|
فريضة الحج عند الإمام الشيرازي (قده) |
الفوائد الأخروية |
يذكر الإمام الشيرازي (ره) ثلاث فوائد أخروية للحج هي: 1ـ التقرب إلى الله تعالى فالحج هو قمة العبودية، حيث يستسلم المؤمن لربه استسلاما كاملا، يفعل ما يريد الباري تعالى منه بدون اعتراض أو أقل تردد في التنفيذ . تراه يستسلم له عندما يريد منه أن يدير ظهره لمباهج الدنيا، من النساء، والعطر، وزينة الوجه، وزينة الشعر، كما يترك الجدال وكل أمر فيه شعور بالأنا وفيه حب للدنيا. تراه يستسلم لربه عندما يأمره بأن يطوف حول بيته سبع مرات، فيسرع دون تردد، ثم يأمره بأن يسعى بين الصفا والمروة فيهرول عن طيب خاطر مستسلماً لإرادة ربه . تراه يستسلم أيضا عندما يأمره بأن يجمع الحصى من صعيد مزدلفة ليأتي بها محسوبةً ودقيقة إلى منى لأن هناك مناسك تنتظره، رمي العقبة الكبرى في اليوم الأول من العيد، ثم يبتدأ بالعقبة الصغرى فالوسطى فالكبرى في اليومين التاليين، يفعل كل ذلك وهو منشرح الصدر لأنه مسلم قيادهُ إلى ربه . وعندما يصل إلى بيت ربه في آخر أشواط الحج يجد نفسه قريبا وقريبا جداً من ربه، لأنه سلم له القيادة بالكامل وذاب في إرادته حتى لم تعد لنفسه إرادة كحبة رمل تذوب في أمواج المحيط. من هنا كان الحج من أكثر العبادات التي يتقرب فيها العبد إلى ربه. يقول الإمام الشيرازي(أعلى الله درجاته): (وعمل الحج بما له من مناسك تتضمن أنواع العبادات، من توجه إلى الله عزوجل، وترك لذائد الحياة وشواغل العيش، والسعي إليه بتحمل المشاق، والطواف حول بيته، والصلاة والتضحية، والإنفاق والصيام وغير ذلك)(1). 2ـ كسب الثواب الإلهي إن الثواب الذي يحصل عليه الحاج هو ما لم يحصل عليه في أيّة عبادة أخرى، وقد أورد الإمام الشيرازي (ره) عدداً من الروايات التي تبين هذا المعنى: فعن أبي عبد الله (ع) عن أبيه عن آبائه (ع): (أن رسول الله (ص) لقيه أعرابي فقال له: يا رسول الله، إني خرجت أريد الحج ففاتني وأنا رجل مميل ـ صاحب ثروة ـ فمرني أن أصنع في مالي ما أبلغ به مثل أجر الحاج، قال: فالتفت إليه رسول الله (ص) فقال له: انظر إلى أبى قبيس فلو أن أبا قبيس لك ذهبة حمراء أنفقته في سبيل الله ما بلغت به ما يبلغ الحاج، ثم قال: إن الحاج إذا أخذ في جهازه لم يرفع شيئا ولم يضعه إلا كتب الله له عشر حسنات ومحا عنه عشر سيئات ورفع له عشر درجات، فإذا ركب بعيره لم يرفع خفا ولم يضعه إلا كتب الله له مثل ذلك، فإذا طاف بالبيت خرج من ذنوبه، فإذا سعى بين الصفا والمروة خرج من ذنوبه، فإذا وقف بعرفات خرج من ذنوبه، فإذا وقف بالمشعر الحرام خرج من ذنوبه، فإذا رمى الجمار خرج من ذنوبه، قال: فعدد رسول الله (ص) كذا وكذا موقفاً إذا وقفها الحاج خرج من ذنوبه، ثم قال: أنّى لك أن تبلغ ما يبلغ الحاج، قال أبو عبد الله (ع): ولا تكتب عليه الذنوب أربعة أشهر، وتكتب له الحسنات إلا أن يأتي بكبيرة)(2). ويظهر من هذه الرواية أن الله سيعطي الحاج عشرة أضعاف ما يقدمه لغيره من الأجر والثواب لخصائص موجودة في هذه العبادة غير موجودة في العبادات الأخرى. وبقليل من التأمل يظهر لنا منطقية هذا الرأي لأن الحاج يبذل في طريق الحج أكثر مما يبذله في العبادات الأخرى، فالحج أكثر مشقة من الصلاة، وأكثر مشقة من الصوم، وأكثر مشقة من الخمس والزكاة، لأنه يتضمن جميع هذه العبادات. كما أن الحج جامع للمكاره والصعوبات، ولما كان أفضل الأعمال أحمزها، فإن الحج له من الثواب والأجر ما لم يدخره الله لبقية العبادات . 3ـ غفران الذنوب وقد تقدم في الحديث السابق أثر الحج في إسقاط الذنوب والسرّ في ذلك هو: إن الله يريد أن يطهر الحاج من كل الشوائب التي لحقت به في دنياه خلال عمره المديد، لا يريد منه أن لا يخرج من بيته إلا طاهرا خاليا من أية رذيلة كيوم ولدته أمه ـ كما ورد في الحديث الشريف ـ وهذا ما لا يتحقق إلا بغفرانه للذنوب. فإن مسيرة الحج هي مسيرة التوبة والاعتراف بالذنب والإنابة إلى الله عزوجل. ويستفاد من الروايات الشريفة إن عرفة سميت بعرفة لأنها مكان للاعتراف بالذنب، حيث قال جبرائيل (ع) لإبراهيم (ع) هنا اعترف بذنبك واعرف مناسكك(3). وفي هذا المكان أقر أبونا آدم (ع) بما صدر منه في إتباعه الشيطان حيث أكل من تلك الشجرة. وأن منى هي محط قبول التوبة، وبين عرفات ومنى مسيرة عشر كيلو مترات، وفترة يوم وليلة حيث يفيض من عرفات ليلة العيد إلى المشعر، ومن المشعر إلى منى بعد شروق الشمس… وخلال هذه المسيرة الزمنية والمكانية يقوم الحاج بفتح ملف حياته صفحة صفحة، فكلما وجد ذنبا اعترف به وأقر ثم استغفر ربه وعاهد على عدم العودة إلى الذنوب، حتى يتم تصفية جميع تلك الصفحات، وعندما يصل إلى منى يكون قد أحصى جميع نواقصه التي تذكرها وأصر على عدم الإتيان بها، وعندئذ تقبل توبته، وسيبقى في منى ثلاثة أيام هي فرصة أخرى للتوبة، فإذا نسي بعض الذنوب فثمة وقت إضافي يستطيع خلاله من غلبة هواه والإنابة إلى ربه لقبول توبته . وهناك روايات كثيرة في هذا المضمار ذكرها الإمام الشيرازي نشير إلى بعضها: عن الإمام الصادق(ع) عن رسول الله (ص) قال: (للحاج والمعتمر إحدى ثلاث خصال: إما أن يقال له: قد غُفر لك ما مضي وما بقي، وإما أن يقال له: قد غفر لك ما مضى فأستأنف العمل، وإما أن يقال له: قد حُفظت في أهلك وولدك، وهي أخسهنّ)(4). وقيل للإمام أبي الحسن(ع): (كيف صار الحاج لا يكتب عليه ذنب أربعة أشهر من يوم يحلق رأسه؟ فقال: إن الله أباح للمشركين الحرم أربعة أشهر إذ يقول: (فَسِيحُوا فِي الأرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) فأباح للمؤمنين إذا زاروه جلاء من الذنوب أربعة أشهر وكانوا أحق بذلك من المشركين)(5).
(1) فلسفة الحج: ص12. (2) تهذيب الأحكام: ج5 ص19 ح2. (3) انظر وسائل الشيعة: ج11 ص237 ح14678. (4) وسائل الشيعة: ج11 ص106 ح14367. (5) المحاسن: ج2 ص335 كتاب العلل ح107. |