الليبرالية الجديدة كاختيار ثالث لتطور الرأسمالية في كتاب «ما بعد النيوليبرالية» |
يقدم آلان تورين، المفكر والسوسيولوجي الفرنسي الشهير، قراءة ناقدة للنيوليبرالية المتطرفة وكذلك لنقادها المتطرفين، لأن كلا الطرفين برأيه ينزعان من البشر القدرة على المقاومة بل حتى القدرة على التأثير في مسيرة حياتهم. وهو في المقابل يدعو الى تجديد الايمان بالقدرة الانسانية على الدفاع عن أولوية الانسان وأولوية الحل الاجتماعي مقابل وحشية رأس المال والاقتصاد الفالت والاستسلام لهما بطريقة تشل الارادة. ولكن قبل نقد النيوليبرالية علينا ان نتوقف لبرهة لنفهم ما المقصود بها. النيوليبرالية، أو الليبرالية الجديدة، هي ايديولوجية الرأسمالية الجديدة التي هي خليط السوق الحر اقتصادياً، والديموقراطية التمثيلية سياسياً، والحرية الفردية اجتماعياً. وهي تعتبر أن السوق هو البوصلة الأساسية في تحديد الخيارات البشرية المتاحة لنا الآن، سواء أكانت خيارات اقتصادية أم اجتماعية أم ثقافية، حيث تعطي للسوق الأولية الأولى في قيادة التحولات الكبيرة الراهنة. وهي في الوقت الحاضر تعتبر المضمون الفكري والايديولوجي للعولمة الاقتصادية. الأطروحة الأساسية التي يريدنا تورين أن نؤمن بها هي القدرة الانسانية والاجتماعية الجماعية على السيطرة على المصير البشري، وهذا الايمان يتعرض لاختبار حقيقي بسبب وقوعه بين سندان نظرية السوق النيوليبرالية ومطرقة نظرية «الدولة» وسيطرتها المفترضة على الاقتصاد. فهناك معسكران من المنظرين في سياق الجدل الراهن حول وضع العولمة واتجاهاتها الأساسية في عالم اليوم. المعسكر الأول يتكون من مناصري العولمة المؤمنين بحتميتها الى درجة عمياء بكونها هي الآلية الأهم التي تشكل حاضرنا وستشكل مستقبلنا كذلك، وأنه ليس أمامنا سوى قبول املاءاتها. أما انصار المعسكر الثاني فهم معارضو العولمة والذين يرون فيها شراً مطبقاً وبأنها سوف تعمل على تدمير المجتمعات المحلية وثقافاتها، وأنها عملية طاحنة لا يمكن وقفها. هذان الموقفان يراهما تورين متشابهين رغم أنهما ينطلقان من مربعين متعارضين. ووجه التشابه يكمن في أن كليهما لا يقدمان حلاً أو امكانية حل نواجه به سلبيات العولمة ونعظم من ايجابياتها. بل ان ما نقرأه في الموقفين هو دعوة سلبية الى تسليم مصيرنا كبشر الى آلية الاقتصاد والسوق المعولم والانتظار عما تؤول اليه. ويصف تورين المعسكر الأول بأنه «معسكر الخيار الوحيد» والمعسكر الثاني بأنه «معسكر معارضي الخيار الوحيد». وبين هذين المعسكرين هناك رأي ثالث هو الذي يتبناه تورين ويدعو اليه. وجوهر هذا الموقف يقوم أولاً على ضرورة التسليم بأننا نمر في مرحلة تاريخية وأن العولمة الاقتصادية والنيوليبرالية هما أمران لا مناص عنهما، كتطور تاريخي للرأسمالية، لكن ذلك لا يعني الاستسلام لهما مطلقاً. ثم يعتمد ما يراه «مقاومة ايجابية» التي يقصد بها اعطاء الأولوية للفعل والتصميم على احداث التغيير المطلوب على مداومة التشاكي والتحسر المتشائم الذي لا يقدم حلاً أو خيارات. ويؤسس تورين موقفه على ثلاثة أسس: الأول أن عولمة الاقتصاد لم تشل قدرتنا على الفعل السياسي، والثاني أن فعل الشرائح الأقل حظاً يجب ألا يكون محصوراً بالتمرد ضد السيطرة، بل أيضاً التوجه نحو المطالبة الفاعلة بالحقوق وخاصة الثقافية منها، وبهذا فان ما يتم تقديمه هو خيارات خلاقة وليس فقط نقد سلبي للمجتمع. والثالث هو التأكيد على أن أي شكل مؤسساتي يجب أن يقوم على تحقيق المساواة والتضامن، وأنه من دون وجود هذين العاملين فان مثل هذا النظام يكون مضطهداً وغير فعال. وتنعكس هذه الأسس الثلاثة في كتاب تورين ويتعمق في كل منها. وهو في معالجته لها لا يتوقف عند نقد يمين اليمين الرأسمالي المتحمس للعولمة بلا حدود بل ينقد على قدم المساواة يسار اليسار لتشاؤميته المفرطة وعجزه عن العمل. ورغم أن تورين يعتقد أن مرحلة الانتقال الى أو من خلال النيوليبرالية هي تحصيل حاصل وضرورية على ما فيها من أكلاف وسلبيات، الا أنه يراها أيضاً من منظور مختلف حيث يمكن أن تجسد عملية انتقال وتحول من نمط معين من أنماط السيطرة الاجتماعية على الفضاء الاقتصادي الى نمط آخر من تلك الأنماط. أي ان السيطرة النهائية، بالنسبة لطروحته، يجب أن تظل بيد الخيارات الاجتماعية وليس الاقتصادية، وبحيث تخض الثانية الأولى. ومن دون الاقرار الواعي بعمق التحولات التي نمر بها على مستوى العالم، فاننا في الواقع نخدع أنفسنا وننزلق الى تفكير التمنيات. ولتفادي ذلك فان الطريق الوسط الذي يقترحه تورين، ويذكرنا على الفور بالطريق الثالث الذي أشتهر به السوسيولوجي البريطاني أنتوني غيدنز، هو الواقعية الايجابية، أي التي تعترف بالتحول لكنها تعمل على تحسينه واخضاعه للشرط الاجتماعي. ويبقى السؤال المركزي بالنسبة لتورين هو في ما ان كان علينا أن نؤمن بضرورة القطع عن النظام القائم (على مستوى العالم) أم بالانخراط في حركة اجتماعية جماعية بوصلتها تغيير هذا النظام ليتواءم مع المصلحة الانسانية للشرائح الأقل حظاً والمهمشة على جوانب المجتمعات البشرية. ولتدعيم رؤيته حول مقدرتنا الانسانية على مواجهة غطرسة الاقتصاد والسوق يستدعي تورين التجربة التاريخية التي تدعم مقولاته. فهو يقول بامكانية مواجهة الاقتصاد على أرضه ومن دون الاضطرار الى نفيه أو اعتباره خطيئة يجب التخلص منها. ففي الماضي وفي أعقاب تطور الثورة الصناعية والتغيرات الاجتماعية العميقة والواسعة التي رافقتها بموازة التوسع الرأسمالي الكبير والمتوحش آنذاك تطورت الديمقراطية الصناعية لتخفف من غلواء التوسع الرأسمالي واخضاعه للشرط الاجتماعي. ثم في مرحلة لاحقة، أي بعيد الحرب العالمية الثانية تطورت تلك الديمقراطية الى ما صار يعرف بدولة الرفاه التي بدورها وقفت في وجه استبداد السوق وآثاره السلبية على الفقراء ومن هم أقل حظاً. وبالتالي، فانه بامكاننا في مرحلة العولمة الاقتصادية الحالية أن نؤنسن السوق ونصل الى مساومات معها بحيث لا نحد من كفاءتها ولا من ابداعاتها، لكن في ذات الوقت لا نعطيها مقود القيادة ونسير خلفها بلا ارادة أو قدرة على الفعل. وفي خضم عملية المواجهة والوصول الى مساومة تاريخية مع السوق لصالح الشرط الاجتماعي فان دوراً مركزياً يوليه تورين للمثقفين. فهنا نحن ازاء عملية معقدة تحتاج الى تعبئة جماعية وتبسيط لا يقدر عليه سوى المثقفين الذي تكون مهمتهم تنوير الرأي العام بعمق التحولات وأثرها عليهم، وكذلك الكشف عن حقيقة الشعارات والأهداف التي تحملها الآليات الاقتصادية الكبرى. والواقع أن تورين يتميز دوماً بتركيزه على دور المثقف، ومن هنا فليس غريباً أن يخصص خلاصة كتابه هذا لدور المثقفين في ربط الفعل الاجتماعي بالتغيير الاقتصادي والسياسي الواعي. على أن ما يأخذ على كتاب تورين هو غياب الاهتمام بمنعكسات النيوليبرالية على المجتمعات غير الغربية. فكل النقاش الذي ينخرط فيه ظل محصوراً في دائرة أوروبا والولايات المتحدة، ولو الى حد أقل. وطروحاته التي يقدمها قد تصلح لفرنسا أو للدول الأوروبية، لكنه لم يسحبها على بقية المجتمعات، خاصة في العالم غير الغربي، وحيث الاختلاف في البنية والاقتصاد والسياسة والثقافة كبير وهائل وربما يستدعي مقاربات جديدة كلياً |