في دراسات أعدها «38» مفكرا عربيا البحث عن حقوق الإنسان في الفكر العربي |
ثمانية وثلاثون مفكرا عربيا، شاركوا في إعداد مشروع هادف، يطمح إلى سبر غور الفكر العربي حول حقوق الانسان، ليس فقط الآن بعد ان استقرت أفكار حقوق الانسان في العالم، وصار لها في الثقافة العربية الراهنة مكان ثابت وهاجس أكيد، بل قبل هذا العصر بكثير، عندما لم تكن هذه القضية مطروحة للنقاش والتنظير كما شاهدها العصر الحديث، بل نشأت عن تجربة معاشة ضبطت العامل الانساني في الجزيرة العربية. صدر كتاب جديد عن مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت، يحمل عنوان (حقوق الانسان في الفكر العربي: دراسات في النصوص)، تحرير الدكتورة سلمى الخضراء الجيوسي، ويحتوي الكتاب على ثمانية وثلاثين فصلا، موزعة على خمسة اقسام اساسية، القسم الأول (مفهوم حقوق الانسان في الاسلام، المعطيات الأولى)، والثاني: (مفهوم حقوق الانسان في الفكر السياسي والاجتماعي العربي الحديث)، والثالث( حقوق الانسان في الفكر العربي - الاسلامي المعاصر). والرابع: (حقوق الانسان في الفكر العربي الحديث - دراسات خاصة). والخامس: (حقوق الانسان في الكتابة الإبداعية العربية). وتناولت المحررة في المقدمة، بحث الاشكالية المنيعة في التناقض بين المفهوم النظري والممارسة الحقيقية في قضية حقوق الانسان، فتقول: لقد كشف الكتاب عن تأصل نافذ في مفاهيم الحق والكرامة، جاء طبيعيا عند العرب القدماء غير مقنن، وغير مرتبط بالنظريات المجردة، لم يجئ (حلف الفضول) في مكة ما قبل الاسلام، عندما اتفق اعيان مكة على حماية الزائر والغريب من الظلم في بلدهم نتيجة لقانون مدني موضوع، بل استجابة لرؤية متغلغلة في الضمير لأصول التعامل والتبادل. ثم في الاسلام عندما حمى النبي صلى الله عليه وآله وسلم - والعالم لم يزل في مطلع القرن السابع الميلادي - يهود يثرب، وسن لهم حقوقهم المدنية في (وثيقة المدينة)، وفرض موقف التسامح ازاء اصحاب الديانات السماوية، انه لم ينطلق الا من رؤية عميقة في انسانيتها واحساسها بالعدالة وحرية العقيدة. بهذه الامثلة وغيرها، أقر المسلمون الجدد تعددية دينية في العالم الذي فتحوه لم تتوافر في أسبانيا في نهاية القرن الخامس عشر وما بعده، على ايدي الاسبان المنتصرين، أولئك جاءوا إلى العالم بمحاكم التفتيش بعد تسعة قرون من زمن محمد (صلى الله وعليه وآله وسلم)، وهم الذي كانوا شهودا لمدة ثمانمائة سنة على حضارة عربية سمحة متنورة حولهم. لا مجال للشك في ان كل هذا التراث الفكري، الذي زامن أيام الاسلام الأولى في الجزيرة العربية وخارجها، نشأ من نضج الفكر الانساني النزعة الذي نما في الجزيرة خلال تجارب حياتية ونفسية، لابد من انها كانت قد تبلورت عبر قرون من الزمن، ولعل وجود متسع لهذا الفكر العفوي المتنور في ثقافة برزت على الساحة قبل أواسط القرن السابع للميلاد، اشارة إلى رقي انساني في الامة التي افرزته والى نمو روحي وفكري، تفوق على شظف المحيط الجغرافي وبدائيته هذا لم يحدث كثيرا في التاريخ. ان جزءا طيبا من هذه النصوص، يضيء بنور ساطع تاريخ النزوع العربي المبكر نحو اقرار الحق، وضمان كرامة الانسان. لابد إزاء ما يوجه إلينا من نقد جارح في ارجاء العالم الحديث، لقبولنا الحياة في حرمان نسبي او كامل من ممارسة حقوقنا المدنية، من ان نظهر زبدة تفكير العقول والنفوس الراقية التي انتصرت قديما وحديثا لأكبر قضية من قضايا الانسانية في تاريخها الطويل، نحن لم نكن فقراء بالفكر الواعي، وفي العصر الحديث لم تكن الجماعات المتلقية لهذه الافكار غائبة عن الميدان او منقطعة الصلة بتراث عربي هو من أرقى ما عرفه الانسان، غير ان وجود هذا التراث الذي يكشف عنه الكتاب هو المصدر الأول لاكتشاف المفارقة المذهلة التي تتضح للمراقب اليوم، عندما يقارن بين هذا التراث قديمه وحديثه، وما أبتلي به الفرد في وطننا العربي المعاصر من رضوخ ومسالمة، مع ما يهيئه ويتحداه باستمرار، وكشف الكتاب، عبر الدراسات التي اعتمدت على مراجع متعددة، من بينها مراجع عربية كثيرة، كيف ان الفرد الواعي في الوطن العربي اليوم يستوعب الاشكالات المتعلقة بحقوق الانسان بوضوح، لكنه يتجاوزها اجمالا تغاضيا وتجاهلا، صحيح ان حقوقا كثيرة جلها اجتماعية، تطورت ايجابيا خلال القرن العشرين، ولكن التركيز هنا على الحقوق المدنية السياسية التي تفرض المشاركة في القرار، وحرية التعبير والنقد، وشجب الاضطهاد لمن يختلفون مع سياسة الدولة، وهذا الوضع الأخير يفسر توجس المواطن من الاعلان عن رأيه المخالف، والركون الى التقية في الحديث. ان تعايش الأفراد الواعين ازاء وضع لم يعد طبيعيا، في عصر طفح بالتغني بشعارات الحرية والحق، ادانة كبيرة للمجتمع العربي الواسع الذي يحتضنهم لقد مرت قرون والعرب قارون في حياة مدنية لا يشاركون في تقرير مصيرها ومعالمها، هذا لا يعني ان الصراع في تغيير اساليب الحكم وتوجيه الرؤية نحو (حياة افضل) واكثر يسرا وعدالة لم يكن قائما باستمرار في الوطن العربي، حتى في الدول التي يسرت العلم والعمل والدواء لمواطنيها. فقد نشأت حركات كثيرة مناوئة للممارسات الرسمية، تمثل الوعي الجماعي ضد الاختراق التعسفي للحقوق، وانه من المعروف ان الوطن العربي عرف احزابا كثيرة، قومية مختلفة اسلامية متعددة اشتراكية علمانية، وشيوعية متنوعة الاتجاهات، ولكن كلا منا يعرف ايضا ان الحكومات في الوطن العربي حاربت هذه الحركات بتصميم متراوح الضراوة، في محاولة لقمع كل ما هو مخالف لسياسة الحكومة المعنية، وكلنا يعرف ان السجون السياسية في انحاء الوطن العربي مليئة بسجناء الضمير. وكان من أهم الموضوعات التي عني بها الكتاب، قضية حقوق المرأة، هذه من أعم الحقوق الفردية المغتصبة باستمرار، وهي حقوق استبد بها المجتمع الذكوري المستقر النفس على استعبادها، فبقي صوتها ضعيفا ومنصاعا، كانت امها قد عاشت العبودية نفسها والانتهاك نفسه ولفترة ما بدا هنا امرا مقضيا. غير ان التجربة برهنت على هشاشة هذا الوضع نسبيا عند جماعة النساء المتعلمات ازاء الوعي العالمي المتزايد بمؤهلات المرأة الطبيعية، وقدرتها على مواجهة الحياة عن طريق العلم والاجتهاد، هذا من جهة، ومن جهة اخرى أعطت الحاجة إلى المزيد من الدخل الشهري، سببا مشجعا لكي تدخل المرأة إلى مكان العمل وتسهم في توفير راحة مادية أكبر للأسرة كانت التوعية تعمل عملها في وجدان المرأة العربية التي نالت قسطا من التعليم، فنزعت المرأة، وقد فتحت لها معاهد العلم والمعرفة الى استغلال مواردها النفسية والعقلية وتلبية طموحها إلى تحقيق الذات والحق ان احد اركان المفهوم المتنور لحقوق الانسان، هو التعامل مع المرأة كشخص كامل، أي ان تعامل معاملة الذكر في حقها بالعلم والتخصص والعمل والاختيار. ولعل أهم المعوقات دون استيعاب قضية الحقوق وجدانيا اثنان، يجيء اولهما من خارج الثقافة العربية، ويجيء ثانيهما من داخلها، الأول: هو المثال السيئ الذي قدمته الدول الديمقراطية الغربية في موقفها من حقوق الانسان خارج حدودها، اي في العالم الثالث، ولاسيما في الوطن العربي والاسلامي، والثاني: هو سطوة الأعراف الموروثة على تصرف الفرد متذرعة بالدين. وتخلص المحررة إلى التأكيد، بأن أكبر نقص في حياتنا المعاصرة، هو الافتقار إلى قدرة الانسان على المشاركة فكريا في تعبيره عن رغبته في تحديث الحياة العربية من جميع جوانبها، لم نعد نملك الوقت لننتظر دهورا حتى نملك حريتنا على التفكير والتعبير، لم نعد قادرين في ظل التسارع الذي نشاهده في العالم لتطوير الحياة الانسانية، على ان نصبر دهورا حتى نصل اخيرا الى الوعي الوجداني واليقين المتغلغل في النفس بأن لنا حقوقا مقدسة امتهنها الزمن قرونا طويلة، وتكالب عليها العدو الخارجي والعدو الداخلي بشراسة مطمئنة، ولابد من ان نستردها، ورأى الدكتور محمد عابد الجابري، في مقدمة فصله حول مفاهيم الحقوق والعدل في النصوص العربية الاسلامية، الى ضرورة التدقيق في المفاهيم، وقال: لاشك اننا سنرتكب خطأ جسيما اذا نحن تعاملنا مع النصوص الاسلامية أو مع نصوص اخرى من تراث الحضارات السابقة للحضارة الاوروبية والمعاصرة، بالفهم نفسه والرؤى نفسها التي نتعامل بها في خطابنا المعاصر الذي تحكمه، بهذه الدرجة او تلك، روح هذه الحضارة وما يسود فيها من مفاهيم ورؤى، ان الدلالات التي نعطيها اليوم لكثير من الكلمات التي تحيل إلى حياة الانسان المادية والمعنوية، وبخاصة جوانبها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والفكرية، هي وليدة تطور هائل تم عبر عصور واجيال، فإذا نحن احتفظنا في اذهاننا بهذه الدلالات عينها، في تعاملنا مع النصوص التراثية، فإننا سنكون قد ارتكبنا خطأ منهجيا، وبالتالي معرفيا وتاريخيا، سيكون حالنا اشبه بمن يفهم من كلمة (صاروخ) التي لا يتجاوز معناها في معاجمنا القديمة معنى (كثير الصراخ) المعنى نفسه الذي تدل عليه اليوم، صحيح ان هناك معنى (الصراخ) في هذه الكلمة، امس واليوم، ولكن فرقا شاسعا جدا بين ما تحيل إليه هذا اللفظة اليوم، وما كانت تشير إلى قبل قرن، ينطبق هذا تقريبا على كثير من الكلمات والمصطلحات التي تعمر خطابنا اليوم، مثل (حق) و(فرد)، (شخص)، (عدل)، وغيرها من المفاهيم لذلك كان من الضروري البدء بالتدقيق في هذه المفاهيم والقيام بالمقاربات الضرورية التي ترسم حدودا لعلاقات الاتصال والانفصال التي يجب اقامتها بين مدلول هذه المفاهيم في خطابنا المعاصر، ومدلولها في نصوص تراثنا العربي الاسلامي.(الوطن القطرية) |