الصفحة الرئيسية

الأعــداد السابقــة

فهرست العــدد

إتصــلوا بـنـــا

    قراءة في كتاب

مسرح التعزية في العراق

د. مناضل داود

لا أحد يملك أن يجزم أن هذه الطقوس تمارس لسبب ديني فقط، بل سيبكي الشيعة ما دام الحسين (ع) – حسب اعتقادهم – سيكون شفيعهم يوم القيامة، وسيصرخون في وجه السياسي السلطوي الذي لم يقو على احتمالهم.

ولد المسرح العراقي في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، على مجموعة من الرهبان المسيحيين في محافظة الموصل، فكانت البداية مسرحيات وعظية لها علاقة بالمسرحيات التي قدمتها الكنائس في العصور الوسطى، وذلك للعلاقة الوطيدة بين الكنائس في مدن الموصل وروما وباريس حيث كان الرهبان يرسلون للدراسة ثم يعودون إلى العراق للعمل والتدريس في المدارس المسيحية العراقية.

وحين أسست الدولة العراقية عام 1921 وجد الفنانون العراقيون على قلتهم أن الاستعمار البريطاني يطوق عنق الوطن، فكان المسرح العراقي وطنياً على يد مؤسسه ورائده الأستاذ حقي الشبلي، والذي استبدل اسم المعهد الموسيقي باسم معهد الفنون الجميلة بعد أن أدخل فيه قسم الفنون المسرحية ببغداد.

وهكذا ضاعت على المسرح العراقي فرصة ذهبية وهي الانتباه للإرث المسرحي الغني والمتمثل في الفرجة المسرحية في طقوس التعزية والتي ظهرت في العراق  بحدود القرن الرابع الهجري.

يقول الباحث والمخرج العراقي محمد سيف في حديثه عن وطنية المسرح العراقي "إن القدر العراقي قد خزن في أعماقه دراما لم تنجز، حتى أصبحت تراجيديا أسطورية قادرة على أن تنجز عملاً مسرحياً بمعناه الحقيقي، إن التراجيديا الأسطورية من وجهة نظري هي مكان أو بالأحرى عرض للعقيدة التي تتأرجح ما بين الواقع والخيال، فالمواجهة اختلاف يأخذ جذره من طقوس عاشوراء.

فلا تكمن أهمية طقوس التعزية في العراق كونها طقوساً دينية تراجيدية يتم اللطم والنواح فيها على شخصية الحسين بن علي (ع) فحسب، بل إنها كانت ستسهم في تطوير وبناء مسيرة المسرح العراقي لو أن الظروف الموضوعية لهذا الفن كانت تسير بشكل سوي، مثلما قدمت الطقوس اليونانية الأساس القويم لبناء المسرح الإغريقي (إن الإيمان والزهد التامين في تقديم طقوس البكاء، كان لهما الدور الحاسم في عملية سير وتكوين المسرح اليوناني). إننا نتحدث عن تراجيدا الحياة في الجسد، وهي ليست جسداً فردياً، وإنما الكل في حركة واحدة متوحدة متنوعة ومتناسقة، لا أحد يملك أن يجزم أن هذه الطقوس تمارس لسبب ديني فقط، بل سيبكي الشيعة ما دام الحسين (ع) – حسب اعتقادهم – سيكون شفيعهم يوم القيامة، وسيصرخون في وجه السياسي السلطوي الذي لم يقو على احتمالهم. وجدير ذكره إن هذه الطقوس منعت في منتصف السبعينيات من القرن الماضي في العراق – وهكذا أسس الشيعة من خلال هذه الطقوس الفضاء الرحب لفرجة مسرحية تراجيدية، هذا المسرح الطقسي الذي كان (أرتو) يبحث عنه (وكروتوفسكي) في مسرحه الفقير وأخيراً يذهب بيتر بروك إلى قرية إيرانية ليقول بعدها – شاهدت في قرية إيرانية نائية شيئاً من أقوى الأشياء التي شاهدتها في المسرح في أيما وقت مضى: (مجموعة من أربع مئة قروي يجلسون تحت شجرة ينتقلون من هدير الضحكات إلى النحيب العلني، رغم أنهم يعرفون تماماً نهاية القصة، فقد شاهدوا الحسين (ع) سابقاً وهو يتعرض لخطر القتل، وكيف كان يناور أعداءه، واستشهاده بعدئذ، وعندما يموت الحسين (ع) يغدو شكل المسرح حقيق). ولكن السؤال الأهم هنا: أين هي التعزية في المسرح العراقي وهو وريث هذه التراجيديا التي تمت على أرضه؟

لقد اعتمد المسرحيون في كل العالم على استلهام مادة نصوصهم من الملاحم والقصص الفلكلورية التي أنتجتها شعوبهم على مر العصور، فأسسوا بذلك مسرحهم، وطوره ليصبح مادة إنسانية فنية جدلية، حتى أصبحت تتسابق في فهمه واستقرائه وتدريسه دول كثيرة، وتكون لدينا منظرون لمدارس مختلفة، وما زال البحث مستمراً، فمنذ ستانسلافسكي وإلى اليوم تتنافس روسيا وأوروبا وأمريكا في طرق تربية الممثل كل بإسلوبها، وإذا مل الأوروبيون من طريقة عملهم ذهبوا إلى الشرق لاكتشاف هذه الطقوس في بلاد الشمس.

إن ثلثي المجتمع العراقي المكون من الطائفة الشيعية التي تمارس هذه الطقوس بكل وجدانها أنتجت مسرحاً لم نرد وأعني لم نجر عليه بحثاً أو نستقرئه أو نخض تجربة واحدة فيه. وإذ نعتقد في هذا البحث، أن هذه الفرجة مسرحية تمتلك من عناصر الدراما والتراجيديا ما يجعلها أن تكون مادة فنية مهمة تغني المسرح العراقي بشكل خاص والمسرح العربي بشكل عام، لنا أن نعيد سؤالنا مرة أخرى: أين هي التعزية في المسرح العراقي؟ والجواب ليس خافياً على أحد، أولاً: فالسلطة الرسمية في العراق ومنذ أن تكونت الدولة، هي سلطة طائفية، فقد أبعد الشيعة عن مراكز الحكم، حتى وإن طلبت الدولة في بعض الأحيان استيزار أحدهم (الشيعة) رفضوا.

ثانياً: إن عمر المسرح العراقي قصير، ولما بدأ مخرجوه – أقول مخرجوه لأن المسرح لا يمكن أن يحيا متطوراً بدون مخرج – الذين درسوا في روسيا وأوروبا وأمريكا جاءوا بتجارب جاهزة فكانت بتأثيرات المكان الذي درسوا فيه.

ثالثاً: إن أغلب المثقفين في العراق كانوا ومازالوا يتفادون هذه الطقوس، وهذه إحدى أهم المشاكل الأساسية: وهي أن المثقفين بشكل عام ينظرون إلى الإسلام بشكل فوقي متأثرين بالفلسفات الأخرى، وهي من وجهة نظرنا نظرة سطحية خالية من التأمل، والدليل أن الثقافة السائدة لدينا تناست الإشراقات العظيمة في الإسلام والمتمثلة في التصوف وأخوان الصفا والمعتزلة والقرامطة – هذا للمثال وليس الحصر – وجدير ذكره أن العهد الإسلامي المتمثل بابن رشد وابن سينا والفارابي وابن خلدون، هو ذلك العصر الذي بزغت من خلاله أوروبا، وأخيراً لدينا عقدة نقص حقيقة وهي أننا لا نجيد اكتشاف ذاتنا ونلحق بالآخر الذي يتجاوزنا باكتشافه لنا، ابتداءً من المنجز الاقتصادي – لقد عثرت أوروبا على النفط في بلادنا لتبيعنا إياه – إلى المنجز الثقافي الذي ذكرناه سلفاً، فعلى سبيل المثال وحينما يتحدث مخرج مثل بيتر بروك عن مسرح التعزية، تتكشف لنا أهمية هذه الطقوس وتبدو عندئذ صالحة للبحث والاستقراء والتأمل.

إن طقساً أستطاع أن يشغل مشاعر أمة كاملة عشرة أيام كل عام، بهذا الحضور والسطوة العالية منذ القرن الرابع الهجري وحتى يومنا هذا عبر لغة تراجيدية بصرية ليستحق الدراسة منا بكل تأكيد.

إن أهمية بحث هذا الموضوع ودرجة حيويته في الزمن الراهن، يكمن في أنني أبحث عن المنجز الشخصي والهوية، فلا نستطيع أن نثبت جغرافيتنا دون أن نمتلك تاريخنا، فالبحث في منجز التعزية هو البحث في منجز شعب، فعندما أقف على المسرح وأحرك يدي أو رأسي أو أطلق نفساً حاراً أشعر بانتمائي الحقيقي لهذا الفعل لأنه فعلي، وتلك إيماءتي، بكل بساطة، أريد أن ألعب في بيتي الذي ترعرعت وحلمت وضحكت وبكيت فيه، فكم أليف هو شارع الطفولة الذي نلعب فيه كل يوم، ولكنه يصبح أكثر ألفة عندما تعلق الرايات والقناديل معلنة عن أيام عاشوراء.

وعن أيام عاشوراء تحدث بعض الرحالة والسفراء الأوروبيين الذين عاشوا في إيران في القرن السابع عشر أمثال الألماني اولياريوس (1671م) والفرنسي تافرنييه، وإن أول من شاهد عرضاً للتعازي وأطلق عليه اسم عرض مسرحي درامي هو الإنكليزي فرانكلين وذلك عام 1788م ويقول السير لويس بيلي 1879م وهو دبلوماسي بريطاني عاش في طهران (إذا توجب قياس نجاح الدراما عن طريق التأثير الذي تحدثه على الذين ألفت من أجلهم، أو على المشاهدين الذين تمثل أمامهم، فلا توجد أبداً مسرحية فاقت التراجيديا المعروفة في العالم الإسلامي باسم (الحسن والحسين عليهما السلام)) ويرى محمد عزيزة في كتابه الإسلام والمسرح ظاهرة غياب المسرح في العالم الإسلامي: الاستثناء الوحيد لقاعدة الغياب المسرحي هذا: هو التعازي الشيعية التي أعطت الإسلام ابتداءً من القرن السابع الشكل الدرامي الوحيد الذي يعرفه.

إن إعادة تمثيل واقعة استشهاد الحسين بن علي كل عام في العراق، هي تعبير الناس عن الرغبة في محاكاة الواقعة التي تحاول الإنسلاخ عن الدين في أحيان كثيرة، وذلك لمحاكاة الظروف المستجدة على المستويات الثقافية والاجتماعية والسياسية على الوجه الأخص، ففي دراسة له بعنوان: التعازي طقس درامي شعبي: يقول الدكتور فاضل سوداني. (ومن المعروف أن التعازي في بداية نشوئها كانت تقليداً حياً لمأساة الإمام الحسين(ع) بكل تفاصيلها الواقعية، ولكن بمرور الزمن لم تعد طقساً دينياً فحسب وإنما امتزجت بالحياة السياسية والاجتماعية، حيث أن بطلها (الحسين) لم يعد رمزاً دينياً فقط بل رمزاً لبطل قومي، ثوري يستلهم الشعب ثوريته وتضحيته من خلال إعادة ذكراه. لقد قلنا إن الحسين أصبح بطلاً قومياً وثورياً، تنعكس ثورته ومأساته على الواقع المعيشي، فنرى أن هذه التظاهرات استغلت ضد الظلم الذي يعاني منه الإنسان في العراق المعاصر. فكثير من هذه القصائد والأغاني والأشعار لها أبعاد وأهداف سياسية تدعو الإنسان للثورة على واقعه الذي يعاني منه).

ويؤكد هذا الرأي الكاتب العراقي فاضل الربيعي حيث يتساءل: ما الذي يدفع العراقيين لإعادة هذه الواقعة بكل هذه القوة كل عام والمكتوبة بكثافة الشعر؟ سيقال لنا حتماً إن العامل الديني يقف وراء كل هذا.. وهذا ليس كافياً، فالناس تبحث عن بطلها المفقود، بطلها الذي مات، ولا بد لها من إيجاد رمز لبطل قومي في زمن غاب فيه الأبطال فكان الحسين (ع) هو المثل الأعلى لهم ويتكشف لنا من خلال التاريخ، أن الطابع السياسي المعارض لسلطة الحاكم في طقوس التعزية ليس بجديد ولم يبدأ في القرن العشرين بل كانت بدايته منذ أن تكونت فكرة التشيع، وفي هذا السياق يقول الدكتور علي الزبيدي "إن معز الدولة البويهي قد أمر الناس أن يغلقوا دكاكينهم في العاشر من محرم. وهذا تقليد جرت عليه العادة حتى يومنا هذا – ويضيف الزبيدي، والظاهر أن تقديم طقوس التعزية قد حدث فيه تطور في القرن التاسع عشر، فقد انتظمت بشكل فني رائع بحيث أمست مسرحيات حية تدور فيها حوادث استشهاد الإمام الحسين لمدة عشرة أيام متتالية، وحاول الولاة منعها بمن فيهم مدحت باشا فلم يفلحوا، وهذا المنع جاء في بيان رسمي نشرته جريدة الزوراء في 4 محرم 1286 هجرية وخبرنا محمد عزيزة عن سميرنوف الذي شاهد آخر عرض للتعازي في إيران عام 1916م حين ختم وصفه بالعبارات التالية (إنه لمن المؤسف حقاً أن تخسر فارس مثل هذا الشيء العظيم) وفي دراسة للمستشرق الفرنسي ماريوس كنار، بغداد في القرن الرابع الهجري) نجد أن هذه الطقوس قد منعت في بغداد سنة 1002 على يد حاكم العراق أبي علي بن أستاذ هرمز.

تضمن الكتاب ثلاثة فصول وخاتمة عناوينها على التوالي:

الفصل الأول: دور النبوة في تأسي محبة الحسين.

الفصل الثاني: المسرحية الدينية في القرون الوسطى وعلاقتها بالتعزية.

الفصل الثالث: التعزية في الثقافة المعاصرة.

وقال المؤلف في الخاتمة:

ربما ستموت وإلى الأبد فكرة تطوير مسرح التعزية والتي هي موضوع بحثنا اليوم ذلك لأنه عانى من مشاكل كثيرة وعلى مستويات عدة كما ذكرنا ذلك سلفاً وعلى سبيل المثال فغياب الديمقراطية ترك أثره السلبي حتى على بحثنا الذي عانى من مشكلة أساسية وهي قلة البحوث التي تتناول هذا المسرح (الممنوع) على مر العصور كما تلمسنا، وهذا ما حرم بحثنا البكر من التوسع، فلدينا شواهد وآراء لم تجد لها مصدر يؤيدها ونحن قد التزمنا المنهج العلمي في طريقة الكتابة فظلت هي الأخرى حبيسة صدرنا، فمثلاً إن أغلب الجيل المثقف و(التقدمي) نظر إلى هذه الطقوس بعدها مظاهر متخلفة يجب محوها والتخلي عنها بسبب الخلاف الفكري ولعمري أن في هذا جهلاً وتعسفاً خاصة الخوف من أيديولوجية الآخر هذا يعني أن مسرح التعزية لم يكن ممنوعاً من السلطة الرسمية وحسب بل من بعض المثقفين.

يقول المخرج الروسي مايرخولد (كنا ولا نزال نتمسك بضرورة الانطلاق من جذور التقاليد واستخلاص كل ما له بد منه لأداء الممثل على خشبة المسرح. إن القول بضرورة التغلب على التقاليد مغبة أن تزحف إلينا أيدلوجيتها، أي رؤية العالم والمفاهيم عنه ووجهات النظر السائدة حينها، هو قول لا يجد ما يبرره ذلك أن المهمة إنما تكمن على وجه التحديد، في عدم السماح للأيدلوجية الضارة بالتسرب إلينا عند أخذنا بالتكنيك، هنا يكمن السر. إننا عندما نفتش عما يحتاج إليه الممثل، ونطلب منه أن يدرس الماضي وينتزع منه الجذور الضرورية له ضرورة عملية، فإننا لا نقترح مطلقاً أن يأتي بالأيدلوجية مع هذه الجذور)).

إن تجربة مسرح التعزية تجربة غنية ومتطورة لأنها تمتلك إسلوباً فريداً في طريقة العرض الناتج عن مبدأ عفوي في اختيار المكان والذي هو: البيت، الشارع، المسجد، هذه الفضاءات الثلاثة التي تحمل تاريخاً ثرياً من الدلالات، فالبيت الذي تؤدى فيه طقوس النساء هو ذلك البيت الذي ولدنا وترعرعنا فيه بيت الطفولة، بيت الإلفة الأولى، إنه المكان الذي مارسنا فيه أحلام اليقظة وتشكل فيه خيالنا كما يقول غاستون باشلار. إنه مسرح شديد الخصوصية– وذلك لشعور المرأة التام بالأمان إنه مسرح البيت وتحديداً وسط الدار أي في قلب البيت وعلى حد تعبير باشلار (إننا عندها نشعر أننا نعيش في القلب الذي يحمينا، إننا أيضاً نلتف ببطانية الشتاء. نشعر بالدفء لأن الخارج بارد) ولذلك يتكون جمهور هذا المسرح من الأطفال فقط وهم يتراشقون النظرات من على السطح ويخبئون للزمن القادم ذكريات عن الأم والأخت والجارة وهي تمارس فعلاً تراجيدياً.

المكان الثاني حيث الفرجة المسرحية المعلنة هو الشارع (فالمكان يدعو للفعل ولكن قبل الفعل ينشط الخيال، ينقي الأرض ويحرثها) ومسرح الشارع يدعو للتحريض ولذلك منعت هذه الطقوس كما أشرنا سابقاً بسبب التحريض المباشر والمرمز الذي يدعو إليه هذا المسرح يقول فالترهينك (التحريض هو الغرض الوحيد لـمسرح الشارع حيث يفضل من أجل تحريض المشاهد على التمثيلية والحوارية أو القطع الغنائية الإلقائية أو الأغاني. وتختار الفرق كمكان للعرض ساحة مزدحمة في المدينة أو بوابة المعمل أو حرم الجامعة أو بيت الشبيبة) ومن هنا في مسرح الشارع يحدث الاحتكاك المباشر مع الجمهور ودعوته للمشاركة من خلال هذا المسرح الجوال الذي يجوب الشوارع والحارات والمدن، إنه مسرح متحرك يقوده متفرجوه على حد تعبير محمد سيف. وبهذا الصدد يقول بيتر بروك (غير أن المسرح إذا ما افتقر إلى الجمهور يصبح مفتقراً لوجوده فالجمهور هو التحدي الدائم وبدونه تبقى الصورة كاذبة).

أما المكان الثالث فهو المسجد بكل ما يحمله من تأثير روحي كبير على المشاركين والجمهور على حد سواء، حيث يشترك الممثل والمشاهد المشارك بلا حواجز نفسية أو اجتماعية أو ثقافية، وبما أن العلاقة وثيقة بين المسرح والدين بقي المسجد أحد مفردات المكان الذي تتم فيه عروض التعزية التي لم تصبح دنيوية تماماً كما جرى مع الطقوس اليونانية يقول غروتوفيسكي (لا أظن أن من الممكن فصل أزمة المسرح عن أزمة معينة أخرى آخذة مجراها في الثقافة المعاصرة، إن أحد عناصرها الأساسية – أعني اختفاء القدسية الدينية ودورها الشعائري في المسرح – جاء نتيجة ضعف الدين في المسرح). ولما كان مسرح التعزية من الممنوعات كما ذكرنا مراراً فإن هذا (المنع) قد جعلها تنتج لغة خصبة وهي لغة الشفرات والرموز فانسلت من طيات هذه اللغة دلالات كثيرة لمحاكاة الواقع السياسي والاجتماعي من خلال الندب على الحسين (ع) فأعطت هذه اللغة المشفرة جمهورها فرصة للتفكير والمتعة المشتركة في استخدامها من خلال الغموض الذي يتحمل أوجه كثيرة وذلك لمجابهة المنع المحتمل الذي يطارد هذا المسرح مما يجعل (المشاهد المشارك) مشاركاً أيضاً في إعادة إنتاج المعنى أي صنع الدلالة وهذا ما يقوده حتماً للدفاع عن هذا المسرح الذي شارك في صنعه، إضافة إلى ذلك أنتجت هذه اللغة المشفرة شكلاً مثيراً في استخدامها للإكسسوارات البسيطة مثل الرايات والرماح التي تحمل أيادٍ مقطوعة والماء الذي يمثل العطش الدائم، هذا الشكل الذي كان بدوره يلعب أهمية كبيرة توازي المضمون يقول ج. ل. ستيبان (في الدراما الطقسية يصبح الممثل مديراً للخشبة، ويكون اهتمام المسرحية بالشكل كبيراً قدر اهتمامها بالمضمون، ذلك لأن الشكل ذاته هو الذي شد الجمهور للمشاركة ومنح المشاهد فرصة التفكير في سرية هذه المناسبة. يبدو أن المرحلة الأخيرة من تطور الدراما الرمزية كانت الطقسية، فعن طريق الطقس تصبح الرموز فوق طبيعية ويصبح المعنى المجازي للحدث على الخشبة مفهوماً دون سؤال والتواصل بين الخشبة والجمهور كاملاً وبهذا الشكل يحتفظ الحدث على الخشبة بغموض له نظام واقعي آخر ولا يمكن الإحساس به إلا من خلال معايشته كطقس)).

ومن هنا يمكننا التساؤل أي مسرح هذا الذي تفتح له البيوت والشوارع والمساجد أبوابها على مصراعيها عشرة أيام متتالية من كل عام؟ يقول غروتوفيسكي في مشكلة بحثه عن المكان بعده أحد عناصر المجابهة مع الجمهور (أراد آرتو القضاء على الحاجز الذي يفصل بين الممثلين والجمهور، يبدو أن هذا عمل رائع ولكن يجدر أن تلاحظ أنه لم يقترح القضاء على المسرح كجزء منفصل عن صالة الجمهور ولم يقترح بناءً مختلفاً يتكيف مع كل عرض مسرحي جديد، وهكذا يخلق أساساً حقيقيا للمجابهة بين مجموعتين هما الممثلون والجمهور).

أي مسرح هذا الذي يعيش فيه الناس حياةً مليئة بالتناقضات المنسجمة وهم يؤدون طقساً بكل هذه الفوضى المنظمة؟ إنها البدائية التي تؤدى في طقوس (الضرب بالسيف) وهي رقص إيقاعي في لطم النساء – وجدير ذكره أن (لطم الرجال) في مدينة البصرة ثاني أكبر مدن العراق وشيعة دولة البحرين يشبه الرقص الإيقاعي – وهو هيجان العواطف في مجالس التعزية وهو تطهير ورياضة روحية يمارسها المتصوفة لبذل الروح وهي حاجة تنتظرها عامة الشعب وهي إعلان سياسي وهي حب نبيل تمرست على تجسيده الشعوب المؤمنة بطقوسها، وكل أصحاب هذه الآراء يشاركون في هذا الطقس سواء المشاركة الفعلية أو مشاركة المشاهد

ـــــــــــــــــــــــــــــ

الكتاب: مسرح التعزية في العراق

الكاتب: د. مناضل داود

الناشر: دار المدى للثقافة والنشر/ سورية/ ط1/ 2006

 

الصفحة الرئيسية

الأعــداد السابقــة

فهرست العــدد

إتصــلوا بـنـــا