماء المعارضين السياسيين للنظام الحاكم، أو بسبب
موقف السلطة الأمنية التعسفيّ اتجاه مسألة الحقوق والحريات الأساسية. في حين
أن أغلب المعتقلين السياسيين هم فئات ناشطة في العمل الإسلامي لم يتحركوا من
موقع حزبيّ أو تنظيمي، ولهم قاعدتهم الاجتماعية التي تتقاطع مع التيارات
الدينية الأخرى. ورغم تلك الصعوبات التي واجهت تيار الإمام الشيرازي ألا أنه
بقى محافظاً على وجوده الاجتماعي في الساحة العربية والإسلامية مؤكداً أصالته
الدينية وخطه الحركيّ السياسي.
لنسمو فوق واقع الخلاف والفرقة.. لقد حان الوقت
لنقول كلمتنا بصراحة.. بأن نتجنب الخلافات التي تعيق مسيرة الحركة الإسلامية،
وتمنع حركة الاجتهاد العلمي والنقد الموضوعي من التطور للإمام. فأحوج ما
نحتاجه اليوم هو تقويم فكرنا وسلوكنا وخطابنا على ضوء تعاليم القرآن الكريم
ومدرسة أهل البيت (ع). كبديل عن الانشغال بمناقشة المسائل الجدليّة التي لا
تنفعنا على مستوى الفكر والواقع العملي، ومحاولة لتحسين أسلوب تعاملنا مع
المدارس الإسلامية المغايرة لنا في أسلوب تعاطيها مع الواقع الاجتماعي
والسياسي. والعمل على توحيد كلمتنا وصفوفنا ونبذ الخلافات الدينية والتعصب
السياسي، واستغلال المآتم والجوامع الحسينية لبث الثقافة الإسلامية،
والاهتمام بتربية الناشئة من الشباب. وصولاً إلى للوعي الحضاري الذي يدفعنا
لقبول الرأي الآخر في حدود الاعتدال والفهم الصحيح للعقيدة الإسلامية
السمحاء، ومحاولة قراءة مسيرة الأحداث المحلية والعالمية قراءة علمية
موضوعية، للخروج برؤية معاصرة تمثل فكرنا الإسلامي وروحنا الأصيلة.
أنها دعوة للمحبة والتآلف الاجتماعي واحترام رموز الدين والعلم والجهاد مهما
اختلفت الآراء وتعددت التيارات في الوطن الواحد. فهل نرقى إليها بعد سنين من
الخلافات التي مزقت مجتمعنا الإسلامي إلى فرق وأحزاب شتى؟!
في الختام.. لقد رحل الإمام المرجع الديني آية
الله العظمى السيد محمد الشيرازي (قدس سره الشريف) عن عالمنا بعد جهاد طويل
قضاه في المنفى وأرض الغربة، فكان الرجل الموسوعي والعلامة العارف والمجاهد
بقلمه ولسانه لآخر لحظة من حياته. وسيظل سماحته بعلمه وخلقه وروحه باقٍ في
قلوب أنصاره ومحبيه، وستكون كلمته حاضرة دائماً في قلوبهم وعقولهم.. أمانة
لكل الأجيال القادمة.
فسلام عليه يوم ولد ويوم رحل عن الدنيا ويوم يبعث حياً مع الأنبياء والصديقين
والشهداء. وصدق تعالى القائل: (كل من عليها فان، ويبقى وجه ربك ذو الجلال
والإكرام).
أحمد رضي |