الدكتور رشدي سعيد يتحدث في "مركز الحوار العربي" بواشنطن عن "الحياة على حافة نظام عالمي جديد": الأصولية المسيحية أفقدت البيت الأبيض القدرة على التمييز |
استضاف مركز الحوار العربي بواشنطن العالم الجيولوجي المصري والمفكر السياسي المخضرم الدكتور رشدي سعيد في ندوةٍ عن "الحياة على حافة نظام عالمي جديد" تحدّث فيها عن انفراد الولايات المتحدة بذلك النظام بشكلٍ لم يسبق له مثيل في التاريخ الإنساني بفضل تفوّقها التكنولوجي الذي جعل من المستحيل على أي قوةٍ أخرى اللحاق بها بعكس ما شهده التاريخ في الماضي من إمكانيات انتقال التقنيات من قوةٍ إلى أخرى بل والتجويد عليها بحيث أمكن سقوط حضارات قديمة وعريقة أمام قوى بازغة. الدكتور رشدي سعيد عدّد عناصر القوة في النظام العالمي الجديد مشيراً إلى أنَّ التقدّم التكنولوجي والثورة العلمية التي أدَّت إلى الانتصار الأمريكي على الاتحاد السوفييتي قادت إلى انفراد الولايات المتحدة بذلك النظام مستندةً إلى عددٍ من نقاط القوة: أولاً: القدرة الاقتصادية الخارقة المتمثلة في الشركات عابرة القارات والتي تحتكر الجزء الأكبر والأهم من مجالات النشاط الصناعي والخدمي على مستوى العالم، وتنافس العالم وتنافس الدول لجلب استثمارات تلك الشركات فيها. ثانياً: التقدّم الأمريكي المؤثّر في أسواق المال العالمية والقدرة الأمريكية على التأثير في اقتصاد أغلب الدول وأسعار عملاتها بحيث أصبح ساسة مختلف الدول على قناعةٍ بأنَّ مستقبل بلادهم مرهون بمدى نجاحهم في اجتذاب رؤوس الأموال الأجنبية. ثالثاً: احتكار الولايات المتحدة لوسائل الإعلام المرئية والمسموعة ذات التأثير الساحق من حيث الانتشار والامتلاك شبه الكامل لمعظم الأقمار الصناعية ووسائل الاتصال الجماهيري. رابعاً: السيطرة شبه الكاملة على المؤسسات والمنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة من خلال الضغط أو استخدام حقّ الفيتو واستغلال أنصب الولايات المتحدة في البنك الدولي وصندوق النقد الدولي في تقرير ما تراه واشنطن مناسباً لها من قرارات من المؤسسات. خامساً: تشكيل شبكة عالمية من أنصار الولايات المتحدة المحليين في تمهيد استراتيجياتها سواء كانوا من رجال وسيدات الأعمال الذين يعتمد استمرار مواقعهم المتميزة في المجتمع على ولائهم للنظام العالمي الجديد، أو كانوا من رجال وسيدات الإعلام وأساتذة الجامعات وغيرهم من المؤثرين في تشكيل الرأي العام من خلال الميزات المادية التي توفرها لهم الاستثمارات الأجنبية. وأعرب الدكتور رشدي سعيد عن اعتقاده بأنَّ كل عناصر القوة التي يملكها النظام العالمي الحالي بزعامة الولايات المتحدة لم تنجح في توفير الأمن والأمان الذي ينشده الإنسان في عالم اليوم الذي يشهد الكثير من الغضب والإحباط وحركات الاحتجاج التي عمَّت كلّ الأرجاء وشملت كلّ الأجناس والطبقات. وفيما أكّد الدكتور سعيد أنَّ أكبر مظاهر ضعف ذلك النظام تكمن في داخله فإنَّه حدّد عناصر ذلك الضعف في النقاط التالية: أولاً: قبول دخول الأصوليين المسيحيين ميدان السياسة والمشاركة في الحكم ممّا أدّى في عهد الرئيس بوش إلى تسرّب الاعتبارات الأيديولوجية إلى عملية صنع القرار الأمريكي وأثّر على مسلك القادة الأمريكيين وأفقدهم النظرة الموضوعية للأشياء بعد أن أصبح حكمهم عليها يتقرّر بمنطق غريب مفاده أنَّ من ليس معنا فهو في معسكر الشر. ثانياً: تراجع أعمال العقل والتفكير تحت تأثير التحالفات الجديدة مع تيار الأصولية المسيحية الأمريكية بحيث أصبح من المقبول غض الطرف عن المصالح الأمريكية في العالم العربي وقبول احتلال إسرائيل للأرض الفلسطينية والتغاضي عن كلّ جرائم الحرب التي ارتكبتها في حقّ الشعب الفلسطيني بل وعدم تحريك ساكن لمحاصرة كنيسة المهد وتنافس أعضاء الكونجرس على تأييد الانتهاكات الإسرائيلية لحقوق الإنسان والقانون الدولي. ثالثاً: تراجع النظام الأخلاقي الأنساني التي نشأت في ظلّه الحضارة الغربية والذي كان يعتمد على أنَّ خلاص الإنسان يكون عن طريق الصدق والاستقامة في العمل على أساس أنَّ الثواب والعقاب مرهون بمسلك الفرد ودرجة إتقانه للعمل وما يقدّمه للمجتمع. وحلَّ بدلاً من ذلك النظام رؤية أصولية تعتمد على فكرة أنَّ الإنسان يكون على الطريق القويم إذا وهب حياته وولاءه إلى الطائفة التي ينتمي إليها ممّا فتح المجال أمام مبدأ الغاية تبرّر الوسيلة وتراجع الوازع الأخلاقي الأنساني العام عند الفرد والجماعة بحيث أصبح من المقبول أن يرى الأمريكيون الفقراء يزدادون فقراً والأغنياء يزدادون غنى دون شعورٍ بالتراحم الإنساني. رابعاً: تراجع الحقوق المدنية كسمة أساسية في النظام الأمريكي تحت وطأة أعمال الإرهاب البشعة في الحادي عشر من سبتمبر بحيث أصبح القائمون على تنفيذ القانون مستعدين لتعطيل سيادة القانون والشروع في اعتقال الناس بلا محاكمة وبلا توجيه اتهام، بل ومصادرة الأموال الخاصة بالأفراد والمؤسسات ومعاملة الأسرى دون أعتبار للقوانين الدولية التي تنظم هذه المعاملة. خامساً: تراجع أهمية البشر في تكوين الثروة أو في الدفاع عن الوطن الجديد ممَّا أدّى إلى تهميش قطاعاتٍ كبيرة منهم وتراجع قدراتهم في الضغط على صنَّاع القرار وانتقال هذه التركيبة الجديدة لنمط العمل من الولايات المتحدة إلى معظم البلاد التي أخذت بنظام السوق بحيث انقسمت المجتمعات في النظام العالمي الجديد إلى ثلّة غنية تركزت في يدها السلطة والثروة وأغلبية فقيرة تعاني الإحباط وتشعر بالغضب خاصّة في عالم الجنوب حيث حافظت الشركات عابرة القارات على إبقاء العمالة رخيصة، ولم يشعر العمال بالرخاء الموعود مع دخول الاستثمارات الأجنبية، وظهر التعبير عن ذلك الغضب في حركات الاحتجاج التي عمّت شوارع سياتل ونيويورك وجنوة وواشنطن من جهة، وفي خروج البعض عن الأطر المؤسسية القائمة والعمل خارج القانون من جهةٍ أخرى. وخلص الدكتور رشدي سعيد إلى أنَّ تولّي أعضاء من جناح التيار الأصولي المسيحي الصغير في الحزب الجمهوري بعض مراكز صنع القرار في حكومة الرئيس جورج دبليو بوش ينبئ بعواقب وخيمة بالنسبة لمستقبل الكثير من المؤسسات الأمريكية كالقضاء والضمان الاجتماعي والتعليم والرعاية الصحية لأنّها ستكون هدفاً لتغييراتٍ تستهدف خدمة الأيديولوجية الأصولية وتعميق جذورها داخل المجتمع الأمريكي، كما ستلحق تلك العواقب بمستقبل الاقتصاد المحلي والعالمي نتيجة الإنفاق الضخم على الحرب التي يريد الأصوليون المسيحيون أن تتوسّع لمطاردة ما يعتبرونه قوى الشر في العالم مستغلين الظروف الاستثنائية التي مرّت بها البلاد عقب حوادث الإرهاب الفظيعة في سبتمبر لتنفيذ أيديولوجيتهم. وردّاً على سؤال عن الكيفية التي يجب أن تتعامل بها مصر مع النظام العالمي الجديد قال الدكتور رشدي سعيد أنَّ لمصر وضعاً خاصّاً في منطقة الشرق الأوسط الشديدة التوتر والبالغة الحيوية بالنسبة للمصالح الأمريكية ولذلك هناك دور رئيسي متوقَّع لمصر في حلّ الصراع العربي-الإسرائيلي، ولكنّه نبّه إلى ضرورة أن تركّز مصر في الوقت نفسه على بناء نفسها وتوسيع نطاق تكاملها الاقتصادي مع العالم العربي وتنويع مصادر دخلها القومي بحيث لا يصبح معتمداً على العوامل الخارجة عن إرادتها مثل اعتمادها الحالي على السياحة وتدفقات رؤوس الأموال من الخارج في شكل استثمارات أو معونات أمريكية وأوروبية ويابانية. وأشار الدكتور رشدي سعيد إلى ضرورة الاهتمام بنقل التكنولوجيا وتحسين التعليم والبحث العلمي وخلق كوادر مصرية تتحلى بأكبر قدرٍ من الكفاءة لمساعدة البلاد في مواجهة موجة العولمة التي يروّج لها النظام العالمي الجديد مع توفير المناخ العلمي والعملي الذي يحول دون هجرة العقول إلى الخارج. |