|
فريضة الحج عند الإمام الشيرازي (قده) |
المنافع الدنيوية |
يذكر الإمام الشيرازي (قده) عدة فوائد دنيوية للحج، منها: 1: الفوائد الاجتماعية إن من أهم فوائد الحج تلك الفوائد التي تتقدم بها حياة الإنسان الاجتماعية، ويصفو بها العيش(1) وفي سياق هذه الفوائد يذكر الإمام الشيرازي (قده) أبعاد القضية الاجتماعية التي يعيشها الإنسان فيقول: (الإنسان بفطرته مدني بالطبع، وتميل نفسه إلى الاجتماعات والتآلف مع الآخرين، والركون إلى الجماعة والاختلاط بها، وهذا هو سبب تكون المدنية وإنشاء المدن والمجتمعات الكبيرة، وهذا الميل عبارة عن غريزة فطرية موجودة في الإنسان الساعي سعيا دائبا مستمرا لإشباع غرائزه، فميله نحو التوطن ضمن مجموعة من الناس، والعيش معهم عبارة عن إشباع لغريزته هذه، وتكوين الأسرة أيضاً صورة أخرى من صور إشباع الغريزة الاجتماعية وغريزة الاجتماع تؤمن للإنسان حسن الألفة والاختلاط البشري ومنافع أخرى)(2). نعم إن لكل عبادة من العبادات بعد اجتماعي، فالبعد الاجتماعي للصلاة هو تطهير الأخلاق من الرذائل واصطفاء النفس لتصبح مؤهلة تأهيلا كاملا لبناء أوسع في العلاقات الاجتماعية. والبعد الاجتماعي للصوم هو الإحساس بحوائج المحتاجين، ومد يد العون إليهم ومساعدتهم على تحمل الصعاب والمشاق. والبعد الاجتماعي للزكاة هو سد احتياجات الفقراء من عامة الناس. والبعد الاجتماعي للخمس هو سد احتياجات الفقراء من نسل رسول الله (ص). والبعد الاجتماعي للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو التواصل مع المجتمع، ومد الجسور الاجتماعية على قواعد متينة توجب تكريس حالة المعروف واجتناب المنكر. والبعد الاجتماعي للحج هو أوسع بكثير من تلك الأبعاد الاجتماعية التي ذكرناها، فهو يجمع البعد الاجتماعي للصلاة، والبعد الاجتماعي للزكاة، والبعد الاجتماعي للصوم، والبعد الاجتماعي للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مضافاً إلى أبعاده الاجتماعية الخاصة، فالحج يجمع كل الأبعاد الاجتماعية للعبادات . من هنا قال الإمام الشيرازي (رضوان الله عليه): (الحج يمثل أرقى وأشرف تجمع للإنسانية)(3)، لأن أداء فريضة الحج وشعائره يؤدي إلى حالة اتحاد المشاعر والأحاسيس الدينية، وبذلك تتحد القلوب وتتوافق الأقوال والأفعال، ويعيش الكل حالة الأمة الواحدة، ويحملون هما واحداً بعد أن تخمد النعرات وتذوب الاختلافات والقوميات والعرقيات وما أشبه في بحر من الانسجام والاجتماع والتآلف وقضاء الحوائج والاعتناء بالآخرين. ويستدل الإمام الشيرازي (ره) ببعض الروايات على أهمية هذا الجانب الاجتماعي في الحج، منها: رواية إسماعيل الخثعمي إنه قال: (قلت لأبى عبد الله (ع): إنّا إذا قدمنا مكة ذهب أصحابنا يطوفون ويتركوني أحفظ متاعهم، قال: أنت أعظمهم أجرا)(4). وعن مرازم بن حكيم قال: (زاملت محمد بن مصادف فلما دخلنا المدينة اعتللت، فكان يمضي إلى المسجد ويدعني وحدي، فشكوت ذلك إلي مصادق، فأخبر به أبا عبد الله (ع) فأرسل إليه: قعودك عنده أفضل من صلاتك في المسجد)(5). وفوق هذه الروايات يضع الإمام الشيرازي عنوان: (خدمة المؤمن أفضل من الطواف). 2: الفوائد الاقتصادية وللحج فوائد اقتصادية لا تحصى، يقول الإمام الشيرازي: (ينفع كثيرا من الناحية الاقتصادية والتبادل التجاري، بانتقال أنواع السلع واكتساب تجارب الآخرين بعد الإطلاع عليها)(6). فالحج من عدة نواحي يقوي الحياة الاقتصادية للمسلمين: فمن ناحية يزداد الإنتاج، سواء الإنتاج الزراعي أو الحيواني أو الصناعي. فوجود الملايين من الحجاج يدفع بالمزارعين إلى زيادة الإنتاج لتوفي السلع الغذائية الضرورية للحجاج، ومن ناحية أخرى فإن قيام كل حاج يوم العيد بتقديم قربان له يستدعي توفير عدد كبير من الأغنام والماعز والإبل يزداد عددها مع عدد الحجاج، فإذا ضم الحج خمسين مليون حاج على مبدأ الإمام الشيرازي، فإن توفير خمسين مليون رأس من الأغنام يوجد حافزاً قوياً لدى الدول الإسلامية بتنشيط المراعي، الأمر الذي سيؤدي حتما إلى تحرك السوق، وإذا أضفنا إلى أرقام القرابين التي هي من واجبات الحج وأفعاله، الأعداد الكبيرة من الفدية، فإن الكمية تبدو محفزًا للحياة الاقتصادية ليس في السعودية وحسب، بل في جميع الدول الإسلامية بشرط أن ترتبط اقتصادياتها باقتصاد الحج. أما السلع الإنتاجية التي توفرها المصانع فهي أيضا تتعرض إلى زيادة كبيرة في أيام الحج، فهناك عدة صناعات مرتبطة مباشرة بالحج كصناعة المنسوجات لتهيئة ثوبي الإحرام، وهناك صناعات أخرى تزود الحاج بما يحتاج إليه من سلع ليستخدمه أيام الحج كالثلاجات والبرادات ووسائل تبريد الماء وحفظ الطعام، مضافاً إلى ما يحتاجه فترة سفره وإقامته في الحرمين الشريفين من وسائط النقل وما يرتبط بها، كذلك تتحرك صناعة البناء لإنشاء مساكن للحجاج. بالإضافة إلى جميع ذلك فإن حاجة الحاج إلى شراء الهدايا إلى أقربائه من أبنائه وأخوته وأصدقائه ومن يدور حوله هو أيضا يزيد من حركة الإنتاج الصناعي بمختلف أشكالها. وقد شاهدنا أهمية الحج اقتصاديا من خلال الحركة التي يوجدها وجود مليوني حاج في موسم الحج، فلو تصورنا أن الرقم يتحول إلى خمسين مليون حاج فكم ستكون الحركة من المتانة والقوة، وكم ستتضاعف الحياة الاقتصادية ويزداد الإنتاج. هذا بالإضافة إلى أن حركة الحاج من بلده سيكون عاملاً محفزاً للحياة الاقتصادية، إذ ستنشط صناعة النقل، وصناعة الخدمات المرتبطة بالحج، فانتقال خمسين مليون حاج في وقت واحد إلى بيت الله الحرام وأعادتهم إلى أوطانهم سيكون حافزاً للعمل لدى أربعة أضعاف هذا الرقم أي مائتي مليون مسلم بين من ينتج وسيلة النقل ومن يقود هذه الوسيلة ومن يقدم الخدمة اللازمة والصيانة المطلوبة لهذه الوسيلة. إضافة إلى من ينتج لتوفير الطعام لهذا العدد الكبير من الحجاج. ومن يعد الطعام للحجاج. ومن يصنع لهم الإحرامات. ومن يصنع السلع التي يشتريها الحجاج كهدايا. ومن يقدم للحجاج البرادات والثلاجات. ومن يعد لهم أماكن السكن من البناء وغيره. ومن يقوم بصيانة أماكن السكن. كل هذه الحاجيات تستلزم مئات الملايين من العاملين، والرقم مائتي مليون هو رقم متواضع مع ازدياد الأبعاد الاقتصادية للحج يوما بعد آخر. ومن هنا يجب أن يتحول الحج إلى صناعة اقتصادية تخطط لها الدول الإسلامية لتستفيد منها، لا أن تدفع بالفائدة إلى مصانع الآخرين كالصين واليابان والتايلاند وغيرهم، فهم المستفيد الأول من الحج اليوم، كما لابد من إيجاد صناعة لتعليب اللحوم وتوزيعها على الفقراء بأفضل شكل ممكن. إن بمقدور الحج وفق ما خطط الإمام الشيرازي(ره) في كتابه (ليحج خمسون مليونا كل عام): أولا: أن يحل مشكلة البطالة في العالم الإسلامي، لأنه سيدفع بأعداد كبيرة من العاطلين إلى سوق العمل. ثانيا: أن يرفع من مستوى الإنتاج، ويزيد من دخل الفرد، وبالتالي من الدخل القومي. ثالثا: أن يقوي من حركة النقل الجوي والبري وفتح جسور الترابط بين أجزاء العالم الإسلامي. رابعا: أن يقوي حركة تبادل السلع والخدمات بين الدول الإسلامية وكذلك ما يرتبط بالاتصالات. خامسا: أن من الإنتاج الزراعي والصناعي والحيواني . كل هذه المكتسبات الاقتصادية ستتحقق من خلال الحج إذا ما درست دراسة شاملة واتخذ فيها القرارات الحازمة ووضع لها الخطة الكاملة من جميع الدول الإسلامية. ويجب أن تقوم هذه الخطة على القواعد التالية: 1ـ استخدام أكبر قدر من الأيدي العاملة الإسلامية. 2ـ حصر وشائج التجارة مع الدول الإسلامية، حتى المقدور. 3ـ توزيع الأدوار على مختلف الدول الإسلامية، مثلا بعض الدول تتولى أمر الإنتاج الغذائي، وبعض الدول تتولى أمر النقل، وبعض الدول تتولى الإنتاج الحيواني وتوفير الأغنام الكافية، وبعض الدول تتولى مسؤولية الخدمات الصحية والبنائية، وبعض الدول تقوم بتوفير السلع الضرورية في موسم الحج . 3: الفوائد النفسية والى جانب الفوائد التي تقدم ذكرها يحصل الحاج على فوائد نفسية كثيرة، كإشباع غريزة حب الاستطلاع والسياحة والمشاهدة للبلاد الأخرى ولأناس آخرين. فالحج هو نوع سياحة في الأرض أيضاً، وهو من مصاديق السفر حيث ورد عن أمير المؤمنين علي (ع): تغرب عن الأوطان في طلب العلى وسافر ففي الأسفار خمس فوائد تفرج هم واكتساب معيشة وعلم وآداب وصحبة ماجد فإن قيل في الأسفار ذل ومحنة وقطع الفيافي و ارتكاب الشدائد فموت الفتى خير له من قيامه بدار هوان بين واش وحاقد فأول فائدة من فوائد السفر هو التخلص من الهموم، حيث يوصي الأطباء والنفسانيون مرضاهم بالسفر الكثير، لأن السفر يزيل ما علق في الإنسان من الهم والغم الناجم عن تطور الحياة والمشاكل الكثيرة . وإذا ما دققنا في جذور المشاكل النفسية لوجدنا أنها تعود إلى الأسباب التالية: 1ـ حب الدنيا والانغماس الشديد فيها. 2ـ التكبر وتضخم الشعور بالأنا لدى الإنسان. 3ـ قلة الصبر وقلة تحمل المشكلات. 4ـ ضعف المناعة النفسية. ومن شأن الحج أن يعالج هذه الجذور وينهي المشاكل النفسية لو هاجمت أحدا. فبالحج يتخلص المؤمن من حب الدنيا والانغماس الشديد فيها، لأن هدفه الأسمى سيكون الآخرة، ولأنه سيترك الأهل والولد في سبيل الله سبحانه وتعالى، كما وإنه يعالج مشكلة التكبر وتضخم الأنا لدى الإنسان، فعندما يأتمر الحاج بأوامر الله سبحانه وتعالى في خلع ملابسه وزينته وارتدائه للإحرام وهو قطعتان من قماش عادي، هذه الأوامر ستدفع بالإنسان إلى التواضع والى الابتعاد عن زينة الحياة الدنيا فيزال العامل الأول للتكبر. والحج يزيد من احتمال الإنسان ويقوي لديه مقاومة المشكلات وذلك بتسليحه بسلاح الصبر، فصبر على فراق الأحبة، وصبر على العبادة، وصبر على ترك الشهوات. والحج هو دورة تدريب على الصبر وعلى التحمل، وإذا تمكن الإنسان من تقوية المناعة النفسية لديه بالصبر وتحكّم على الشهوات فإنه سيكون أقدر على مواجهة المشاكل النفسية التي مصدرها ما ذكرناه سابقا. إن من يـأتي إلى الحج ثم يخرج منه سيكون أكثر مقاومة وقدرة على تحمل الصعاب ممن لم يحج، وأكثر قدرة على تحمل الجوع والعطش والحر، وما إلى ذلك. |