كتاب انفجار سبتمبرلابراهيم نافع

أحداث‏11‏ سبتمبر وضرورة عولمة العولمة

توقع الاقتصاديون في مؤسسة جولدمان ساكس أن ينخفض الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي بمقدار‏3,5%‏ سنويا في الربع الأخير من‏2001,‏ وبمقدار‏1%‏ سنويا أخري في الربع الأول من عام‏2002.‏ وتضيف الإيكونومست أنه علي الرغم من انهيار الإنفاق الرأسمالي‏,‏ إذ انخفض بمقدار‏12%‏ محسوبا علي أساس سنوي في الربع الثالث من‏2001,‏ فان القدرات الإنتاجية الزائدة علي الحاجة في الشركات لاتزال كبيرة كما أنها تعاني من فجوات تمويلية‏.‏ أما بنك الاحتياطي الفيدرالي‏(‏ البنك المركزي الأمريكي‏),‏ فقد خفض سعر الفائدة قصير الأجل منذ يناير‏2001‏ بمقدار‏4,5%(‏ تم تخفيض أسعار الفائدة‏10‏ مرات هذا العام وينتظر تخفيضه مرة أخرى‏).‏ وإذا قيست أسعار الفائدة الحقيقية في ضوء الرقم القياسي لسعر المستهلك‏,‏ فسوف يتضح أنها سالبة‏.‏

والواقع أن الولايات المتحدة الأمريكية قد تعرضت للحوادث الإرهابية في وقت كان فيه الاقتصاد الأمريكي يمر بمرحلة تباطؤ واضح منذ نهاية العام الماضي‏,‏ وكانت هناك توقعات متزايدة بأن تشهد فترة الربع الأخير من العام الحالي‏(‏ أكتوبر ـ ديسمبر‏)‏ بداية التخلص تدريجيا من هذا التباطؤ‏,‏ تمهيدا لدخول الاقتصاد الأمريكي مرحلة نمو جديدة‏,‏ بدءا من العام المقبل‏,‏ وكان السند الأساسي لهذه التوقعات هو مااتخذه بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي‏,‏ من إجراءات توسعية في السياسة النقدية‏,‏ تمثلت في خفض أسعار الفائدة عدة مرات في عام‏2001,‏ لتبلغ أقل معدل لها منذ سنوات طويلة‏,‏ ومع ذلك فإنه قبل حوادث‏11‏ سبتمبر بأيام قليلة أوضحت البيانات ارتفاع معدل البطالة الأمريكي‏,‏ خلال أغسطس‏,‏ بمقدار‏0,4%‏ مقارنة بشهر يوليو‏,‏ حيث بلغ معدل البطالة أعلي معدل له منذ نحو أربعة أعوام كاملة‏,‏ كما أنه زاد بمقدار‏1%‏ علي المعدل المسجل في شهر نوفمبر من عام‏2000.‏

وكانت النتيجة الفورية لهذا الارتفاع في معدل البطالة مايشبه الانهيار في مؤشرات أداء بورصة وول ستريت الأمريكية‏,‏ حيث إن ارتفاع معدل البطالة يعني المزيد من تدهور الاقتصاد‏,‏ وتوقع زيادة الانخفاض في إنفاق المستهلكين‏,‏ وخفض معدلات الإنفاق الاستثماري‏,‏ مما يدفع نحو المزيد من التباطؤ في النشاط الاقتصادي‏.‏ إذ يبلغ إنفاق المستهلكين الأمريكيين نحو‏65%‏ من حجم الناتج المحلي الأمريكي‏,‏ مما يتيح له أن يمارس دورا كبيرا علي معدلات نمو الاقتصاد‏,‏ ولهذا السبب نجد أن مؤشر ثقة المستهلك‏,‏ والذي يجري قياسه شهريا‏,‏ ويعد من أهم المؤشرات التي تعطي توقعا جيدا عن الأداء الاقتصادي الأمريكي في المستقبل القريب‏,‏ قد بدأ يتهاوي مثلما أعلنت عدة هيئات اقتصادية‏.‏

لقد كان الاقتصاد الأمريكي يمر‏,‏ منذ الربع الأخير من عام‏2000,‏ بمرحلة من التباطؤ الاقتصادي لم يشهدها منذ أمد طويل نسبيا‏.‏ فمعدل النمو في النصف الأول من عام‏2001‏ لم يزد سوي بمقدار طفيف للغاية‏,‏ علي الرغم من محاولات إنعاش الاقتصاد عن طريق السياسة النقدية التوسعية التي حاولت حث الطلب الاستهلاكي والاستثماري علي التوسع‏,‏ وهو ماقد يعيد الاقتصاد إلي نمو معتدل نسبيا‏,‏ تمهيدا لأن يتحول إلي تسجيل معدلات نمو أكثر ارتفاعا في عام‏2002,‏ كما كانوا يأملون‏,‏ لكن بيانات البطالة الأخيرة أظهرت أن مااتخذ من إجراءات لم يكن كافيا للتغلب علي العوامل التي تدفع الاقتصاد نحو الركود‏.‏

وبالطبع فانه مع وقوع الأعمال الإرهابية التي تعرضت لها كل من نيويورك وواشنطن‏,‏ تأكد الجميع من أن حالة الاقتصاد ستتدهور أكثر فأكثر‏,‏ ومن أن الركود أصبح أمرا واقعا‏,‏ وربما كان الخلاف يدور فقط حول مدي عمق هذا الركود‏,‏ والفترة التي يمكن أن يستغرقها‏,‏ إذ كان البعض يري أن الأحداث لن تكون لها آثار اقتصادية طويلة المدي‏,‏ وأن قوة دفع الاقتصاد الأمريكي‏,‏ ستعمل علي التخلص من هذه الأزمة بسرعة‏,‏ بل ربما تعمل زيادة الإنفاق العام المرتبطة بالتعويضات التي ستدفع وإعادة تعمير ماترتب علي عمليات التفجير من دمار‏,‏ بالإضافة إلي الإنفاق العسكري‏,‏ علي إنعاش الاقتصاد‏,‏ لكن الحقائق الصلبة في الأسواق حاليا جاءت لتبين خطأ هذه التقديرات‏.‏ والتوقعات السائدة الآن هي أن معدل نمو الاقتصاد الأمريكي تراجع عام‏2001‏ إلي مالايتجاوز‏1,6%‏ بعد أن حقق معدلات نمو تزيد علي‏4%‏ سنويا خلال الأعوام الثلاثة‏1997‏ و‏1998‏ و‏1999,‏ ارتفعت إلي نمو يقدر في المتوسط بمقدار‏5%‏ خلال عام‏2000,‏ ولم يحقق الاقتصاد الأمريكي نموا بهذه السرعة منذ عام‏1984‏ حيث كان قد مر قبله بحالة ركود في السنوات الأولي من الثمانينيات‏.‏

‏*‏ التداعيات العالمية

لابد من أن نتذكر في هذا الشأن‏,‏ أن أمريكا هي بالفعل قاطرة الاقتصاد العالمي‏,‏ إذ يبلغ حجم الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي ـ كما سبق أن قلنا ـ مايزيد علي‏10‏ تريليونات دولار‏,‏ أو مايزيد علي‏28%‏ من حجم الناتج الإجمالي العالمي‏.‏ وعلاوة علي ذلك فان الولايات المتحدة هي أكبر بلد مستورد في العالم‏,‏ كما أن السوق الأمريكية تعد الأكثر انفتاحا علي العالم مقارنة بدول العالم المتقدمة الأخري‏.‏ وعلي الرغم من حجم وأهمية اقتصادات أخري مثل أوروبا الموحدة أو اليابان‏,‏ فإنها هي الأخري كانت تمر بمرحلة تباطؤ في النشاط الاقتصادي‏,‏ أو ركود خلال السنوات القليلة الماضية‏.‏ وقد أدي ذلك إلي قيام الاقتصاد الأمريكي بدور القائد والموجه للاقتصاد العالمي خلال الأعوام الأخيرة‏,‏ بشكل شبه منفرد‏,‏ خاصة في ظل عدد من الأزمات الدولية مثل الأزمة الآسيوية والروسية والبرازيلية‏,‏ حيث كان انفتاح الاقتصاد الأمريكي وكبر حجم السوق من أهم الأسباب التي يذكرها المحللون الاقتصاديون التي ساعدت علي الخروج بسرعة من هذه الأزمات‏,‏ وعدم تحولها إلي أزمات عالمية كبري‏,‏ لكن أحداث سبتمبر الأخيرة تؤذن بأن دور القاطرة الأمريكية ربما يكون قد وصل إلي نهايته‏,‏ مما سيفرض علي جميع دول العالم ضرورة اتخاذ سياسات صعبة حتي يمكن الخروج من هذا الركود بأقل خسائر ممكنة وفي مدي زمني مناسب‏.‏

وعلي عكس كل التوقعات السابقة‏,‏ عاد المحللون الاقتصاديون يؤكدون أن كسادا عالميا كان قد بدأ قبل أحداث سبتمبر‏,‏ وأن هذه الأحداث قد فاقمته‏.‏ وتؤكد الإيكونومست أن من أحلام اليقظة أن نأمل في أن يسفر انفجار أكبر الفقاعات المالية في التاريخ مقترنا بآثار مابعد صدمة هجوم‏11‏ سبتمبر‏,‏ عن كساد معتدل‏.‏ ويري البعض أن أمريكا ستتبع اليابان في ركودها الذي استمر عقدا من الزمان حتي الآن‏,‏ وأن هناك مبررات قوية للاعتقاد بأن الركود الأمريكي سيكون أعمق وأطول أجلا منه في أماكن أخري‏,‏ أولها يتمثل في عطل الطاقة الإنتاجية الزائدة نتيجة الحجم المطلق للاستثمارات والاقتراض في التسعينيات‏,‏ والثاني هو تزامن الهبوط الاقتصادي العالمي‏,‏ مع أفول الاقتصادات في شتي أنحاء العالم معا‏,‏ وأنه من المتوقع أن يعاني الاقتصاد العالمي ككل أعمق هبوط منذ ثلاثينيات القرن العشرين‏,‏ وهو مايزيد بدوره من احتمالات الكساد الأعمق في أمريكا‏.‏

كذلك يتخوف بعض المحللين من أن يؤدي تخفيف ضوابط السياسات النقدية والمالية‏,‏ إلي تصاعد التضخم‏,‏ برغم أن البعض يري أن الخطر قد يتمثل في الوضع العكسي‏,‏ وأنه نتيجة للتباطؤ الاقتصادي الحالي‏,‏ أصبح فائض الطاقة الإنتاجية هو الأكبر منذ ثلاثينيات القرن العشرين‏.‏ ويترتب علي ذلك أن النمو في اقتصادات مجموعة السبعة سيكون أقل بصورة صارخة من حيث القيم المطلقة‏.‏ ويعني النمو المتباطيء في الناتج المحلي الإجمالي أن الأمر سيستغرق طويلا للتخلص من الديون وفائض الطاقة الإنتاجية‏.‏ وحتي مع نجاح سياسات خفض التضخم‏,‏ فإن ذلك سيعتصر الأرباح ويفاقم مشكلات الديون ويفرض قيودا علي النظم المالية‏.‏

والآمال ليست كبيرة بالنسبة للاقتصادات الناهضة في أمريكا اللاتينية وآسيا التي تعاني الكساد حاليا‏,‏ علي الرغم من أن الحكومات الآسيوية تستخدم أدواتها المالية والضريبية بنشاط أكبر لدعم اقتصاداتها‏.(‏ أعلنت حكومة سنغافورة خفضا في الضرائب وزيادة الإنفاق العام بما يساوي‏7%‏ من الناتج المحلي الإجمالي‏).‏

لكن كثيرا من دول أمريكا اللاتينية التي تعتمد اعتمادا كبيرا علي رأس المال الأجنبي‏,‏ خاصة الأرجنتين‏,‏ يتعين عليها حاليا أن تزيد سعر الفائدة وأن تحكم السياسة المالية‏.‏

وعلي الرغم من أن هورست كوهلر مدير صندوق النقد الدولي يري أن هناك مبررات قوية لتوقع أن يكون التدهور الحالي ـ بعد سبتمبر ـ في الظروف الاقتصادية العالمية‏,‏ قصير الأجل نسبيا‏,‏ إلا أنه أكد أن هناك احتمالا لايمكن تجاهله لحدوث نتائج أسوأ‏,‏ قد تتضمن انخفاض النمو الاقتصادي‏,‏ وزيادة مصاعب التمويل بالنسبة لكثير من البلدان النامية‏.‏ وأضاف أنه حتي قبل هجمات سبتمبر‏,‏ كان الاقتصاد يشهد اتجاها واضحا للهبوط في جميع الأقاليم الرئيسية في العالم‏,‏ وأن الأمر سيزداد تفاقما بعد هذه الهجمات‏,‏ خاصة في الولايات المتحدة بل في أماكن أخري في العالم‏.‏ وأكد أن موقف الأسواق الناشئة والبلدان النامية غدا أكثر صعوبة مع تقلص فرص الوصول للأسواق المالية العالمية والتدهور الأعمق في الطلب علي السلع وأسعارها‏,‏ إضافة إلي مافرضته الشواغل الأمنية بعد الهجمات من زيادة في تكاليف النقل الجوي وانخفاض في حركة السفر للسياحة وارتفاع في أسعار وتكاليف نقل السلع‏.‏

وقد أوضح كوهلر أيضا أن الضعف الإضافي الذي سينتاب الاقتصاد الأمريكي من جراء الهجمات سيؤثر بصورة ملحوظة في بلدان أمريكا اللاتينية والكاريبي والمقاصد السياحية في جميع أنحاء العالم‏,‏ وأن البلدان المدينة ذات الأسواق الناشئة ستتأثر من جراء عزوف المستثمرين الدوليين عن المخاطرة‏,‏ وسوف تشعر الاقتصادات الآسيوية الناشئة بأثر انخفاض الطلب في البلدان الصناعية‏.‏ كما أن انخفاض الطلب علي السلع الأولية وأسعارها‏,‏ سيجعل الصورة أشد قتامة بالنسبة لمنتجي المواد الأولية‏.‏

وقد حذر بنك التنمية الآسيوي من احتمالات تراجع النمو الاقتصادي العالمي إلي مستويات قريبة من تلك التي كانت سائدة في أثناء الأزمة المالية الآسيوية‏,‏ عقب الهجمات الإرهابية التي وقعت في الولايات المتحدة‏.‏

وقال البنك ـ في بيان له ـ إن الاعتداءات ستساعد علي إطالة فترة التراجع الاقتصادي في آسيا لمدة‏6‏ أشهر علي الأقل مع توقع عدم انتعاش الاقتصاد قبل حلول العام المقبل‏.‏ وأوضح البنك أن النمو الاقتصادي العالمي في عام‏2001‏ قد تراجع إلي‏2,2%‏ وهي النسبة التي وصل إليها الاقتصاد العالمي عام‏1998‏ في ذروة الأزمة الآسيوية‏,‏ وأشار إلي أن الفارق الوحيد بين الأزمتين هو أن الدول الصناعية هي سبب التراجع الجديد علي عكس الأزمة الآسيوية‏.‏

وقد خفض صندوق النقد الدولي توقعاته السابقة عن نمو الاقتصاد العالمي في عام‏2002‏ من جراء أحداث‏11‏ سبتمبر‏.‏ وجاءت تقديراته للنمو الأمريكي المتوقع في عام‏2002‏ بكامله متواضعة حيث لم يتعد‏0.7%,‏ وهو مايمثل أسوأ أداء منذ الركود الأخير في‏1991.‏

وكان الصندوق قد توقع‏,‏ في أكتوبر‏2001,‏ أن يشهد الاقتصاد الأمريكي في‏2002‏ توسعا يبلغ معدله‏2,2%.‏

كما جاءت توقعات الصندوق بالنسبة لليابان‏,‏ ثاني أكبر اقتصاد في العالم‏,‏ هزيلة بدرجة لافتة للنظر‏,‏ حيث من المنتظر أن يعاني الاقتصاد الياباني انكماشا‏,‏ حيث من المتوقع ألا يزيد معدل النمو علي‏1,3%,‏ بعد هبوط في النمو تعرض له عام‏2001‏ ليبلغ معدل النمو‏0,9%.‏

وكان الصندوق قد توقع في أكتوبر‏2001,‏ حدوث هبوط أقل حدة من اليابان‏,‏ حيث كان من المنتظر أن يعاني الاقتصاد في عام‏2001‏ انكماشا قدره‏0,5%,‏ لكنه توقع نموا موجبا يبلغ‏0,2%‏ في عام‏2002.‏

وقلل الصندوق من سقف توقعاته بالنسبة للنمو العالمي خلال عامي‏2001‏ ـ‏2002,‏ ليبلغ‏2,4%,‏ بعد أن خفض كثيرا من تقديراته للنمو المتوقع أن تحققه الاقتصادات الكبري في العالم‏.‏

وصرح المدير العام للصندوق بأن واضعي السياسات يواجهون درجة استثنائية من عدم التيقن‏,‏ في أعقاب الهجمات الإرهابية علي نيويورك‏,‏ وواشنطن‏,‏ وأضاف أن الموقف صعب بجلاء‏,‏ وأعلن أن المعدل البالغ‏2,2%‏ الذي توقع الصندوق أن يحققه النمو العالمي‏,‏ يقل بأكثر من نقطة مئوية كاملة عن تقديرات شهر أكتوبر‏2001.‏

ويقدر الصندوق أن يحقق الاتحاد الأوروبي نموا يبلغ‏1,4%‏ عام‏2001,‏ وهو ما يمثل تراجعا طفيفا عن نسبة الـ‏1,8%‏ لعام‏2001‏ و‏2,2%‏ لعام‏2002‏ التي تضمنتها توقعاته في أكتوبر‏2001.‏

وتبدو تقديرات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية‏,‏ التي تضم الدول الثلاثين الأكبر اقتصاديا في العالم‏,‏ أقل تفاؤلا من تقديرات صندوق النقد الدولي‏,‏ فقد قدرت المنظمة أن النمو الاقتصادي العالمي لن يزيد معدله علي‏1%‏ في عام‏2001,‏ وسيكون في حدود‏1,2%‏ عام‏2002.‏

وبرغم النظرة المتشائمة في تقديرات صندوق النقد الدولي ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية‏,‏ فإن دوائر البيزنس قد توصلت إلي تقديرات أكثر تشاؤما‏,‏ ففي تقرير لكبري شركات الاستثمار الأمريكية مورجان ستانلي دين وينز ورد أن أحداث سبتمبر‏2001‏ وما تلاها قد أدت إلي انتقال الاقتصاد العالمي من مرحلة النمو المتباطيء إلي مرحلة كساد طويل‏,‏ ووصف ستيفن روخ كبير الاقتصاديين في مورجان ستانلي دين وينز ما يمر به الاقتصاد العالمي بأنه أسوأ كساد عالمي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية‏,‏ وأنه سيكون أطول وأعمق من الكساد الذي عرفه العالم في منتصف السبعينيات وحتي أوائل الثمانينيات‏.‏

خسارة العرب

دونما شك‏,‏ كانت المنطقة العربية أكبر الخاسرين سياسيا من أحداث‏11‏ سبتمبر وما تلاها‏,‏ فقد تضررت صورة العرب أفرادا ودولا حاضرا ومستقبلا لأن الإرهابيين المشتبه بهم في حادث الطائرات الانتحارية خرجوا من المنطقة العربية‏.‏وبرغم إعلان الولايات المتحدة أن حربها في أفغانستان‏,‏ ليست حربا بين الغرب والإسلام‏,‏ فإن اليمين المحافظ الأمريكي أحيا مقولة صموئيل هنتنجتون الدعائية حول صدام الحضارات ليصور الحرب وكأنها صدام بين الحضارة الغربية والحضارة العربية الإسلامية‏,‏ وسعي إلي مد نطاق الحرب لتشمل دولا عربية مثل العراق دونما دليل علي تورط أي دولة عربية في هجوم الطائرات الانتحارية في‏11‏ سبتمبر‏.‏ كما خسر العرب سياسيا علي صعيد القضية الفلسطينية‏,‏ حيث استغلت إسرائيل انشغال العالم في الحرب ضد الإرهاب‏,‏ ذريعة لمواصلة حربها ضد الفلسطينيين وتصفية السلطة الوطنية الفلسطينية وإجهاض اتفاق أوسلو‏,‏ ولم تكن خسارة العرب سياسية فقط‏,‏ بل كانت اقتصادية أيضا‏,‏ فالاقتصادات العربية التي لم تجن من مغانم العولمة إلا قليلا بسبب بطء اندراجها في موكبها‏,‏ تحملت نصيبا كبيرا من مغارم العولمة بعد أحداث سبتمبر بسبب اعتمادها علي الاقتصادات الغربية المتقدمة‏.‏

وقد أكدت تقديرات اللجنة الاقتصادية لغرب آسيا التابعة للأمم المتحدة‏,‏ أن أحداث‏11‏ سبتمبر‏2001,‏ أدت إلي انخفاض معدل النمو في المملكة العربية السعودية من‏4,5%‏ عام‏2000‏ إلي‏2,5%‏ عام‏2001,‏ وإلي‏1,8%‏ عام‏2002,‏ وفي الكويت من‏4%‏ إلي‏1,7%‏ إلي‏1,5%,‏ وفي الإمارات من‏6,5%‏ إلي‏3,5%‏ إلي‏2,5%,‏ وفي عمان من‏4,6%‏ إلي‏3,5%‏ إلي‏2%,‏ وفي مصر من‏5,5%‏ إلي‏3,5%‏ إلي‏3%‏ علي التوالي‏.‏

كما شهدت أسواق الأسهم العربية انخفاضا كبيرا بعد أحداث سبتمبر وحتي نهاية عام‏2001,‏ بنسبة‏20,8%‏ في مصر‏,‏ و‏9.3%‏ في السعودية‏,‏ و‏11%‏ في عمان‏,6,69%‏ في المغرب‏,‏ و‏3,16%‏ في لبنان‏,‏ و‏5,81%‏ في الكويت‏,‏ و‏4,11%‏ في البحرين‏.‏ وقد كان قطاع البترول من أكثر القطاعات الاقتصادية العربية تضررا‏.‏ فقد تراجع الطلب العالمي علي البترول بسبب تراجع معدلات النمو الاقتصادي والتأثيرات السلبية لأحداث سبتمبر علي حركة السياحة والطيران‏.‏ ولذلك تراجع متوسط سعر برميل البترول من‏27,6‏ دولار عام‏2000‏ إلي‏22‏ دولارا عام‏2001,‏ بانخفاض يزيد علي نسبة‏20%,‏ الأمر الذي أدي إلي انخفاض عائدات البترول في الدول العربية بحوالي‏23%.‏

كما تراجعت حركة السفر جوا من وإلي المنطقة العربية بنسبة‏35%‏ بعد أحداث سبتمبر‏2001,‏ وقامت شركات الطيران العالمية بإلغاء بعض الخطوط وتقليص عدد الرحلات علي خطوط أخري‏.‏ وقدرت منظمة الطيران العربية خسائر شركات الطيران العربية بما يزيد علي‏10‏ مليارات دولار بنهاية عام‏2001,‏ كما انخفضت إشغالات الفنادق في المنطقة العربية بنسب تتراوح بين‏30%‏ و‏70%‏ لينخفض دخل السياحة في المنطقة بنحو‏10‏ مليارات دولار‏.‏

وتأثرت ـ كذلك ـ بأحداث‏11‏ سبتمبر تدفقات الاستثمار إلي المنطقة العربية تأثرا سلبيا‏,‏ وطبقا لتقديرات مؤسسة التمويل الدولية‏,‏ فقد انخفضت تدفقات رؤوس الأموال الخاصة إلي الأسواق الناشئة في العالم من‏166‏ مليار دولار عام‏2000‏ إلي‏106‏ مليارات دولار عام‏2001,‏ وتبعا لذلك انخفضت تدفقات الاستثمارات الخارجية المباشرة إلي المنطقة العربية من‏4,6‏ مليار دولار عام‏2000‏ إلي‏3,5‏ مليار دولار عام‏2001,‏ كما تأثرت الاستثمارات العربية في الخارج والتي تقدر بحوالي‏800‏ مليار دولار‏,‏ بالكساد في الدول الصناعية المتقدمة‏,‏ خصوصا في الولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية‏,‏ بالإضافة إلي أن تلك الاستثمارات أصبحت مهددة بمخاطر التجميد في إطار الحملة الدولية ضد الإرهاب التي تطول مؤسسات وأفرادا لمجرد الاشتباه دون دليل أكيد‏,‏ ولا يعول كثيرا علي عودة جانب كبير من الأموال العربية في الخارج إلي المنطقة العربية التي قد تشهد حالة من عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي إذا وصلت الحملة إلي أراضيها‏.‏

خاتمة

كما سلف القول‏,‏ يتفق كثيرون علي أن عالم ما قبل‏11‏ سبتمبر‏2001,‏ ليس هو بأي حال عالم ما بعد هذا التاريخ‏,‏ وأن الخسائر المباشرة مهما علت‏,‏ تبدو شاحبة وعديمة الشأن بالمقارنة بالنتائج غير المباشرة لما حدث في ذلك اليوم المشهود‏..‏ ذلك أنه مثلما تهاوي في لمح البصر برجا مركز التجارة العالمي وكأنهما من ورق‏,‏ بدأت تتهاوي مسلمات كثيرة‏,‏ كانت تحكم معتقدات وأفكار الناس والحكومات والأمم‏,‏ ولن تتبدي الآثار الكاملة لمرواجعة كل الأحكام التي كانت تحكم عالم ما قبل يوم الدينونة وعرض الطائرات الدامي والمثير‏,‏ إلا بعد أن ينقشع تماما غبار البرجين‏,‏ وعواصف المعارك العسكرية التي اكتسحت أفغانستان انتقاما لما حدث‏.‏

صحيح أن العالم كله ساير رد الفعل الأمريكي أو لم يعترض عليه‏,‏ تعاطفا حقيقيا أو خوفا من ثورة الغضب الأمريكي‏,‏ أو دفعا للاتهام أو عجزا عن التصدي‏,‏ لكن سيبدأ الجميع‏,‏ آجلا أو عاجلا‏,‏ في إعادة حساباتهم وجمع وطرح مكاسبهم وخسائرهم‏,‏ وإعادة النظر في كل سياساتهم في ضوء الدروس المستفادة من ذلك اليوم‏.‏

والواقع أن الولايات المتحدة لم تهنأ كثيرا بوضع القطب الواحد صاحب الأمر والحق في الطاعة من الجميع‏,‏ ولم تكمل هيمنتها بعد اندحار السوفيت‏,‏ ومن لف لفهم ولم يمر عليها عقد من الزمان‏,‏ إلا وتعرضت لقدر من المهانة ستتضاعف تداعياته علي مر الزمن‏.‏

والمتوقع ان إذعان الدول المتقدمة للدور الأمريكي‏,‏ لن يعود بنفس قوته‏,‏ فالجميع سيحسبون ماذا سيكسبون‏,‏ وماذا سيخسرون‏,‏ في ضوء ما أثبته يوم‏11‏ سبتمبر من أن الدولة العظمي الوحيدة معرضة للمعاناة هي أيضا‏.‏

وقد أكد هورست كوهلر مدير صندوق النقد الدولي في بيان له أمام المجلس التنفيذي للصندوق أنه في أعقاب هجمات‏11‏ سبتمبر‏,‏ وما اعتري الاقتصاد الأمريكي من ضعف‏,‏ يتعين علي المجتمع الدولي أن يتضافر لقيادة نهج منسق لمواجهة الموقف الدولي المتدهور‏,‏ مما يعني أنه لم يعد يؤمن بدور القاطرة الأمريكية المحركة‏.‏

خلاصة القول أن استسلام الكبار للدور الأمريكي‏,‏ لن يعود كسابق عهده‏.‏

أما دول العالم الثالث‏,‏ فيتعين عليها أن تسعي لتحقيق مزيد من حرية الإرادة دون مناطحة أو مزايدة‏,‏ وفي ضوء احترام الأوزان النسبية لكل الأطراف‏.‏

إذا كانت تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر لحظات فاصلة بين عالم ما قبلها وعالم ما بعدها‏,‏ كما كتبت مرارا‏,‏ فإن قدرة هذه التفجيرات علي التأثير في التاريخ المعاصر للمجتمع الدولي ترتبط باستجابة المجتمع الأمريكي قبل أي مجتمع آخر لمعني ومغزي هذه الأحداث‏,‏ ووسط الضجيج السياسي والعسكري في الولايات المتحدة‏,‏ تظهر مؤشرات علي أن التغيير قد بدأ في دوائر أخري غير سياسية وغير عسكرية‏.‏

وقد لمحت في الاستطلاع الذي بثته شبكة‏ABC‏ الأمريكية لآراء عدد من أبرز الكتاب والمفكرين الأمريكيين حول ما حدث في الحادي عشرمن سبتمبر‏,‏ إشارات إلي أن تغيرا يجتاح العقل الأمريكي‏,‏ فأحد الروائيين الأمريكيين يقول إن تأثيرات إيجابية علي الحياة الأمريكية تطل من بين حطام الأبراج الضخمة في نيويورك‏,‏ وهي تأثيرات تدفع الأمريكيين إلي إعادة التفكير في المشاعر والدوافع ومراجعة الحسابات وأوراق التاريخ‏,‏ لقد اكتشفنا أننا نعرف جيدا كيف يمكن أن يصبح الفرد منا طبيبا أو مهندسا أو محاميا ناجحا‏,‏ ولكننا لم نعرف كيف يصبح الإنسان منا إنسانا‏,‏ فمن بين الأنقاض تنطلق روح جديدة تحوم علي المدينة الحزينة تجعل الناس أكثر لطفا‏,‏ وأكثر قدرة علي التعامل الإنساني مع الآخرين‏.‏

وهذا مؤرخ أمريكي بارز يقول‏:‏ إننا علي مدي الأعوام العشرة الماضية‏,‏ ومنذ انتهاء الحرب الباردة‏,‏ أقمنا حفلا صاخبا سيطر علينا فيه المرح واستغرقنا وقتا طويلا في متابعة تفاصيل الحياة الخاصة للرئيس‏,‏ وخضعنا للوهم‏,‏ فأغفلنا أننا بسياساتنا أوجدنا أعداء كثيرين‏,‏ لقد اعتدنا أن نكون القوة الرئيسية في العالم وأن نحارب بدون ضحايا مستندين إلي قوتنا التكنولوجية‏ المخيفة‏,‏ وجاءنا التحدي فجأة من حفنة من البشر لايشكلون أمة ويسكنون الجبال بلا منازل‏.‏

وتكشف التطورات الأخيرة ــ أيضا ــ عن مظاهر عامة جديدة بدأت تظهر في المجتمع الأمريكي‏.‏ فكثيرون قد تخلوا عن الاهتمام بالصحف الصفراء ومتابعة أخبار النجوم‏,‏ وعدم الاهتمام بالشئون السياسية وتجاهل العالم الذي تعيش شعوبه خارج الأراضي الأمريكية وحل محل كل ذلك شعور جديد وإدراك جديد للتطورات التي تتداعي خارج أمريكا‏.‏

برغم أنه لايمكن التراجع عن العولمة‏,‏ وهو ما أكده اجتماع الدوحة لمنظمة التجارة العالمية‏,‏ فإن اعادة تصميمها باتت قضية ملحة‏.‏ ومما يبشر بالخير أنه رغم أحداث سبتمبر‏,‏ والجمرة الخبيثة‏,‏ والحرب في أفغانستان‏,‏ والخوف من هجمات ارهابية جديدة‏,‏ أو مظاهرات مضادة علي غرار مظاهرات سياتل‏,‏ وجنيف وبراج‏,‏ وجنوا‏,‏ فإن الدول الصناعية الكبري‏,‏ أصرت علي عقد المؤتمر في موعده‏,‏ دون تغيير يذكر في جدول أعماله‏,‏ برغم حادث إطلاق النار علي قاعدة أمريكية‏,‏ قبل انعقاد المؤتمر بيومين‏,‏ والمعني واضح هو أن الهجمات الإرهابية لايجوز لها أن تؤثر في الاقتصاد الحر‏,‏ وحرية التجارة‏,‏ وتدفق رؤوس الأموال‏,‏ وتأكيد أن العولمة قائمة‏,‏ حتي وإن استفادت منها الجماعات المناوئة لها‏.‏

ولقد جاء انعقاد المؤتمر في منعطف انساني لم يسبق للبشرية أن صادفته‏,‏ حتي في الحربين العالميتين الأولي والثانية‏,‏ ولا في أزمة الخليج الثانية‏,‏ ولا حتي في مظاهرات الغاضبين من منظمة التجارة العالمية في الأعوام السابقة‏,‏ فهو يأتي في ظل تداخل إرهاب معولم‏,‏ مع اقتصاد معولم أيضا‏.‏

ولتجاوز فشل مؤتمر سياتل أبدت الدول الغنية تفهما في مؤتمر الدوحة لاوضاع الدول الفقيرة‏,‏ فجاءت المناقشات أكثر مرونة‏,‏ خاصة من دول الاتحاد الأوروبي‏,‏ وعلي رأسها فرنسا‏.‏

واللحاق بقطار العولمة التي يتعين اعادة تشكيلها‏,‏ مادام لامفر منه‏,‏ جعل الصين العضو رقم‏143‏ في منظمة التجارة العالمية‏,‏ وهي سادس أكبر دولة في العالم من حيث ناتجها المحلي الإجمالي‏,‏ الذي يتجاوز‏450‏ مليار دولار‏,‏ وبذلك سبقت الصين روسيا الدولة الثانية في العالم من حيث التسليح‏,‏ في دخول معترك العولمة ولاتفوتنا ــ هنا ــ الإشارة إلي أن دخول الصين يعني أن تتخلي عن أيديولوجيتها الاقتصادية قليلا‏,‏ لأن العولمة أمر واقع‏,‏ ومن يختار العزلة عن العالم سوف يخسر اقتصاديا وحتي سياسيا‏.‏

وإذا أرادت الدول الكبري ــ وتحديدا إذا أرادت الولايات المتحدة ــ أن تطور العولمة‏,‏ لتصبح أكثر عدالة‏,‏ فعليها أن تأخذ في الحسبان تفاعلات شعوب العالم الثالث‏,‏ حتي لاتصبح العولمة ذات اتجاه واحد‏,‏ يأتي من الغرب المتقدم إلي بقية دول العالم‏,‏ فيواجه بالرفض والعنف‏,‏ وهو أمر يجد مبرره لدي قطاع عريض في العالم الثالث‏,‏ وداخل أوروبا نفسها‏,‏ بسبب غياب العدالة الدولية‏.‏ وهذا لن يكون مجرد عمل خيري‏,‏ بل انه يتفق مع المصالح الاقتصادية طويلة الأجل للغرب وللولايات المتحدة في الأساس‏,‏ لأن الصعود الجماعي هو الذي يدرأ عنهما مخاطر الانتكاس والتقلبات الوردية‏.‏

‏*‏ العولمة والعالم الثالث‏:‏

ليس من المبالغة القول بأن أضرار‏11‏ سبتمبر كانت أقسي علي العالم الثالث منها علي أمريكا نفسها‏,‏ فالعالم النامي يعاني بالفعل

متاعب كبيرة فاقمها ما حدث‏,‏ دون أن تتوافر له القدرة علي التغلب علي النتائج‏.‏ ومن ثم فإن أحداث هذا اليوم‏,‏ أبرزت حاجة العالم الثالث إلي نوع جديد من العولمة‏.‏

منذ أن بدأت دول الجنوب أو ماتسمي بدول العالم الثالث النامية في الحصول علي استقلالها بعد الحرب العالمية الثانية‏,‏ والهاجس الرئيسي الذي يشغل جميع الأذهان في هذه الدول هو‏:‏ كيف يمكن تحقيق التنمية؟‏.‏ وبعبارة أخري فإن التساؤل هو‏:‏ كيف يمكن لهذه الشعوب التي تحررت من ربقة الاستعمار أن تتحرر من ربقة التخلف والجهل‏,‏ الذي ران علي صدورها عقودا‏,‏ بل قرونا طويلة من الزمن؟

وهذا التساؤل يعني أن هذه الشعوب كانت‏,‏ ولاتزال‏,‏ تدرك أن التخلص من الاستعمار والحصول علي الاستقلال‏,‏ لا يكفي لتتحول حياة الشعوب من فقر إلي غني‏,‏ ومن تخلف إلي تقدم وإنما لابد من إنجاز بشري هائل يعيد بناء هذه الدول‏,‏ ويعيد تأسيس مجتمعاتها‏,‏ عبر ابتكار أساليب رشيدة وعصرية لتنمية الموارد وزيادة الإنتاج‏,‏ وتحسين الخدمات‏,‏ والارتقاء بالثقافة‏,‏ وبشروط الحياة الاجتماعية والروحية للانسان‏.‏

ولابد من الاعتراف بأن ماتم انجازه في العالم الثالث بشأن التنمية والتقدم‏,‏ يعد ضئيلا بالقياس إلي فترة الاستقلال التي تقترب من نصف قرن‏,‏ ويعد هامشيا إذا ماقورن بالقفزات الهائلة والمتسارعة التي يتحرك بها العالم المتقدم‏,‏ مما زاد من حجم اتساع الفجوة بين الشمال والجنوب‏,‏ أو بين الدول الاستعمارية سابقا‏,‏ ومستعمراتها التي حصلت علي استقلالها لاحقا‏.‏ ولا خلاف كذلك حول نتائج وحصيلة عمليات التنمية التي جرت في الكثير من دول العالم الثالث‏,‏ والتي تعد نتائج محدودة وحصيلة غير كافية‏,‏ إذا ماقورنت بحجم الآمال والطموحات والتطلعات التي رافقتها وتعلقت بها‏,‏ فهناك إحساس لاتخطئه العين يسود بين القطاعات الواسعة من شعوب العالم الثالث‏,‏ بأن هناك نوعا من الاحباط وخيبة الأمل‏,‏ من جراء تعثر تجارب التنمية في هذه الدول‏.‏

ولقد لمسنا هذه المشاعر‏,‏ ونحن نتابع أعمال القمة العاشرة لمجموعة الــ‏15‏ بالقاهرة‏,‏ فهناك جامع مشترك يجمع بين كلمات ومداخلات كل الزعماء والقادة الذين تحدثوا أمام القمة‏,‏ هذا الجامع المشترك هو أن كل هؤلاء الزعماء والقادة يحلمون‏,‏ ويأملون‏,‏ ويعملون من أجل انطلاقة أفضل وأكثر نفعا وجدوي لعمليات التنمية من أجل شعوبهم ودولهم‏.‏

الواقع أن دول الجنوب وشعوبها في حاجة إلي استراتيجية سليمة‏,‏ تمكنها من تفادي مخاطر العولمة وتمكنها من الاستفادة مما تحمله من فرص إيجابية‏,‏ والحقيقة أن مصر قد بلورت هذه الاستراتيجية وعبرت عنها وأعلنتها علي المجتمع العالمي‏,‏ في الخطاب المهم الذي ألقاه الرئيس مبارك في منتدي دافوس الذي عقد في سويسرا خلال الفترة من‏29‏ يناير إلي‏2‏ فبراير من عام‏2000,‏ فقد تحدث مبارك عن رؤية دول الجنوب للاوضاع الاقتصادية العالمية‏,‏ مؤكدا أنه ليس من العدالة في شيء أن ينفرد عدد قليل من الدول المتقدمة‏,‏ وعدد أقل من المؤسسات المالية الدولية‏,‏ باتخاذ القرارات المصيرية التي تؤثر علي العالم كله‏,‏ دون أن يجري نوع من الحوار البناء والتفاعل المتكافيء مع الغالبية العظمي من الدول التي يتم تهميشها‏.‏ وهنا وضع مبارك خمس حقائق نظن أنها مازالت وستظل تمثل جوهر الأزمة الاقتصادية العالمية‏.‏

‏**‏ الحقيقة الأولي‏:‏ هي أن أعداد الذين يعانون الفقر في العالم يزدادون بصفة مطردة كل عام‏,‏ علي الرغم من الحديث البراق عن فوائد العولمة‏.**‏ والحقيقة الثانية‏:‏ أن هناك إحساسا متناميا لدي الأسواق الصاعدة في الدول النامية‏,‏ ومنها مصر‏,‏ وكثير من دول العالم الثالث‏,‏ بأن هناك ظلما ملموسا في النظام الاقتصادي العالمي‏,‏ وأن هذا الظلم قد يؤدي إلي نسف المكاسب والنجاحات التنموية التي حققتها الدول النامية خلال سنوات من العمل والعرق والجهد والعناء الطويل‏.‏

‏**‏ والحقيقة الثالثة‏:‏ أن كثرة الحديث عن العولمة كواقع لاتعني استقرار الاقتصاد العالمي‏,‏ بل هناك حالة من الاضطراب في الاسواق العالمية‏,‏ واضطراب مماثل في أداء المؤسسات المالية‏,‏ مما ينعكس بالسلب علي الأسواق الناشئة في الدول النامية‏.‏

‏**‏ والحقيقة الرابعة‏:‏ هي ماتنطوي عليه العولمة الاقتصادية من فوضي ظاهرة للعيان‏,‏ وأبرز دليل علي هذه الفوضي هو انعدام الرقابة علي أسواق المال‏,‏ وغياب التنسيق فيما بينها‏.‏

‏**‏ وآخر هذه الحقائق‏,‏ وأكثرها أهمية‏:‏ هي غياب الحوار الفعال والمنظم بين دول الشمال الغنية‏,‏ ودول الجنوب الفقيرة‏.‏

‏*‏ العرب والعولمة

نحن في الوطن العربي في حاجة شديدة لأن نفكر في المستقبل بعقلية المستقبل‏,‏ وليس بعقلية الماضي ــ خاصة ماضي ما قبل‏11‏ سبتمبر ــ التي لاتزال تسيطر علي طريقة تفكير الكثيرين ممن يشتغلون بساحة العمل العام‏,‏ فالعالم من حولنا يتغير‏,‏ وطرق التفكير تتطور‏,‏ ومصادر القوة تشهد تحولات غير مسبوقة‏,‏ وهناك الكثير من المجتمعات والدول التي تنتمي ــ تقليديا ــ إلي معسكر الجنوب والعالم الثالث‏,‏ بدأت تنفض عن نفسها غبار الفكر التقليدي‏,‏ وبدأت تخترق حواجز التخلف‏,‏ وتقترب شيئا فشيئا من عضوية نادي التقدم والنهضة المعاصرة التي ترتكز علي ثورة المعلومات وتكنولوجيا الاتصال‏,‏ وماتسمح به من فرص الانجاز والتفوق‏.‏

ووفقا لمعايير ثورة المعلومات‏,‏ فإن الوطن العربي مازال علي الاعتاب‏,‏ ولم يستطع حتي اليوم أن يدخل بقوة في غمار هذا التطور الحاسم‏.‏

وبالأرقام‏,‏ فإن عدد أجهزة الكمبيوتر في الوطن العربي يقدر الآن بنحو‏750‏ ألف جهاز كمبيوتر‏,‏ أي مايعادل جهازا واحدا لكل‏333‏ مواطنا عربيا‏,‏ وإذا أردت أن تدرك حجم الفجوة الشاسعة بيننا ــ في العالم العربي ــ وبين العالم المتقدم‏,‏ فعليك أن تعلم أن في الولايات المتحدة الأمريكية جهاز كمبيوتر لكل اثنين من المواطنين‏!‏

وحسبما يذكر الدكتور رأفت رضوان‏,‏ فإن سكان العالم العربي‏,‏ يمثلون‏5%‏ من سكان العالم‏,‏ وعلي الرغم من هذا فإن مايملكونه من أجهزة كمبيوتر يمثل أقل من‏1‏ في المائة مما يملكه العالم‏!‏

وفيما يخص برمجيات الكمبيوتر‏,‏ فلدي العالم العربي قدرات متوافرة ــ خاصة في مصر ــ لتطوير وتعميم البرامج في الدول العربية‏,‏ وعلي الرغم من ذلك‏,‏ لم يتم حتي الآن تحويل هذه القدرات المتوافرة إلي طاقات انتاجية مؤثرة‏.‏ وعلينا‏,‏ في العالم العربي‏,‏ أن ندرك أن صناعة وخدمات الاتصالات‏,‏ هي مصدر هائل لتحقيق الإيرادات التي زادت قيمتها علي تريليون دولار وفقا لإحصاءات عام‏1998,‏ وهذا يعني أن مجال الاتصالات يمثل صناعة مهمة لها تأثير قوي مباشر وغير مباشر علي كل الصناعات والخدمات الأخري‏,‏ وهذا معناه أن مجال الاتصالات يمثل واحدا من المحاور الأساسية للتنمية في الاقتصادات المعاصرة‏.‏

‏*‏ العولمة والعدالة

الحديث عن العولمة‏,‏ والديموقراطية‏,‏ والسوق الحرة‏,‏ لن تكون له قيمة‏,‏ أو مضمون‏,‏ مالم يكن مصحوبا بالحديث عن العدالة‏,‏ والحديث عن نظام اقتصادي دولي عادل‏,‏ يضفي قدرا من المصداقية علي أحاديث العولمة‏,‏ وينقذ العالم مما هو مقبل عليه من تفاوت صارخ يقسم سكان الكرة الأرضية إلي أقلية مترفة أشد الترف‏,‏ وأغلبية فقيرة فقرا صارخا يحط من كرامة الإنسان‏,‏ ويفقد العالم ما يصبو إليه من تعاون وانسجام واستقرار‏.‏

وهذا هو جوهر ما أكده الرئيس مبارك أمام القمة العاشرة لمجموعة الــ‏15,‏ وهو كذلك جوهر الهم العالمي الذي يحمله الكثيرون من الحريصين علي مستقبل البشرية‏,‏ بما في ذلك أصوات إنسانية عاقلة ورصينة داخل العالم الرأسمالي نفسه‏,‏ بل داخل أمريكا وأوروبا الغربية‏,‏ وليست خافية علي أحد دلالات الأحداث الدامية التي انفجرت في سويسرا وعدد من عواصم أوروبا‏,‏ ثم في سياتل الأمريكية‏,‏ حيث ظهرت موجات واسعة من الاحتجاج علي الوجوه السلبية للعولمة‏,‏ التي بدأت تظهر العديد من وجوه قسوتها‏,‏ ولن ينقذ العالم منها سوي أن تتكاتف القوي المخلصة للدعوة إلي تأسيس نظام اقتصادي عالمي عادل‏,‏ لايكون فيه الثراء الفاحش حكرا علي أقلية ضئيلة من رموز الرأسمالية العالمية بشركاتها ومصالحها العابرة للقارات‏,‏ بينما تعيش أغلبية البشرية في عوز وفقر بلا حدود‏.‏

إن العالم الذي تحول إلي قرية صغيرة‏,‏ لن يتهيأ له الاستقرار‏,‏ مالم يكن العدل شريعة دولية ثابتة ومستقرة‏,‏ وحرية الأسواق لاتنطوي ــ بالغريزة ــ علي قيم العدل‏,‏ بل هي ــ بطبيعتها ــ تنطوي علي قيم الأثرة والأنانية والاستحواذ واذ كانت القوي الرأسمالية الغربية بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية تروج لفكرة سوق عالمية حرة واحدة‏,‏ فنحن لانعترض علي ذلك‏,‏ ولكن نعرض شرطا نستمسك به‏,‏ ولانقبل التراجع عنه‏,‏ وهو أن تكون هذه السوق سوقا عالمية حرة وعادلة أيضا في الوقت نفسه‏.‏

ينبغي أن يكون ترشيد العولمة هو نقطة الانطلاق التي علي أساسها نحدد مواقفنا منها‏,‏ باعتدال وبمنهج علمي دون تزيد أو تشنج‏.‏ فلا شك أن العولمة مدت ظلالها علي عالم مابعد الحرب الباردة‏,‏ ولاشك ــ كذلك ــ أن هذه العولمة تنطوي علي ايجابيات ومكاسب وفرص واعدة‏,‏ مثلما تنطوي علي مخاطر وخسائر وتهديدات محتملة‏,‏ خاصة لاقتصادات الدول النامية‏,‏ التي لم يتوافر لها الحد الأدني من الشروط التي تجعلها قادرة علي الابحار في محيط العولمة العاصف‏,‏ أو أن تكون قادرة علي الثبات في لعبة المنافسة الجارية وسط الأمواج الدولية المتلاطمة‏...‏ فها نحن ننظرحولنا في افريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية‏,‏ لنري شعوبا بأكملها يتهددها خطر المجاعة‏,‏ فلا يجد الناس فيها رغيفا من خبز‏,‏ أو كوبا من ماء أو جرعة من دواء أو قطعة من كساء‏,‏ وبذلك يكون من غير المعقول أن نتحدث عن دخول هؤلاء الناس عصر الثورة المعلوماتية‏,‏ أو امتلاك جهاز كمبيوتر‏,‏ أو الاستفادة من شبكة الإنترنت‏,‏ والتفاعل معها‏.‏

لهذا‏,‏ فإن مصر وهي تدرس مخاطر العولمة‏,‏ لاتتحدث عن نفسها فقط‏,‏ وإنما تسعي جاهدة لتكون الضمير الحي الذي يعبر عن مخاوف كل دول الجنوب الفقيرة‏,‏ وشعوبها المغلوبة علي أمرها‏,‏ دون اللجوء إلي صدام حاد بين آمال وآلام الضمير ــ وهي مشروعة ــ وحقائق الواقع الذي صارت إليه العولمة في الوقت الحاضر‏,‏ فالمطلوب هو وضع سياسة عملية حكيمة‏,‏ تقاوم الوجه المتوحش من وجوه العولمة‏,‏ وتدعم الجانب الإيجابي من جوانبها‏.‏

فليس هناك مجال لاتخاذ مواقف حادة ومتطرفة كتلك التي تنادي بالاندماج غير المشروط الذي يصل إلي حد الذوبان في بحر العولمة‏,‏ أوتلك التي تنادي بمقاومتها والانعزال عنها والإصرار علي عدم المشاركة فيها‏.‏ كل من هذين الموقفين‏,‏ قد يختلف في الشكل والمظهر‏,‏ وقد يختلف في المقومات‏,‏ ولكنهما يتفقان في النتائج‏,‏ وهي ــ في كل الأحوال ــ نتائج لن تكون في مصلحة الدول النامية‏,‏ ولن تخدم طموحات شعوب الجنوب الفقيرة والمحتاجة‏.‏

عن الاهرام المصرية

أرشيف الأخبار  |  الصفحة الرئيسية  |  اتصلوا بنا