لقاء مع آية الله العظمى السيد صادق الشيرازي أجرته شبكة مزن الثقافية |
أجرت شبكة مزن الثقافية حوار مع آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، حيث كان هو الحوار الثاني في سلسلة حوارات التي أجرتها شبكة مزن الثقافية مع شخصيات علمية بارزة مرجعية وحوزوية.. وفيما يلي نص الحوار: س1: علم الأصول بمنهجيته الحالية، هل تعتقدون كفايته للفقه المعاصر أم أنه عاجز منهجيا عن الإستجابة للظروف المستجدة؟ و على فرض الإجابة بنعم، كيف يمكن علاج القصور؟ علم الأصول (بما له من المنهجية الفعلية) إعتمد عليه الفقهاء العظام - قدست أسرارهم - في استنباط الأحكام الفقهية قديما و حديثا. نعم كلما تعقدت الحياة و تشعبت، تولدت فروع جديدة و هذه الفروع قد تحتاج إلى صياغة جديدة لنفس القواعد، يعتمد في استنباط أحكام تلك الفروع عليها، و ليس هذا أمرا جديدا في علم الأصول، إذ أن تاريخ هذا العلم حافل بالتطورات التي أسهم فيها (إلى حد كبير) توسع علم الفقه بتوسع الحياة مما طرح مشكلات جديدة تصدى لمعالجتها علم الأصول. و لا يخفى أن جميع القواعد الأصولية تعتمد في إستنباطها على الكتاب و السنة و الإجماع و العقل، و يبقى أن نشير أن بعض المباحث المطروحة في علم الأصول تحتاج إلى إنماء و إثراء أكبر كبعض مباحث الحجج و الأصول العملية. س2: تبعا لبعض المقاطع التاريخية في مسائل الفقه و الفقهاء، تلاحظ غلبة في بعض الأحيان لفقه الشخص على فقه المجتمع و الأمة، كيف يمكن علاج هذه الفجوة؟ الفقهاء العظام – رضوان الله تعالى عليهم – كما عالجوا في الفقه المسائل التي ترتبط بالفرد كذلك عالجوا المسائل التي ترتبط بالمجتمع و الأمة، و تشهد لذلك الفروع المختلفة التي ذكرها الفقهاء قديما و حديثا في كتب الجهاد و المكاسب و القضاء و الشهادات و الحدود و التعزيرات و إحياء الموات و غير ذلك. نعم كثير منهم لم يخصصوا لهذه الفروع المتشتتة أبوابا خاصة على المنهج المتداول في عالم اليوم و لعل جزءا من ذلك يعود إلى أن السلطات الظالمة أبعدت الفقهاء (في غالب الحقب التاريخية) عن ممارسة دورهم الطبيعي و الشرعي في قيادة الأمة فإكتفى بعضهم بمعالجة ما هو محل إبتلائهم فعلا، أو بطرح تلك المسائل في ثنايا الكتب المشار إليها آنفا. هذا مع أن مجموعة من الفقهاء ألفوا كتبا خاصة في هذه الشئون مثل: (قاطعة اللجاج)، (تنبيه الأمة)، (الفقه السياسة)، (الفقه الإقتصاد)، (الفقه الإجتماع)، (الفقه الدولة)، (الفقه البيئة) و غير ذلك. س3: العلاقة بين الفقيه و المثقف قد تكون علاقة متباينة، فمن جهة يحافظ الفقيه على ما يراه أصلا من الكتاب و السنة النبوية المطهرة في الوقت الذي يريد المثقف الإنطلاق إلى أبعاد واسعة، كيف يمكن تصوير هذه العلاقة؟ للمسألة أبعاد مختلفة، لكننا نسلط الأضواء هنا على بعدين: البعد الأول: بعد إستنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية، و هذا البعد يدخل ضمن دائرة إختصاص الفقهاء، و الرجوع إلى الفقهاء في هذا البعد يمثل إحدى صغريات الرجوع إلى أهل الخبرة في كل علم و فن، فكما أن الناس يرجعون في كل بعد إلى الخبير بذلك البعد كذلك ينبغي في الأحكام الشرعية الرجوع إلى الخبراء بها و هم الفقهاء الذين يقضون عشرات الأعوام في بحث الأدلة التفصيلية و إستنباط الأحكام الشرعية منها، و يمكن تقريب المثقفين إلى هذه الأحكام أكثر فأكثر ببيان عللها أو حكمها و وضع مفردات الأحكام في إطاراتها الكلية، كما نشاهد ذلك في القرآن الكريم و غيره من مؤلفات الفقهاء مثل (كتاب علل الشرائع) و (موسوعة الفقه) و غيرهما. البعد الثاني: تشخيص الموضوعات الخارجية الصرفة في إطاراتها الكلية و يمكن أن يستفيد الفقهاء العظام – أيدهم الله تعالى – في هذا البعد من ذوي الإختصاص و أهل الفن، و من شأن ذلك أن يقلص الفجوة المذكورة في السؤال إلى أبعد الحدود أو يعدمها بالمرة. س4: إنطلاقا من أن الأحكام تابعة للمصالح، هناك ثمة رأي يقول بأن القضايا غير المنصوصة يمكن أن نقول فيها بأنه أينما كانت مصلحة فثمة حكم الله عز و جل، كيف يمكن ضبط هذه المصالح من ناحية تشريعية؟ مقولة (الأحكام تابعة للمصالح) لها بعدان: البعد الأول: ان الأحكام الشرعية لم تشرع جزافا او تبعا للإرادات الكيفية، بل هي تابعة للملاكات النفس الأمرية (المصالح و المفاسد الواقعية الكامنة في ذات الأشياء). و قد أشير إلى جملة من العلل – أو الحكم – في الآيات الكريمة و الروايات الشريفة. البعد الثاني: ان الحكم الشرعي الأولي يخضع لقاعدة (الأهم و المهم) – التي قررها الشارع المقدس بنفسه . فأكل الميتة حرام، لكن إذا زاحم هذه الحرمة: ملاك إنقاذ النفس: يكون أكل الميتة حلالا. و قد ذكر الفقهاء ذلك في مسألة (تترس الكفار بالمسلمين) و غيرها. و تشخيص (الأهم و المهم) في المسائل الفردية يراجع بشأنها الفقهاء. و أما في المسائل العامة التي ترتبط بمجموع الأمة فالحاكم فيها هو (شورى الفقهاء المراجع). س5: فيما يتصل بقوانين الدولة، هل يصح القول أن هناك مناطق فراغ أوكل الشرع المقدس إلى الدولة ملئها ضمن ظروف الزمان و المكان؟ لا توجد هنالك منطقة فراغ – بالمعنى الحقيقي للكلمة – في الشريعة المقدسة. إذ ما من واقعة إلا و لها حكم شرعي. و هذا الحكم تارة يكون منصوصا عليه بذاته، و بشكل مباشر. وأخرى يكون منطويا تحت قاعدة عامة تشمله و تحتويه مثل: (أوفوا بالعقود)، (لا تظلمون و لا تظلمون)، (لا ضرر و لا ضرار)، (لا يتوى حق امرئ مسلم)، (رفع ما لا يعلمون) و نحو ذلك مما يطبقه الفقهاء على مصاديقه. و قد ورد في الحديث الشريف: (علينا إلقاء الأصول و عليكم التفريع). و سوف تأتي الإشارة إلى ذلك في الجواب السادس ايضا. س6: النصوص الشرعية مقدسة و ثابتة، لكن السؤال: ما هو المقدار المجاز للتعاطي مع هذه النصوص و ضمن أية ضوابط؟ النصوص الشرعية مقدسة و ثابتة و هي تستوعب مناحي الحياة كلها. نعم النصوص الشرعية تتنوع إلى نوعين: 1- النصوص التي تتضمن مفردات محددة و مفصلة... كما نجد ذلك كثيرا في ابواب العبادات – مثلا –. و طبيعة التعاطي مع هذه النصوص هي (التعبد). 2- النصوص التي تتضمن قواعد كلية عامة يمكن أن تتغير تطبيقاتها من زمان إلى زمان و من مكان إلى آخر. و طبيعة التعاطي مع هذه النصوص هي (تطبيق القواعد الكلية على صغرياتها المتجددة). مثلا يقول الله تعالى: (و أعدوا لهم ما استطعتم من قوة) و من الممكن أن يكون مصداق القوة في عهد شيئا معينا، و في عهد آخر مصداقا آخر. هذا مضافا إلى مسألة أخرى و هي مسألة (العناوين الثانوية) مثل عناوين (الضرر) و (الحرج) و (العسر) و (الإضطرار) و (الإكراه) و (الأهم و المهم) و من الثابت في محله حكومة العناوين الثانوية على الأدلة الأولية على ما فصله الفقهاء العظام في كتب (القواعد الفقهية) و في مواضع متتعددة من الفقه. س7: كيف تقيمون الفترة الزمنية التي قضيتموها مع المرجع الراحل السيد الشيرازي - قدس سره – من حيث الناقط البارزة في صفاته و منهجيته العلمية؟ نشير – إشارة عابرة – فيما يلي إلى بعض النقاط البارزة في المنهجية العلمية لآية الله العظمى المرجع الديني الفقيد الحاج السيد محمد الشيرازي أعلى الله مقامه: 1- كان يعتمد في إستنباطاته اعتمادا كبيرا على القرآن الكريم و أحاديث أهل البيت - عليهم السلام - ... و حيث انه كان حافظا للقرآن الكريم و لكثير من النصوص الدينية، و حيث انه مر – مباحثة و مطالعة و كتابة – على الكثير من الروايات الشريفة إلى درجة إحكامه لمعاريض الروايات و النصوص المقدسة بشكل دقيق، فكان يستفيد من ذلك في إستنباطاته الفقهية، كما يظهر ذلك بوضوح لمن راجع موسوعة (الفقه) و غيرها من كتبه. مثلا: استند في جواز (التسعير) إلى حديث الإمام أمير المؤمنين - عليه السلام - في نهج البلاغة مضافا إلى قاعدة (لا ضرر) و غير ذلك من الأدلة (راجع: الفقه السياسة. و الفقه الإقتصاد). 2- باعتبار إلمامه بالتاريخ و مروره المكرر على تاريخ الرسول الأعظم – صلى الله عليه و آله – و الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) كان يستند في الفقه كثيرا إلى سيرة المعصومين عليهم السلام و يستفيد من ذلك في استنباطاته الفقهية. راجع مثلا: نظره (قدس سره) في التعامل مع غير أهل الكتاب (الفقه الجهاد). 3- في الوقت الذي كان يهتم برأي (المشهور من الفقهاء العظام) - قدس الله اسرارهم-.. إلا أن الشهرة كانت دليلا من الأدلة عنده.. و من الواضح ان من الممكن أن يتعارض الدليل مع دليل مكافئ او اقوى منه.. فكان إذا عارض الشهرة دليل أقوى: يأخذ بالدليل الأقوى.. و ربما كان يحتاط. مثال ذلك: إن نظره العلمي كان أن الملاك (القوة الشرائية) لا (حجم النقد) – كما يظهر ذلك لمن راجع موسوعة الفقه – و لكن حيث أن ذلك كان مخالفا لنظر المشهور كان يحتاط بالصلح – كما يظهر ذلك لمن راجع فتاواه - . س8: حصر البعض وظائف المرجع في الإفتاء و القضاء، فهل يرى سماحتكم أن وظائف المرجع تشمل الشأن الثقافي و الفكري؟ المرجع نائب النبي و الإمام المعصوم - عليهم السلام – و قد تصدى النبي و أهل البيت - عليهم السلام – لتوجيه الامة ثقافيا و فكريا و في غير ذلك من المجالات.. فينبغي أن يتأسى بهم نوابهم. هذا مضافا إلى أن الثقافة هي الموجهة للأمة فينبغي أن تقع في حوزة اهتمام المرجع، باعتبار كون ذلك من مصاديق (الأمر بالمعروف) و (النهي عن المنكر) و (إرشاد الجاهل) و (تنبيه الغافل) و غير ذلك من العناوين التي ذكرها الفقهاء العظام. س9: كان السيد الراحل يرى من جهة شرعية نظرية شورى الفقهاء، و قد رأى البعض نظرية المرجعية الصالحة و الرشيدة، ما هو رأيكم في ذلك؟ نظرية (شورى الفقهاء) لها مستنداتها الشرعية و الموضوعية. أما المستندات الشرعية فجملة من النصوص الدينية مثل قوله تعالى: (و أمرهم شورى بينهم) و غير ذلك من الآيات الكريمة و الروايات الشريفة. هذا مضافا إلى أن ولاية المجتهد إنما تقع في إطار حوزته التقليدية و لا ولاية له في خارج ذلك الإطار، فلا ولاية له على المجتهدين الآخرين، كما لا ولاية له على أتباع المرجعيات الأخرى.. كما ذكر الفقهاء العظام ذلك في كتاب البيع.. فكيف يمكنه أن يفرض قرارا عاما يرتبط بمجموع الأمة و تنعكس آثاره على جميع الأمة دون أن يشترك في اتخاذ هذا القرار سائر الفقهاء. و أما المستندات الموضوعية فمنها: إن هذا العصر الذي نعيشه هو عصر التجمعات الكبرى.. فإذا أردنا أن نكون في مستوى التحدي فلابد من اجتماع المراجع كي يشكلوا قوة كبيرة تستطيع الوقوف في وجه التحدي العالمي، بل و التفوق عليه. و قد فصل السيد الفقيد (رضوان الله تعالى عليه) ذلك في كتبه الفقهية المختلفة. |