الصفحة الرئيسية

الأعــداد السابقــة

فهرست العــدد

إتصــلوا بـنـــا

   سياسة

المهـمة المـمكـنة

د. أحلام فـؤاد السيـد*

 في العراق يعتقد بعضهم بأن الحرب الأهلية غير العراقية قد بدأت منذ وقت ليس بالقصير،  طبقاً لبعض تعاريف الحرب الأهلية.

 في لبنان بعضهم يصنف الحرب الأخيرة بأنها الفصل الأول من الصراع هناك، فلا يستبعد أن يكون الفصل الثاني أو الثالث منه حرباً أهلية غير لبنانية كذلك، وفي هذا السياق يرى هؤلاء بأن جرّ قوات اليونيفل يمكن أن يتحول الى فخ خطير للأوروبيين إنْ لم يوقفوا التنافس العالمي اللامحدود مع الأمريكيين من جهة، وكتب النجاح لتفخيخ وتفجير الملف النووي الإيراني.

هل تكون المنطقة قد دخلت أو أوشكت على دخول عصر الحروب الأهلية بمفهومها غير الأهلي الجديد؟ لتجعل من العالم مكاناً عنيفاً، وصعباً، وأقل أماناً وإنسانية، وأكثر بعداً عن السلم والرخاء والاستقرار والديمقراطية الواقعية المستدامة؟

ربما، وذلك لغياب أي مبادرة جادة شاملة لاحتواء الأزمة هنا أو هناك عبر مصالحة دولية، ولإصرار بعضهم في تصوير حل الأزمة بالهروب من الحل بالإصرار على توسيع ساحة ورقعة الفوضى الخلاقة لتشمل دول أخرى غير أفغانستان والعراق وفلسطين ولبنان، انقياداً وراء تلك الأسطورة اليونانية عن طائر فونيكس......... ذلك الطائر الذي يقال أنه ولد من أنقاض دماره. فونيكس أسطورة يونانية قديمة تمّ تجريبها سياسياً دون جدوى، ولأكثر من مرة، وفي أكثر من مكان في قرون سابقة، فالأسطورة تبقى أسطورة، وهي أقرب إلى الخرافة والجمود منها الى الخيال والإبداع.

العلاقات الدولية والسياسات الخارجية لا يمكن أن تستند إلى تجريب المجرب الأسطوري، والابتعاد عن المرحلية والبراغماتية المشروعة، كما لا يمكن السماح لها بالغرق في الثورية او القياس والتعميمات غير الواقعية مثل نظرية الدومينو التي كانت تردد بالنسبة لانتصار (ألفبيت منه) في فيتنام، التي كانت تفترض أنه فيما لو اعتنقت دولة اسيوية واحدة الشيوعية فإن كل جارة من جاراتها قد تحذو حذوها، مثل صف من أحجار الدومينو التي تجعل الواحدة منها، الأحجار المجاورة تتساقط واحدة تلو الاخرى. كما في رسالة آيزنهاور إلى رئيس وزراء بريطانيا ونستون تشرتشل في 4 ابريل 1954، التي تحدث آيزنهاور فيها عن فرض النظام السياسي السوفيتي الشيوعي وحليفه الشيوعي الصيني على جنوب شرق آسيا محذراً من تكرار تجربة ميونيخ حين قال :

(وإذا جاز لي الإشارة ثانية إلى التاريخ فقد فشلنا في وقف هيروهيتو، وموسيليني، وهتلر لأننا لم نتصرف يداً واحدة في وقت مناسب.

وهذا ما أطلق العنان لسنوات كثيرة من المآسي الصارخة والمخاطر الشديدة. ألم يحن الوقت لكي تكون أممنا قد تعلمت شيئاً من هذا الدرس).

حقا ً ألم يحن الوقت لكي يكون الجميع قد تعلم شيئاً من هذا الدرس بعد أكثر من نصف قرن أو منذ تدشين العمل بنظرية الفوضى الخلاقة المدمرة للكبار والصغار بعد تحرير العراق. أتصور أن الوقت قد حان وربما تكون الفرصة الأخيرة لقيام الحكماء في العالم بالمهمة الصعبة الممكنة الأخيرة. للانتقال من النزاع إلى الأمن، ومن الفوضى إلى التوازن والنظام، ومن الدكتاتورية الى الديمقراطية، ومن الظلم الى العدالة، ومن الحيونة الى الأنسنة، ومن...الـخ، لجعل الحرية فالديمقراطية فالرفاه والسلام وليس الحرب هو العلامة المميزة للمستقبل وهذا يتطلب اموراً منها:

1- أن يبقى نمط التعامل مع كل من نظام صدام وطالبان في العراق وأفغانستان استثناءً، مع تأصيل مبدأ تغيير سلوك الأنظمة بعيدا عن المناورات والصفقات السود، وذلك للخصوصيات الفاشستية الفريدة للنظامين المذكورين، والمرحلة، والتوقيت، والصدمة التي شكلتها، والفرصة الذهبية التي قدمتها العمليات الوحشية الإرهابية في 11 سبتمبر، وهذا لا يعني إلغاء التحفظات والانتقادات على ما رافق وتبع ذلك النمط ولا يزال متواصلاً، كما لا يعني ذلك عدم الإدانة للأرواح البريئة التي أزهقت، والحقوق التي خرقت، فالدم يبقى دماً أينما اريق، والجغرافيا لا تتمكن من تحويله ماءً، وحقوق الإنسان هي حقوقه وجزء لا يتجزأ منه أينما كان. كما يعني ذلك الالتزام والاعتراف للرأي العام العالمي بالأخطاء التي ارتكبت خلال وبعد تحرير افغانستان والعراق مع تصحيح المسار، وهكذا فيما يرتبط بالأخطاء التي ارتكبت في فلسطين ولبنان لتكريس الديمقراطية وتعزيز رعاية حقوق الإنسان وتفتيت وحدة الإرهاب والتفرغ لمكافحته بجدية في جبهة موحدة.

2- الحوار المباشر الثنائي الإستراتيجي المعمق، لتسوية كل الملفات المترابطة المعلقة لسد الأبواب أمام المزايدات والابتزازات، فالانتقال الى المصالحة الدولية، فالشراكة العادلة المتكافئة وفقاً للنظرة الواقعية التي تفيد بأن النظام الدولي لم ينتقل من الثنائية القطبية إلى الأحادية القطبية بصورة كاملة بعد، بل انتقل من الثنائية القطبية إلى قطب مميز متاخم من ناحية النفوذ لأنصاف أقطاب عديدة بعضها يتقاتل بشراسة مع الزمن للقفز الى الصدارة فالقطبية، ويؤيد تلك النظرة خطوات وإجراءات الرئيس الأمربكي في دورته الرئاسية الثانية مع كل من فرنسا والهند والصين وغيرها، إضافة الى ما تسرب من تهديدات متبادلة غير مباشرة بين أمربكا وفرنسا مع وقف إطلاق النار في لبنان، وقضية استقرار اليونيفل هناك، فذلك يساعد على رسم حدود أخلاقية سلمية عادلة للتنافس وضمان المصالح لإيقاف التنافس اللا أخلاقي المفتوح للسيطرة على العالم بدلاً، وتحويله الى تنافس بناء على طريق قيادة العالم بحكمة وآليات سلمية حضارية نحو السلام والأمن والرفاه والديمقراطية والعدالة والأخلاق ومحورية الإنسان.

3- الانفتاح على الجميع بالحوار المحدد المترابط البنّاء، لحصر الخلافات الدولية في نطاق دبلوماسي وسياسي، فالخروج باتفاقات بيضاء لا تساوم على الإصلاح والحكم الرشيد والدمقرطة وحقوق الإنسان. بل تبحث بجدية من جهة عن استراتيجية شاملة لدحر الإرهاب وتجفيف جذوره، وتنقب من جهة اخرى عن مخرج للمأزق والتراجع الذي بات يكتنف ملفات الإصلاح والدمقرطة التي تعدّ بحق من الملفات الإنسانية الجوهرية التي يمكن من خلالها تدعيم اسس الأمن والاستقرار والعدالة والتعايش في العالم.

3- إنعاش مفاوضات السلام المستدام الشامل وجهود الإصلاح وتفويض متابعتها الجدية إلى الأمم المتحدة وبالتوازي مع إصلاحها، وبمشاركة فاعلة متوازية للبنك الدولي، ومؤسسات المجتمع المدني المعنية.

4- إنقاذ المنطقة من عصر الحروب الأهلية والتركيز على بناء دولة المؤسسات الدستورية الديمقراطية اللامركزية في العراق، وبسط الأمن والاستـقرار في ربوعه من زاخو وحتى الفاو، وتفعيل إعماره وبناء اقتصاده ليصبح نموذجاً يقتدى به، فعندما يستقر الوضع في العراق، ويتقدم سياسياً واقتصادياً وتكنولوجياً واعلامياً وسيادياً، وينتعش فيه التعايش سيتحول الى قدوة للإصلاح والدمقرطة الذاتية، لأن النموذج الجيد يصدر نفسه بنفسه، وهكذا الأمر بالنسبة لانتـشال أفغانستان ولبنان وفلسطين من الفـوضى والتأزم المتواصل.

5- المصداقية الديمقراطية في الموقف والتعامل مع الجهات والشخصيات التي توصف من قبل بعضهم بالمتطـرفـة، التي تصل الى سدة الحكم عبر صناديق الاقتراع، لأن الديمقراطية ستروضهم وتصلحهم او تقيلهم وتهمشهم في الدورة المقبلة او قبل ذلك وعبر الاصوات نفسها التي اتت بهم، فلا يصح إلا الصحيح الذي يتمثل في الاعتدال والوسطية والأحزاب والتجمعات البرامجية الديمقراطية التي تحمل وتجسد هموم وتطلعات الناس التي سئمت الشعارات الفارغة.

ما بين السياسة والأخلاق في بعض القرارات مسافات ومسافات، لكن السياسة تبقى فن الممكن... السياسة تبقى فن الميسور، والوقائع والأحداث والحريق الكبير الذي يتوقع بعضهم وقوعه يؤكد بأنه لا مناص من تغيير المسار كي لا نأسر الإنسان في العالم لكي:

يعيش في الزمن الخطأ

ويقـف في المكان الخطأ

ويقاتل بالسلاح الخطأ

المهمة مهمة حكماء العالم وكل حكماء العالم، وهي كبيرة ومصيرية للعالم كله، لكنها مهمة ممكنة لإخراج العالم من المأزق الحالي الخطير وتغيير المسار، وطرق التغيير كثيرة ومتداخلة مثل البصمات لا يمكن أن تجد بصمتين بالشكل نفسه.

ـــــــــــ

* معهد الإمام الشيرازي الدولي للدراسات – واشنطن

http://www.siironline.org

 

الصفحة الرئيسية

الأعــداد السابقــة

فهرست العــدد

إتصــلوا بـنـــا