|
فقه العولمة.. دراسة إسلامية معاصرة كلمة مركز الإمام الشيرازي للبحوث والدراسات |
بسم الله الرحمن الرحيم العولمة، هي القضية التي كثر الحديث عنها ـ فجأة ـ ليس فقط على المستوى الأكاديمي، وإنما أيضاً على مستوى أجهزة الإعلام والتيارات السياسية والفكرية المختلفة، ولا نعدو الحقيقة إذا قلنا: إن هنالك سيلاً أشبه بالطوفان في الأدبيات التي تتحدث عن الموضوع، ولم يعد الأمر يقتصر على مساهمات الاقتصاديين، وعلماء السياسة، أو المهتمين بالشؤون العالمية، بل تعدى الأمر ليشمل مساهمات الاجتماعيين والفلاسفة والإعلاميين والفنانين، وعلماء البيئة والطبيعة. العولمة في مفهومها العام كما تدل الصياغة اللغوية ذات مضمون ديناميكي، يشير إلى عملية مستمرة في التحول والتغيير، فعندما نقول عولمة النظام الاقتصادي أو عولمة النظم السياسية، أو عولمة الثقافة، فإن ذلك يعني تحول كل منها من الإطار القومي ليندمج ويتكامل مع النظم الأخرى في إطار عالمي، لذلك ينظر إلى العولمة في مفهومها العام على أنها اتجاه متنام يصبح معه العالم دائرة اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية تتلاشى في داخلها الحدود بين الدول، لذلك يمكن تعريف العولمة بأنها: التداخل الواضح لأمور الاقتصاد والاجتماع والسياسة والثقافة والسلوك دون اعتداد يذكر بالحدود السياسية للدول ذات السيادة أو الانتماء إلى وطن محدد أو إلى دولة معينة، في حين أن هناك مفهوم للعولمة يركز على أنها: مصطلح بدأ لينتهي بتفريغ المواطن من وطنيته وقوميته وانتمائه الديني والاجتماعي والسياسي. والعولمة بالمعنى الرائج: هي درجة من درجات تطور النظام الرأسمالي العالمي. علماء التاريخ يقولون: إن العولمة الغربية ليست ظاهرة جديدة بل أن بداياتها الأولى بدأت مع بدء عملية الاستعمار الغربي لآسيا وإفريقيا والأمريكيتين ثم اقترنت بالتطور التجاري الحديث لأوروبا، الأمر الذي أدى إلى نظام عالمي متشابك ومعقد ينادي ويروّج له العديد من المفكرين والعلماء والفلاسفة، فلا غرابة من مساهمات هؤلاء العلماء والمفكرين من اقتصاديين وسياسيين وفلاسفة، لأن قضية العولمة لها من الجوانب والزوايا الكثير مما يثير اهتمام كل هؤلاء خاصة وأن كل كاتب عادة ما يركز تحليله على جانب معين من العولمة، مثل الجانب الاقتصادي أو الاجتماعي أو الثقافي أو السياسي أو الإعلامي وغيره، لذا يوجد الآن ما يشبه التخصص في تناول العولمة، ومن النادر أن نجد كاتباً أو مرجعاً يتناولها من جوانبها الفقهية، ثم يتطرق إلى الجوانب الأخرى دون أن يكون على حساب المستوى العلمي، أو العمق بالتحليل، بيد أن كتاب (فقه العولمة) للإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي (تغمده الله برحمته) يجيء استثناء في هذا المجال، لأن سماحته استطاع بجدارة وموضوعية أن يحيط بقضية العولمة من جوانبها المختلفة، من خلال رؤية عميقة ثاقبة وموسوعية واعية إسلامية متحضرة، ذات نزعة إنسانية. ونحن اليوم في أمس الحاجة إليها عند تناول هذه القضية، بعد أن افسد الاقتصاديون والتكنولوجيون مفهوم العولمة، وبعد أن ضيقوا أفق الفهم الحقيقي لها، من خلال الطابع السطحي والدعائي الذي تمحورت بعض كتاباتهم حول هذا الموضوع. ومهما يكن من أمر، فسوف نلاحظ في كتاب (فقه العولمة) القيّم، أن الإمام الشيرازي (قدس سره) قد أشار إلى مجموعة من الطروحات المهمة التي تستحق التأمل والتفكير لفهم قضية العولمة من منظور إسلامي حضاري متطور يختلف عن المنظور الزائف الذي غالباً ما تطرحه علينا وسائل الإعلام المختلفة. وأول هذه الطروحات هو أن العولمة الصحيحة هدف إنساني لا غنى عنه إلا بنشره وتعميمه، ولا طريق للإنسانية أمامها إلا بالدخول فيها والانتماء إليها، علماً بأنه لم يكن الدخول فيها قد بدأ في هذه الأيام، بل كان مع بداية إرسال الأنبياء أولي العزم(ع) وأخذت تتبلور وتتكامل منذ بدأ عهد الرسالة الإسلامية، فإن الدين الإسلامي الحنيف أول من جاء بأسس العولمة الصحيحة، وبلّغ لها ودعا إليها، لأن الله سبحانه وتعالى وجّه الإنسان وفطّره على العولمة وأرسل إليه نظاماً عالمياً يحمل طابع الكونية في فكره وثقافته وفي اقتصاده وسياسته، ومن هنا تكوّن مفهوم العولمة الإسلامية. فكان الدين الإسلامي الحنيف أول من طرح فكرتها الصحيحة، وأول من بنى من مفهومها نظاماً اقتصادياً سليماً، وأول من جاء بمستلزماتها ومقوّماتها، وأوّل من بنى أسسها وأحكم قواعدها وقد طبّق الرسول الأعظم (ص) ومن بعده أهل البيت (ع) العولمة الصحيحة التي جاء بها الإسلام، وحققوا نظام اقتصادها السليم، وسعوا لتبنيها وتحديد مسارها ومعالمها.. فجعلوا بأمر الله تعالى.. الدين واحداً، والمعبود واحداً، والكتاب واحداً، والاقتصاد واحداً، والتاريخ واحداً، والقبلة واحدة، والسنّة واحدة.. والشريعة واحدة، واللغة واحدة ومشتركة بين الجميع، مما يحقق الأسرة الواحدة والبيت الواحد. فقد دأب الرسول الأعظم (ص) والأئمة الأطهار (ع) على إطلاق أسس العولمة الصحيحة وتطبيقها بحكمة عالية كانت باستطاعتها تغطية كل العالم بظلال رحمتها وجناح عدلها، غير أن الحكام غير الشرعيين الذين علوا منبر الرسول (ص) غيّروا وصادروا كل شيء جاء به الرسول(ص)، وبدلوا كل ما استطاعوا تبديله فحَرموا العالم من رحمة العولمة الصحيحة وعدلها بالشكل المطلوب. نعم إن رسالة الإسلام رسالة عالمية، لأن الإسلام لم يكن يوماً للعرب وحدهم، ولم يكن القرآن لقريش وحدها، حين قال سبحانه وتعالى وهو يصف رسوله الكريم (ص) ورسالته المباركة: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) (5). وفي جانب آخر يصف سبحانه وتعالى القرآن الكريم الذي هو دستور السماء لأهل الأرض (إن هو إلا ذكر للعالمين) (6). ومن هنا فإن الحديث عن العولمة الإسلامية حديث عميق في جوهره، فإن الإسلام جاء بها منذ أيامه الأولى، ومن حين بزوغ شمسه المنيرة على الكون، حيث تتجلى الرسالة العالمية وتتضح العولمة التي جاء بها الإسلام رحمة للناس، كل الناس، وليس لطبقة خاصة كأصحاب الاستثمارات والبنوك الذين لا يرون إلا مصالحهم ولا يعملون إلا من أجل منافعهم. بالإضافة إلى أنه يستفاد من الأحاديث الكريمة المرويّة عن رسول الله (ص) وأهل بيته الطاهرين (ع) مقومات العولمة الإسلامية، فترى مخاطبتها لكل العالم، بلا حرج، وخاصة فيما يخص التماسك والترابط الاجتماعي، والتحابب والتوادد العاطفي، وتحويل المجتمع الإنساني الكبير إلى أسرة صغيرة واحدة يسودها الحب والحنان والرحمة والإحسان، فنرى الرسائل التي بعثها الرسول الأكرم (ص) إلى رؤساء العالم يدعوهم فيها إلى الإسلام، ليسلموا في دنياهم وآخرتهم، وينذرهم عاقبة التمرّد والاستبداد، ويحملهم أوزار رعاياهم وشعوبهم إن هم بقوا على كفرهم، إلى غيرها مما يفصح عن دعوتهم إلى الانتماء إلى الأسرة الواحدة والبيت الواحد والفكر الواحد ألا وهو التوحيد، وبيت العدل والمحبة، وكان رسول الله (ص) يراعي بالإضافة إلى العبارات الأدبية والكلامية في رسائله الأبعاد التبليغية، والأهداف السياسية والدبلوماسية، وأدت بالنتيجة إلى انتصار الإسلام وانتشاره وبسط دولته العادلة ونفوذه الحكيم على مختلف بقاع الأرض، ومن هنا لابد من التأكيد على عالمية الدعوة الإسلامية من خلال تلخيص روح الرسالة الإسلامية في شعار التوحيد (لا إله إلا الله) وهذا هو سر علو الإسلام وعطائه العالمي، ولا ريب في أن أساس الأيديولوجية الإسلامية المتمركزة في ذلك الشعار الخالد يمتلك أروع وأقوى إمكانية للعالمية على المدى المتواصل، وكذلك فإن انتشار الإسلام وبسرعة فائقة ورغبة ملحّة من الشعوب في أكثر مناطق المعمورة هو مصداق بارز وواضح للعولمة الإسلامية التي تنسجم مع فطرة الإنسان، وبكل أبعادها الفكرية والثقافية والدينية والتعبدية والسياسية والعسكرية والاقتصادية والتجارية وغير ذلك من الأبعاد الحيوية الأخرى، فهي نزعة إنسانية، وطريقة فطرية بشرية، دَعّم أساسها الرسول الأعظم (ص) بأمر من الله تعالى مع تقويم منه للمنحدرات الاجتماعية والاعوجاجات الجاهلية. وقد صرّح بذلك القرآن الكريم ودعا إليه في آيات متعددة كقوله تعالى: (وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم) (7). وقوله تعالى: (وما أرسلناك إلا كافة للناس) (8). وقوله سبحانه وتعالى: (إن هذه أمتكم أمة واحدة) (9). إن الله سبحانه وتعالى جعل أمه المسلمين أمة واحدة، وجعل لها حضارة عريقة، وأسلوباً جديداً في الأمور الحياتية ومنهجاً حديثاً في الشؤون الاقتصادية. - ميزات العولمة الإسلامية: وهنا لابد من توضيح أهم ميزات العولمة الإسلامية التي طرحها الإمام الشيرازي(رحمه الله) في هذا الكتاب القيّم وذلك في مختلف الأصعدة والعديد من المجالات: 1: الإطار النظري: إن المفهوم الديني أو الوازع الإسلامي الإلهي، يهذب النفوس، ويطبع على القلوب محبة الآخرين، وإيصال النفع إليهم، ودفع الضرر والشر عنهم، لأن الإسلام دين سماوي جاء ليرسم سعادة الإنسان، وليس موضوعاً من الموضوعات البشرية. 2: الإطار التطبيقي: من المؤكد واليقين أن العولمة الإسلامية قادرة على رفاهية وإرغاد حياة البشر، وإسعاد بني الإنسان دنياً وآخرة، فالعولمة الإسلامية هي وحدها من بين الجميع، الجامعة للنمو والازدهار، والعدل والأخلاق للبشرية جمعاء، وتاريخ رسول الله (ص) والإمام أمير المؤمنين (ع) خير شاهد على ذلك. 3: الإطار الاقتصادي والمعنوي والأخلاقي: إن عدم الاحتكار هو ميزة جوهرية للاقتصاد الإسلامي، وكذلك خضوع النظام الاقتصادي وتأطير العمل التجاري في الإسلام لأحكام الدين وقوانين الشرع الحنيف، وعليه فإن العولمة الاقتصادية الإسلامية حملت بين جوانحها كل مقوّمات الحضارة والسعادة والتقدم والرقي والازدهار والتطور، ونفي الفقر والحرمان، فهي تشتمل على الحكومة الشرعية والاقتصاد الأمين، والقوانين المالية العادلة، والوحدة العالمية بكل أبعادها الحضارية مضافاً إلى الآداب الإنسانية الراقية، والقواعد الأخلاقية التقدمية. وعليه فلابد لنا نحن المسلمين من ترك السياسات الاقتصادية الضيقة، التي لا تمت إلى الإسلام بصلة، والعمل على سياسة التكتل الاقتصادي الإسلامي الضخم، لمواجهة التكتلات الاقتصادية العملاقة، ولابد من اغتنام الفرصة وانتهازها للدخول في النظام العالمي الجديد: العولمة، وتحديها بشكل إيجابي وذلك بوضع أسس التعاون الاقتصادي الإسلامي وآراءه في نظام اقتصادي كامل وشامل. وهنا ترى سماحة الإمام الشيرازي (رحمه الله) يؤكد على حتمية إرساء أسس لنظام اقتصادي عولمي إسلامي متطور غايته الرفاهية والازدهار للمسلمين وهدفه العدل والأخلاق، فيحددها (قدس سره) بالأسس التالية: * طرح أصول الاقتصاد الإسلامي المستنبط من القرآن والسنة النبوية الشريفة، ودعوة كل اقتصاديي العالم إلى مدارسته ومذاكرته، وإيجاد أفضل الطرق إلى تطبيقه وتنفيذه، وعليه فإن الاقتصاد الإسلامي قد أثبت جدارته في إنقاذ البشرية من الفقر، وإرغاد العيش للجميع، وهو اليوم قادر على تحقيق أمنيات الناس في الحياة لأنه قانون السماء الذي جاء به الوحي لإنقاذ أهل الأرض. * لابد من وجود مركز إسلامي اقتصادي عالمي، يقوم بتقييم السبل التطبيقية واقتراح السياسات الاقتصادية الإسلامية، ويسعى هذا المركز على تحجيم وتحديد الاختلافات الموجودة، ويضم هذا المركز العديد من خبراء الاقتصاد الإسلاميين للتفكير في الأساليب والسياسات الاقتصادية الإسلامية في ظل المتغيرات الدولية والعالمية. * العمل الجاد على تعديل السياسات المالية والنقدية والمصرفية التي تخالف القوانين والسياسات الإسلامية وجعلها تتوافق مع الاقتصاد الإسلامي القويم، وكذلك تحرير المبادلات التجارية من كل القيود والمضايقات، مثل انتقال عناصر الإنتاج والمنتجات والأشخاص، ورأس المال المؤطر بإطار الاقتصاد الإسلامي فيما بين البلدان الإسلامية، فلا جمارك ولا ضرائب، بالإضافة إلى حرية الملكية الشخصية وحرية جميع أنواع الكسب والتجارة في إطارها الإسلامي الصحيح. * التأكيد على قيام سوق إسلامية مشتركة لرأس المال وحركته على مستوى البلدان ووضع إطار تطبيقي يتلاءم مع المتغيرات الحاصلة في الأسواق العالمية للاقتصاد، والارتقاء بالقدرات البشرية والإمكانات التقنية، وذلك على مستوى البلدان الإسلامية. * العمل على استشراف آفاق المستقبل، ورسم صورة مستقبلية لموقع البلدان الإسلامية في الخريطة الاقتصادية الدولية، وتحديد مفهوم معين للأمن الاقتصادي الإسلامي، والعمل الجاد على الوصول إلى الاكتفاء الذاتي الاقتصادي في البلدان الإسلامية، ووضع أسس لبناء القدرة التنافسية، علماً بأن التنافس التجاري والصناعي يعد كما هو معلوم من أهم عناصر التنمية الشاملة في البلدان الإسلامية، كما يلزم السعي للاستفادة من التجارب الاقتصادية العالمية في مجابهة العولمة، فإن العولمة الإسلامية هدفها ومحورها رفاهية وإسعاد حياة البشر. العولمة الغربية هنا يتبادر إلى الأذهان السؤال التالي، ما هي العوامل التي أدت إلى إبراز العولمة الغربية في الوقت الحالي؟. إن العولمة الغربية ظهرت بعد انهيار الشيوعية، وانفجار الاشتراكية في الداخل وتفكك اليمين التقليدي، فخرجت الليبرالية الجديدة باسم العولمة لتغزو الدول، وتدعو إلى حرية انتقال رأس المال، وإلغاء الحواجز الجمركية، وتطيح بالأنظمة لتعزيز حرية المبادلات التجارية، وذلك تحصيلا للربح الأكثر ولو كان على حساب الآخرين، مما أدى إلى تباعد بين النشاط المالي والنشاط الاقتصادي، فمن أصل 1500 مليار دولار تدخل العمليات اليومية على الصعيد العالمي هنالك 1% فقط يوظف لاكتشاف ثروات جديدة، ويُدَوّر الباقي في إطار المضاربات، إذن هي مشروع أيديولوجي لليبرالية جديدة وثيقة الصلة بمنطق الرأسمالية المالية، لا تتطور ولا تجدد آلياتها أو تتقدم إلا بفعل التناقض الحاصل ما بينها وبين تقدمها وتطورها من جهة، وما بين التهميش الحاصل، سواء على مستوى الدولة الواحدة، أم على المستوى العالمي، ذلك التهميش الذي نجم عنه الاستقطاب الصارخ للثروات والدخول، إلى جانب تلازم هذه الظاهرة مع اتساع ظاهرة الفقر والبطالة سواء في المراكز الرأسمالية الأساسية، أم في الأطراف، وهي لا تتخذ شكل فضاء اقتصادي عالمي يقوم على الاعتماد المتبادل كما يُرَوّج لها، إنما تبرز هذه العولمة بوصفها صراعاً تجارياً ومالياً قاسياً، يزيد من حدته الاستقطاب الذي يؤدي بدوره تعميق الهوّة في مستوى التطور بين الشمال والجنوب، والشرق والغرب إلى جانب المشكلات الاجتماعية في بلدان العالم أجمع. إلاّ أن جوهر العولمة الغربية، لا يكمن في مظهرها، بقدر ما هو كامن في مضمونها، فإنها تمثل المشروع الغربي الحامل للمشروع الأيديولوجي للّيبرالية الجديدة التي ترتكز على قوانين حرية السوق والحرية المطلقة لانتقال البضائع والأموال والأشخاص والمعلومات والثقافة عبر الحدود، دون أيّة قيود لتحصيل الربح الأكثر، إلى جانب تقويم أسعار الصرف وإزالة القيود عن النظام المصرفي. وللعولمة الغربية جانبها الثقافي، الذي يبدو أكثر قتامة من جانبها الاقتصادي والسياسي، وإن كان مكملاً لذلك الجانب، فالعولمة الثقافية تهدف إلى السيطرة الغربية على سائر ثقافات العالم، مستفيدة من وسائل الاتصال والتكنولوجيا المتقدمة التي تنشر بواسطة ما تملكه من إمبراطوريات إعلامية واسعة، ثقافة السوق والاستهلاك بواسطة الصوت والصورة على حساب القراءة والكتاب، فتسعى إلى تكريس جديد من المعايير التي ترفع من القيمة النفعية والفردانية والنزوع المادي والغرائزي المجرد من أي محتوى إنساني، وهنا نلاحظ أن العولمة الثقافية الغربية بوصفها أيديولوجية تعكس إرادة الهيمنة على العالم، تمثل ثقافة الاختراق، بمعنى التطبيع مع الهيمنة وإشاعة الاستسلام لعملية الاستتباع الحضاري الذي يشكل الهدف الأول والأخير للعولمة الثقافية، هذه العولمة التي تهدف إفراغ الهوية الجماعية من محتواها وتدفع إلى التفتيت والتشتيت من جهة، إضافة لزعمها موت الأيديولوجيات كما تؤكد وتسوّغ هذا الشكل الجديد من السيطرة والهيمنة من جهة أخرى. ومنذ عملية الترويج للعولمة، تثار مسألة هي على جانب من الأهمية، فمن المستفيد من سيادة العولمة على العالم؟. إن العولمة بالإضافة إلى أنها تأتي رداً على أزمة الرأسمالية العالمية المعاصرة، وتكون غطاء للمشروعات الأمريكية في الهيمنة على العالم، لابد أن تحقق هذه العولمة منافع لجهات أخرى أيضاً، فإن التمعّن في هذه المسألة يجعلنا نصل إلى استنتاج بأن هناك مستفيدين آخرين، فالشركات متعددة الجنسيات والمافيات والحركات الصهيونية هي بلا شك من أهم المستفيدين من العولمة الغربية في تجلياتها المالية والاقتصادية والثقافية والسياسية. فالشركات متعددة الجنسيات تريد أن يكون العالم بأجمعه مسرحاً لنشاطها، وتريد أن تدخل وتخرج من وإلى مختلف دول العالم هيَّ وبضائعها وأموالها، بلاحدود ولا قيود، وقد تبيّن من متابعة مفاوضات الأرغواي التي انتهت عام 1994م، بتوقيع اتفاقية (الغات) الجديدة، وإقامة المنظمة العالمية للتجارة، الدور الحاسم لمندوبي الشركات متعددة الجنسيات في إقرار هذه الاتفاقية، ولا شك أن المافيات يهمها أيضاً انفتاح السوق، وحرية حركة الأموال حتى إذا كان على حساب الآخرين، لذا فهي صاحبة مصلحة في سيادة قوانين العولمة الغربية، ولابد هنا من الإشارة إلى تقرير التنمية البشرية لعام 1999م، الذي تناول تنامي دور الجريمة المنظمة في العولمة الغربية، فإنها تتيح فرصاً جديدة ومثيرة لمجرمي العالم من خلال حركة رأس المال وخفض الحواجز أمام التجارة الدولية، وانتقال السلع عبر الحدود، كما أن الاضطراب الناجم عن الانهيار الاقتصادي الذي تسببه العولمة يخلق أفواجاً من العاطلين والصالحين للاستغلال من جانب الشركات متعددة الجنسيات. وتبدو قتامة المستقبل التي ستكون صوره من الماضي المتوحش للرأسمالية في فجر شبابها إذا ما سارت الأمور على منوالها الراهن. حينها نرى سماحة الإمام الشيرازي (قدس سره) ينطلق من هذا التشخيص في الجوهر الفكري الذي يكوّن أساس فكره في مسائل العولمة حيث يشير إلى أن في ظل العولمة الغربية هناك فقط 20% من السكان الذين يمكنهم العمل والحصول على الدخل والعيش في رغد وسلام، أما النسبة الباقية 80% فتمثل في نظرتهم السكان الفائضين عن الحاجة، وإزاء هذا التدهور الحادث في أوضاع الطبقة الوسطى والعمال ومختلف الشرائح الاجتماعية محدودة الدخل، راح الإمام يؤكد بأن هذا النوع من العولمة ما هو إلا نتيجة حتمية خلقتها سياسات معينة بوعي وإرادة الحكومات والبرلمانات التي وقعت على القوانين التي طبقت السياسات الليبرالية الجديدة، وألغت الحدود والحواجز أمام حركات تنقل رؤوس الأموال، وسحبت المكاسب التي حققتها الطبقة الوسطى والعمال، وانتهاءً بالتوقيع على اتفاقية (الغات) التي ستتولى توقيع العقوبات على من لا يذعن لسياسة حرية التجارة، ففي كل هذه الأمور لم تكن هناك حتميات لا يمكن تجنبها بل إرادات سياسية، واعية بما تفعل وعبرت عن مصلحة الشركات دولية النشاط. ومن الطروحات القيمة التي عرضها الإمام الشيرازي (رحمه الله) في كتابه (فقه العولمة) والتي تدلّ على عبقرية سماحته ودقة فهمه وتحليله للأوضاع التي سادت العالم هو أنه مع نمو العولمة يزداد تركيز الثروة، وتتسع الفروق بين البشر والدول اتساعاً رهيباً لا مثيل له؛ نلاحظ أن 358 مليارديراً في العالم يمتلكون ثروة تضاهي ما يملكه 2.5 مليار من سكان الأرض، أي ما يزيد قليلاً على نصف سكان العالم، وأن هنالك 20% من دول العالم تستحوذ على 85% من الناتج العالمي الإجمالي، وعلى 84% من التجارة العالمية، ويمتلك سكانها 85% من مجموع المدّخرات العالمية، هذا التفاوت القائم بين الدول يوازيه تفاوت آخر داخل كل دولة، حيث تستأثر قلّة من السكان بالشطر الأعظم من الدخل الوطني والثروة القومية، في حين تعيش أغلبية السكان على الهامش. وبعد أن يفصّل سماحته الكلام حول هذا النوع من العولمة، فقد حسم الجدل بين الباحثين والمفكرين بتحليله الدقيق لهذه الظاهرة حين يقول: إن نموذج الحضارة الذي ابتكره الغرب لم يعد صالحاً لبناء المستقبل، أي لبناء مجتمعات قادرة على النمو والانسجام مع الفطرة والبيئة وتحقيق توزيع عادل للثروة والدخل، ويعتقد (قدس سره) أن الدعاية المفرطة لهذا النموذج كانت جزءً من الحرب الباردة، ولهذا تسود الآن حسب رأي الإمام عملية نوع تحول تاريخي بأبعاد عالمية واضحة، ينعدم فيها التقدم والرخاء، ويسود التدهور الاقتصادي والتدمير البيئي، والانحطاط الثقافي، في ضوء حضارة التنميط التي تسعى العولمة الغربية لفرضها. ويرى سماحته قضية على جانب كبير من الأهمية، ولها علاقة وثيقة بالعولمة الغربية والتي تكشف حقائق يتغافل عن إثارتها الكثير من الباحثين الغربيين وأهل السياسة ألا وهي قضية النمو المطرد للبطالة، وما يرتبط بها من تقليص في قدرة المستهلكين واتساع دائرة المحرومين، فَتحْتَ تأثير الركض المحموم وراء الأرباح المرتفعة التي أصبحت تتحقق في الأسواق النقدية والمالية للبعض فقط، راحت القطاعات تتنافس وتتصارع من أجل خفض كلفة الإنتاج، وكان التنافس ضارياً والضغط شديداً على عنصر العمل للوصول إلى مسألة الأجور إلى أدنى مستوى ممكن. ويحدد الإمام (قدس سره) بأن هذا الأمر لم يقتصر على الذين أُبعدوا عن أعمالهم، بعد أن حلت الآلات الحديثة والمتطورة مكانهم في مواقع الإنتاج المادي، بل امتد الأمر ليشمل أيضاً مهن الطبقة الوسطى حيث تولت عمليات إعادة هندسة عنصر العمل، والاستخدام الموسع لأجهزة الكومبيوتر مهمة الاستغناء عن عشرات الآلاف من الوظائف والمهن التي كان يقوم بها هؤلاء، وكانت مذبحة العمالة قاسية جداً في البنوك وشركات التأمين وقطاع صناعة برامج الكومبيوتر وكذلك الصناعات الثقيلة كصناعة الصلب والسيارات وكذلك صناعة المواد الكيميائية والصيدلانية وكافة الأجهزة الإلكترونية وغيرها. بالإضافة إلى هذه المسائل فقد تفرّد الإمام ببحث قضية العلاقة بين الديمقراطية والسوق أهمية خاصة، وهي العلاقة التي يعتقد مروّجو قيم العولمة الغربية أن طرفيها متلازمان لا يفترقان، حيث يرون أن الديمقراطية تتطلب السوق، كما أن السوق يتطلب الديمقراطية، لكن الإمام (قدس سره) يرى أن اقتصاد السوق والديمقراطية ليسا هما الركنين المتلازمين دوماً، واللذين يعملان بانسجام لزيادة الرفاه للجميع، وأن الأمر الأقرب للحقيقة والواقع في ظل نظام العولمة الغربية هو التعارض بين الديمقراطية لصالح البعض والسوق، ويستند في ذلك إلى خبرة التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي تجري الآن في مختلف بلاد العالم في ضوء السياسات الليبرالية الجديدة التي تستند عليها العولمة، فالديمقراطية التي يُجرى الدفاع عنها الآن هي تلك التي تدافع عن مصالح الأثرياء والمتفوقين اقتصادياً، وتضر بالعمال والطبقة الوسطى. وهو ما نراه في الدعوة للتخفيض المستمر للأجور وزيادة ساعات العمل، وخفض المساعدات والمنح الحكومية، كما يشير الإمام (قدس سره) إلى أن الديمقراطية الحقة تمارس فقط حينما يكون الناس في مأمن ضد غوائل الفقر والمرض والبطالة، وأنه ما لم يتحقق الاستقرار والتقدم في حياة الناس، فسيبقى الناس مهددين بأن تحكمهم نظم تسلطية. ومن هنا يعتقد الإمام (رحمه الله) أن ديمقراطية العولمة الموجودة حالياً التي تنحاز بشكل مطلق لبعض الأغنياء هي المسؤولة الآن عن كثير من مظاهر التوترات الاجتماعية المتصاعدة في مختلف أصقاع المعمورة؛ صحيح أن تكامل الأسواق عالمياً، وحرية التجارة، وضمان تنقل السلع ورؤوس الأموال دون حواجز من شأنها أن تزيد من الدخول القومية للبلاد الصناعية المتقدمة، ألا أن التوزيع الملائم لمكاسب هذه الزيادة لايتم ما لم تحكمها القوانين الإسلامية العادلة، ولهذا يؤكد السيد الشيرازي أن عجلة العولمة الصحيحة لا يمكن أن تستمر في الاندفاع، دون ما يسمى بالتكافل الاجتماعي وبيت المال ومنح فرص العمل للجميع والحريات الاقتصادية الإسلامية، الذي ترعاه الدولة، لذلك يرى أن وجود نظام حكومي يرعى هذا التكافل وهذه الحقوق، هو الضمانة لاستمرار التأييد الواسع الذي لا يزال يمنحه المواطنون في البلدان الصناعية لنظام السوق. ولذلك يلزم أن لا ننسى مختلف أشكال النضال التي تتم الآن، لتحقيق الديمقراطية المضادة لدكتاتورية الأسواق المعولمة، والمواجهة لبرامج الأحزاب الغربية الرامية لهدم دولة الرفاه والتكافل الاجتماعي، فهناك الملايين من الناس الذين يطالبون، بطريقة أو بأخرى، بوقف جنون السوق العالمية ومراعاة إنسانية الإنسان، وحماية البيئة والعدالة الاجتماعية. وأياً كان الأمر، فإنه بالرغم من موجة النقد التي قادها السيد الإمام في هذا الكتاب لفوضى العولمة الغربية، وطغيانها المدمر للعدالة الاجتماعية، والاستقرار الاجتماعي وإساءتها للبيئة، فإنه يدعو (رحمه الله) لإعادة طرح مشروع دولة الرفاه ولكن بصيغة إسلامية، وهذا يبدو واضحاً من المسائل والأفكار التي طرحها وهي الأفكار التي تعد إنها كفيلة بأن تمنع قيام مجتمع العشرين في المائة، وتحقق العدالة الاجتماعية والاستقرار وتحمي البيئة. وبعد؛ فلابد أن نعي ونعرف نحن المسلمين مخاطر عولمة الغرب وإضرار سيطرة أوروبا وأمريكا على العولمة الجديدة، فإنها حسب رؤى الإمام لا تفكر إلا في نفسها ولاتبصّر الأمور إلا بمنظارها المادي البحت، وتخطط للقضاء على الإسلام والمسلمين لأنها تراهما يدعوان إلى عولمة صحيحة لا تقوم على الهيمنة والاستثمار، والاستبداد والاستضعاف وإنما تبتني إلى جانب النمو والازدهار على المثل والقيم، وعلى العدل والقسط، وعلى الرحمة والرأفة، وعلى التعاون والتوادد، وعلى التبادل والتواصل. وعليه فإن العولمة الصحيحة التي جاء بها الدين الإسلامي الحنيف، ضرورة ملحة، وخاصة في مثل هذا العصر، لأن الإمام الشيرازي يحدد أن عملية تصدير الثقافة والمعلومات وتصدير الفن والعلوم والتقنية، وتصدير المواد الخام والمواد الأولية لاتختلف عن سائر العمليات التجارية الأخرى، فكل واحد منها له تقنياته وأساليبه، وما كان محرماً، فيمكن تنظيم قواعد وقوانين لبيان حرمتها حتى تتجنبها، أو تعديلها وفق ما هو جائز وحلال، لأن العولمة الغربية كما هو معلوم تشمل أهداف غير إنسانية وغير أخلاقية، وأن جلّ تفكيرها مضافاً إلى الربح المادي ولو على حساب الآخرين، في الغزو الفكري والثقافي، لأن العولمة الغربية رغم طابعها الكوني، وما توظفه من طاقات وتوسعها المستمر، ليست قدراً محتوماً تحدد مصير العالم الثالث أو مصير المسلمين، بل إن هذا المصير مرتبط إلى حد كبير بما سنعمل نحن المسلمين وكيف سنواجه التحديات، ولا يفيدنا تجاهل ما يجري حولنا أو الاكتفاء برفضه فقط، وهنا ينصحنا الإمام بالتمسك بالعولمة الإسلامية ومقوماتها ابتداءً من الإعلام وانتهاءً بالعمل الخارجي، فنحفظ على قيمنا ومبادئنا ويلزمنا هداية الآخرين حتى الغربيين لذلك. وفي الختام لابد من استعراض التأكيدات على الحقائق التالية التي تحدد مكانة المسلمين من الظاهرة الجديدة المسماة بالعولمة: الحقيقة الأولى: إن النظام العالمي الجديد والعولمة الغربية هي صناعة أمريكية، وضعت استراتيجيتها منذ عقود خلت، ودخلت حيز التنفيذ بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وترك الساحة مفتوحة للاعب الأمريكي، وهي بذلك لا تكون لصالح البشر، حيث لم يكن الإنسان بما هو إنسان، المحور فيها، غير أن العولمة الإسلامية هي التي تكون بصالحه تماماً وأنها تتميز بميزة تقديم حقوق الإنسان عليها، وجعلها المؤشر الرئيسي لتوجيه مسار العولمة لأنها وحدها ـ حسب قول الإمام ـ تجمع النمو والازدهار، والعدل والأخلاق. لذلك لا يمكن قبول فكرة هيمنة السوق بصورة مطلقة على عملية العولمة دون اعتبارات إنسانية وحقوق الإنسان وكرامته. الحقيقة الثانية: الرأي القائل بأن المجتمع الغني بالمعلومات والمدعوم بعتاده الآلي الحديث سوف يقضي بوحده على الأمراض الاجتماعية الراهنة والتخلف المخيف، هو رأي بعيد عن الواقع، فليس من الصحيح ما يتصوره بعض أبناء الأقليات الغنية بأنهم سوف يتغلبون بصورة سحرية عندما يوجهون نظم الكومبيوتر، على سنوات الحرمان المتراكمة عبر الأجيال، دون الالتفات إلى الواقع الذي أغلبه من الفقراء والمعدمين والمحرومين على مستوى العالم وبلدان العالم الثالث على وجه الخصوص، مضافاً إلى فكرة استخدام علاقات القوى السياسية لفتح الأسواق العالمية قسراً، وغزوها قهراً من دون مراعاة القوانين الإنسانية والإسلامية. فالعولمة التي ينبغي طرحها على الساحة العالمية والتي تتضمن الإنقاذ الحقيقي للبشرية، في مختلف أبعادها حتى الإنساني والمعنوي منها، فإنها لا تتحقق إلا في ظل العولمة الإسلامية الحكيمة التي تلبي حاجيات الإنسان الفطرية والمادية والمعنوية، وتحترم حقوقه المشروعة وتنشر العدل والقسط في العالم. الحقيقة الثالثة: ليس من الصحيح تصديق كل ما يقال من أن النظام العالمي الجديد الذي خرجت من إطاره العولمة الغربية سيعمل على تحقيق العدالة والمساواة بين كل شعوب العالم، وأن هدفه الأول تحقيق ضمان حقوق الإنسان وصيانة كرامته وحل النزاعات الدولية، ولكن ما حدث ويحدث عكس ما يقال ويسمع، فالولايات المتحدة وهي الدولة التي تقود النظام العالمي الجديد وترعى العولمة، هي المسؤولة عن العديد من الانتهاكات لحقوق الإنسان في العالم. وعليه؛ فإن العولمة الصحيحة التي أمر بها الإسلام، في مجال حقوق الإنسان تدعو للانفتاح على الآخرين وتأمر بالأخذ والعطاء معهم، فإنه كلما يتم التعاهد أو التوافق بين المجتمع الدولي على أهداف محددة، أو مفاهيم معينة، مقابل التزامات يقبلها الجميع، تأمر بالمشاركة وتعاون الدول فيما بينها لتطبيقه وتضمن المنع من الانتهاكات لحقوق الإنسان، وكذلك الالتزام بالمفاهيم التي أقرها المجتمع الدولي من خلال أكثر من مائة اتفاقية ومعاهدة وإعلان رسمي، وبيان دولي، وعدّ ما جاء فيها من حقوق الإنسان بأنه كلٌّ لا يتجزأ، فالإسلام قد بين حقوق الإنسان في بدو رسالته. الحقيقة الرابعة: إن التقنيات الحديثة قد أثارت حماساً شديداً، كما أثارت العديد من التنبؤات غير المدروسة بفوائد اجتماعية واسعة النطاق، إذ يقال: إن استخدام الآلات الإلكترونية الحديثة ستوفر في وقت واحد كم وكيف وفورية إعلامية ومعلوماتية ستعمل إلى جانب تقليص المسافات والمساحات الجغرافية على تضييق الفجوة بين الجنوب والشمال، وبين الفقر والغنى، غير أن ما يحدث في الواقع العملي عكس ما بشر به دعاة العولمة، فالفجوة تزداد اتساعاً بين من يملك وبين من لا يملك، بين الأغنياء وبين الفقراء، بين القادرين على حيازة تكنولوجيا المعلومات والتعليم عليها، وبين غير القادرين على المستوى الوطني والإقليمي والدولي، وإن الفجوة ستزداد اتساعاً، وإذا ما اعترفنا بعمق الفجوة المعرفية والتقنية، فإنه من غير الصحيح إنكار جوانب أخرى وأمراض عديدة وخطيرة خارجة عن نطاق سيطرتنا، فما يحدث الآن هو تعديات مخيفة على خصوصيات بيوتنا وثقافاتنا ومحرمات لم يسبق انتهاك حرمتها. الحقيقة الخامسة: وبناءً على ما تقدم فإن العالم اليوم بحاجة ملحّة إلى مشروع عالمي مبني على العدالة والإنسانية تلتقي عنده شعوب الأرض وتجتمع عليه، مشروع يوحّد كل هذه الشعوب ويسمح لها في نفس الوقت بالتمايز الذي يحفظ عبره الهوية وأصالة كل شعب لنفسه، هذا المشروع يجب أن يقوم على أساس المساواة حتى يستطيع أن يبلغ هدفه الأساسي، الذي هو تحقيق العدالة والسلام والتقدم للبشرية جمعاء، بالإضافة إلى توفير إدارة جيدة لشؤونها المشتركة. وعليه فإن النظام الأفضل حسب ما يراه الإمام الشيرازي (رحمه الله) يجب أن يتركز عليه هذا المشروع والذي أخذ من نوره أيضاً ميثاق الأمم المتحدة: هو ما جاء به الإسلام العظيم، وبلّغ له الرسول الكريم (ص) وأهل بيته الطاهرون (ع)، فإنه النظام الشامل والكامل الذي يستطيع أن يلبي حاجات الإنسان، ويحترم حقوقه المشروعة وينشر العدل والقسط بالعالم. مركز الإمام الشيرازي للبحوث والدراسات بيروت لبنان / 1423هـ 2002م
================================ (5) سورة الأنبياء: 107 (6) سورة يوسف: 104 (7) سورة الحجرات: 13 (8) سورة سبأ: 28 (9) سورة الأنبياء: 92 |