الصفحة الرئيسية

الأعــداد السابقــة

فهرست العــدد

إتصــلوا بـنـــا

    سياسة

حالة شاذة غير طبيعية

درويش محمى

 الشرقيون مصابون بعقد نفسية مزمنة........ أنهم يحبون من يعاملهم بقسوة........ الكلمات لا تعني لهم شيئاً محدداً وهم كذلك يقولون اشياء لا يعنونها........ أنهم ابناء اللحظة الحاضرة..

مقتطفات من سباق المسافات الطويلة، احدى اهم اعمال الروائي عبد الرحمن منيف، حضرتني وأنا أقرأ في سلسلة ردود الفعل (العنيفة) على عملية اعدام صدام حسين للعديد من الكتاب والمثقفين والساسة العرب.

نادراً ما يلتقي العربي الشرقي والاوربي الغربي على موقف معين، كما حدث مؤخراً، من تنديد واحتجاج على عملية الاعدام التي طالت صدام حسين، تلك العملية التي ادت الى جدل واسع في المحيط العربي وحتى الدولي، التنديدات الغربية لعملية الاعدام لم تصدر حباً بالمعدوم ولا شفقة به، ولا لكون المحكوم لا يستحق الحكم، كما ترجم عن قصد من قبل بعض وسائل الاعلام العربية كعادتها في تشويه الحقائق، في محاولة استغلال تضليلية رخيصة، فالجميع في الغرب كما الشرق، على بينة تامة بسيرة الرجل المعدوم، وما اقترفه على مدى عقود من جرائم وحشية فظيعة، والرفض الغربي لتنفيذ حكم الاعدام بصدام، يعود الى الموقف الاوربي الثابت والمعهود من الاعدام كعقوبة عنيفة وهمجية مرفوضة، مثل هذا الموقف مفهوم وله ما يبرره، كذلك الحال بالنسبة لوقفة الكثيرين من الـ70 مليون امي عربي، فهو أيضاً أمر مفهوم وله ما يبرره، رغم التباين والاختلاف في الاسباب والدوافع لدى كلا الطرفين.

المشكلة الحقيقة والطامة الكبرى هي في موقف (المثقف العربي) من عملية اعدام صدام حسين، فهو لم يعارض كما عارض الاخرون، ولم يحتج لان الاعدام فعل غير انساني وهمجي، بل على العكس تماماً، ليس لاغلبية هؤلاء سابقة احتجاجية من هذا النوع، ولم يسجل لهم موقف معارض مشرف على هذا الصعيد، والمثقف العربي عارض الاعدام لانه استهدف شخص صدام الرئيس والقائد والرمز والبعثي وحتى صدام المجرم، هذا هو الفارق بينه وبين الاخر الغربي في معارضته واحتجاجه على تنفيذ حكم الاعدام، اما الفارق بين رفض وتنديد المثقف العربي وبين الامي العربي، فالاخير ولاسباب عدة رفض واستنكر الواقعة، ربما لما هو فيه من ظلم وظلمات، وكونه لا يميز الصالح من الطالح، ولمحدودية القدرة لديه على التمييز بين الخطأ والصواب، او تحت تأثير وسائل الاعلام المضللة وما اكثرها، اما المثقف العربي وعلى عكس ابناء جلدته من الاميين العرب، ليس بتلك السذاجة ولا الجهل بحقائق الامور ووقائع الاحداث، ويدرك تماماً ان صدام رجل طاغية حكم العراق بالحديد والنار، وخلف وراءه مئات الالاف من الامهات الثكالى والزوجات الارامل والاطفال اليتامى، كما خلف وراءه تركة كبيرة من فنون القتل والتدمير والابادة وخاصة فنون الاعدام، التي شكلت ظاهرة يومية مألوفة في عهده البائد.

عملية اعدام صدام حسين، كشفت عن ازمة حقيقية تعاني منها الطبقة المثقفة وشبه المثقفة العربية، واظهرت ان الفكر السلفي ليس قاصراً على التيار الديني، بل يمتد الى شريحة واسعة من الكتاب والفنانين والصحفيين والساسة (العلمانيين) بمختلف انتماءاتهم الفكرية والايديولوجية، وهذا النوع من السلفية لا تتبع السلف الصالح بل المستبد الغاصب، وتتميز بضيق الافق والتشبث بالفكر الاستبدادي بدون اي مبرر، ولا تمتلك من الدوافع والاسباب، سوى الفوضوية والارتباك في التفكير، وهذا النوع من السلفية التفكيرية غير واضحة المعالم ولاتقل خطورة عن نظيرتها السلفية التكفيرية الاسلامية، وربما اكثر خطورة واكثر انتشاراً من السلفية المعروفة، بالاضافة الى كونها ذات طابع انتهازي ووصولي، وتشكل حالة شاذة غير طبيعية وخطرة، تعكس مدى الانحطاط الاخلاقي والتخلف الفكري، لدى شريحة هامة جداً من الكيان الاجتماعي، والتي من المفترض ان تشكل اداة التغيير الاساسية، في اية عملية تطوير مرتقبة.

موقف معظم المثقفين العرب ودفاعهم المستميت عن الطاغية، وما يمثله من فكر استبدادي، يدل وبشكل قاطع مدى تأثير الموروث السلطوي على وعي المثقف العربي وكيانه الاخلاقي والفكري، كما يبدو جلياً ان المثقف حاله حال المواطن العادي، قد اعتاد على القائد صاحب السلطة المطلقة وادمن عليه، وقد استشرت فيه روح التبعية والدونية الى درجة خطيرة، بحيث لا يستطيع ان يخرج من حالة الفوضى الذهنية والتخبط الفكري، وانعدمت الرغبة لديه في التحرر والقدرة على التأمل، والا كيف يمكن لأي كان ان يفسر تمسك بعضهم بثقافة الاستبداد، ودفاعهم عن صدام حسين احد اهم رموز الطغيان، ونظامه الذي يعد مثالاً نموذجياً للنظام الاستبدادي، ويأتي في المرتبة الاولى من حيث الظلم والذل والاستعباد وامتهان الكرامة الانسانية.

ان يخرج كتاب ومفكرون عرب على الملأ، يبكون صدام حسين، متناسين ما قام به من جرائم وفظائع وانتهاكات خطيرة، وأجراء عملية تجميلة خاطفة للرجل وتحويله بين لحظة واخرى من مجرم الى بطل، ومن سفاح الى ضحية، أمر يدعو للحيرة والاستغراب، ويدعو في الوقت نفسه الى التساؤل ايضاً، بشأن حقيقة الاسباب التي تدفع تلك الفئة لارتكاب مثل هذا الخطأ المقصود، وكوني لست مختصاً بعلم النفس ومكامنه ولا يمكنني تشخيص العلة بدقة، فلن اتجاوز حدودي وأتهم غيري جزافاً، لكن الامر المؤكد هو وجود عاهة فكرية وخلل اخلاقي وخطأ فاحش في سلوكية وعقلية هؤلاء، وتشويه فظيع في البيئة التي ينتمون اليها.

يقال ان الاستبداد يحد من سلامة الفكر والابداع ويسبب ضيق الافق، لا يخلوا هذا القول من الحقيقة، بل هي الحقيقة بعينها، حيث يفسر مدى تأثر بعض المثقفين والساسة العرب بعهود الاستبداد الطويلة، حتى اصبح بعضهم جزء لا يتجزء من الافة نفسها، يدافع عن رموزها ويبحث عن الحجج للدفاع عن قيمها، كما اصبح عامل نقل لها الى عامة الناس، ولان الاستبداد يولد التخلف، اصبح المثقف العربي يتصف بالسطحية في المنهج والتفكير، لشعوره الحاضر الدائم بالعجز امام المنظومة الاستبدادية، الى الدرجة التي وصل به الامر للدفاع عن صدام حسين، بدون اي مبرر او خجل ورادع او حجة عقلانية.

البكاؤن من المثقفين المفجوعين برحيل صدام غير المفاجئ، الذين انقلب عيدهم الى مأتم، وفرحهم الى ترح، يعانون حقاً من عقد نفسية مزمنة، هؤلاء يبكون رحيل الرجل الصلب القاسي القوي، بسبب انتمائهم الى الفئة الضعيفة التي ادمنت العنف والاستبداد والقسوة، كظاهرة ازلية، واعتادت على رؤية القائد الذي يرهب الجميع، والذي طالما منحهم فرص التمتع بلذة المشاعر الدونية، ذلك الشعور المتأصل فيهم بحكم الزمن وعقود الاستبداد الطويلة، صدق الراحل عبد الرحمن منيف وما قاله في اهل الشرق.

[email protected]

 

الصفحة الرئيسية

الأعــداد السابقــة

فهرست العــدد

إتصــلوا بـنـــا