|
فقه العولمة.. دراسة إسلامية معاصرة كلمة الناشر |
إن العولمة من حيث اللفظ هي من الألفاظ الجديدة في قاموس اللغة العربية، كما إنها من المصطلحات الحديثة في عالم اليوم، وكذلك هي من الموضوعات المستحدثة الكثيرة الزبرج والبهرج، والكبيرة الصدى والسمعة، في عصر الذرة والفضاء، وفي عصر الانترنيت والارتباطات. لكنها مع ما يبدو من حداثتها وتجددها ـ وبكل جوانبها الفكرية والاقتصادية، والسياسية والمدنية ـ ليست شيئاً جديداً، ولا أمراً حادثاً، وإن كانت العولمة الغربية بطابعها التوسعي العدواني، ومعناها الاستعماري الخفي شيئاً جديداً، وأمراً طارئاً، إلاّ أنّ العولمة الصحيحة التي أرادها الله للبشر التي تجمع بين النمو والازدهار، والعدل والأخلاق، بدأت مع بداية إرسال الأنبياء أولي العزم(ع)، فهي متجذرة وضاربة بجذورها (كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء) (1) وأخذت تتبلور وتتكامل أسسها مع بعثة نبينا محمد (ص)، بالإسلام والقرآن، فإن الوحي نزل على رسول الله محمد بن عبد الله (ص) في مكة المكرمة قبل أربعة عشر قرناً بالإسلام مبشراً بالعولمة الصحيحة، وأنزل عليه القرآن دستوراً جامعاً لكل الأسس وجميع القواعد الممهدة لهذه العولمة، وجعلها شاملة لكل الجوانب الفكرية والاقتصادية والسياسية والمدنية، وجامعة لكل عوامل النمو والازدهار، والعدل والأخلاق. مثلاً: إن القرآن الحكيم يدعو الناس كل الناس إلى أصلين رئيسيين من أصول العولمة الصحيحة ودعامتين مهمتين من دعائمها وأركانها، إلا وهما: كلمة التوحيد، وتوحيد الكلمة. وبعبارة أخرى: إنه يدعوهم في جانب العقيدة إلى وحدة الاعتقاد بالمبدأ وهو الله الخالق الرازق، والعدل الحكيم، الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم بلا مشير ولامعين، ولا ندٍ ولا شريك فيقول: (إن إلهكم لواحد * رب السماوات والأرض وما بينهما ورب المشارق) (2)، ومن المعلوم أن العقيدة الصحيحة هي الأساس الرصين للعولمة الصحيحة. كما يدعو في جانب العمل إلى الاتحاد والانسجام، والتكاتف والتعاضد، وتوحيد الكلمة على التقوى والفضيلة، وعلى الود والمحبة، وعلى التراحم والتواصل فيقول: (وإن هذه أمّتكم أمة واحدة وأنا ربّكم فاتقون) (3). وجعل دعامة هذه الأمة الواحدة، وعمودها الفقري، متقوما بنظام اقتصادي لم يسبق له مثيل، ولن يأتي له نظير، إنه لا يشبه الاشتراكية، ولا يماثل الرأسمالية، بل هو نظام وحيد في نوعه، فريد في شكله، منسجم مع فطرة الإنسان وعقله، محقق لطموحه وآماله، جامع بين العدل والأخلاق، والنمو والازدهار، ومن الواضح: إن توحيد الكلمة هي أيضاً الركن الوثيق الآخر للعولمة الصحيحة. إن القرآن الحكيم جعل محور هذين الأصلين، ومركز هاتين الدعامتين: القيادة الواحدة والزعامة الموحدة هي الولاية لله الحكيم، خالق الإنسان، العارف بمصالحه، والرحيم به، ثم جعلها لبشر معصومين من الخطأ والاشتباه، ومن الظلم والاستبداد، وهم: النبي الكريم محمد بن عبد الله (ص) ومن بعده أوصياؤه الطاهرون الاثنا عشر: أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (ع) ثم الإمام الحسن، ثم الإمام الحسين، وحتى الإمام المهدي (ع) وعبّر عنهم (ع) بحبل الله فقال: (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا) (4). وقد أخبر الإمام المهدي (عج) عند غيبته بأن الولاية في زمن الغيبة مفوضة من قبله إلى الفقهاء المراجع، الجامعين لشرائط الفتوى، من العدالة والتقوى، والورع والفضيلة، الذين يبنون أمرهم على التشاور فيما بينهم، وعلى الاهتمام بشؤون الناس، والتضحية من أجل مصالح الأمة ومنافعها، ورفاهها وسعادتها، ومن البديهي: إن القيادة العادلة، والمضحية بمنافعها ومصالحها من أجل مصالح الناس ومنافعهم، هي محور دائرة العولمة الصحيحة، كقيادة رسول الله (ص) والإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) المستمدة من ولاية الله، والمؤيدة منه. وهكذا لم ينس القرآن الحكيم ـ كما عرفت ـ محور العولمة الصحيحة، ولم يغفل عن أركانها ودعائمها، كما لم ينس التنشئة على العولمة الصحيحة، ولم يغفل عن التربية وفق نظامها، وذلك عن طريق التلقين النفسي، والإيحاء الروحي المستمر، وفي قالب التحية القرآنية والشعار الإسلامي: (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته) حتى يتطبّع الناس كل الناس بطابع العولمة الصحيحة، ويتكيفوا بكيفيتها، وينسلخوا من ضيق الفردية، ويتخلصوا من خناق الأنانية، وينطلقوا من وثاق الحسد والحقد، والإثرة والاستبداد، إلى عالم الأسرة الواحدة، ودنيا البيت الواحد، الذي يحكم أجواءه التفاهم والتعاون، ويغطي سماءه المحبة والوداد. إنّه فرض على الناس جميع الناس: الصلاة لله الواحد الأحد، وبهذه الكيفية الواحدة المعروفة عند المسلمين، وبلغة واحدة، وإلى قبلة واحدة، وشعار واحد وهو: الأذان، وبدعاء واحد وهو: طلب الهداية إلى طريق واحد مستقيم، يعني: طريق رسول الله (ص) وأهل بيته (ع) كما جاء في الحديث والتفسير، واجتناب غيره من الطرق المنحرفة، وإهداء السلام والسلامة من الله على المصلين أنفسهم، وعلى جميع عباد الله الصالحين. وهكذا بقية ما فرض عليهم من صيام شهر واحد، وبصورة واحدة، وحج بيت واحد، وبهيئة واحدة، ونسك واحد، ووقت واحد، وإلى غيرها من الفرائض الروحية والمعنوية، أو المالية والاقتصادية ـ كالخمس والزكاة، والجزية والخراج ـ التي تربّي الإنسان على الانسجام في نظام العولمة الصحيحة، وتدربه على التكيّف وفقها. إذن: فالعولمة الصحيحة هي العولمة التي جاء بها الإسلام، ودعا إليها القرآن، وبلّغ لها رسول الله (ص) وأهل بيته (ع) وهي وحدها العولمة التي تستطيع أن تلبي حاجات الإنسان المعاصر، وتسعد حياته في الدنيا والآخرة.. وهذا الكتاب (الفقه: العولمة) هو من مجموعة مؤلفات سماحة المرجع الديني الأعلى آية الله العظمى الإمام الشيرازي (قدس سره) التي تجاوزت 1250 كتاباً وهو ضمن الموسوعة الفقهية التي بلغت 160 مجلداً، وقد كتبه إشارة إلى ما يمتاز به الإسلام من سبقه الغرب في طرح كل الأمور التقدمية والحضارية، وبأحسن صيغة يمكن طرح ذلك الأمر الحضاري التقدمي، كما طرح صيغة العولمة الصحيحة التي لا قياس لها بما طرحه الغرب، ونحن مساهمة منا في نشر الثقافة الإسلامية الراقية وإغناء المكتبة العلمية الزاهرة، قمنا بطبع هذا الكتاب ونشره راجين من الله التوفيق والقبول، إنه سميع مجيب. مؤسسة المجتبى للتحقيق والنشر |