الصفحة الرئيسية

الأعــداد السابقــة

فهرست العــدد

إتصــلوا بـنـــا

  علم الاجتماع

العنف في تراث علم الاجتماع

 أسماء جميل*

حظي موضوع العنف باهتمام الكثير من الباحثين في الحق الاجتماعي، ابتداءً من ابن خلدون– مؤسس علم العمران- وانتهاءً باللحظة العلمية الراهنة، ومنذ ذلك الوقت، يساور الشك الفلاسفة الاجتماعيين، بشأن طبيعة السلوك العنفي وهل أنه متأصل في الطبيعة البشرية، أو أنه دافع مكتسب من البيئة المحيطة بالإنسان؟

 

مفهوم العنف في الفكر الاجتماعي

لقد اعتقد ابن خلدون أن العنف نزعة طبيعية (ومن أخلاق البشر فيهم الظلم والعدوان، بعض على بعض، فمن امتدت عينه إلى متاع أخيه امتدت يده إلى أخذه إلى أن يصده وازع) (1)، وقد تعرض له في نظريته عن الصراع عندما عرف الأخير بأنه هجوم البدو على الحضر وتأسيس الدولة، أما أسبابه، فيردها إلى العصبية، وتعني عنده: (الالتحام الذي يوجب صلة الأرحام حتى تقع المناصرة) (2)، وأساس العصبية عند ابن خلدون هو الاستعداد الفطري الذي يدفع الفرد إلى نصرة قريبة بالدم والدفاع عنه.

كم ورد العنف في شكله المؤسسي (جزءا من ممارسات السلطة الحاكمة) في الخطاب السياسي الخلدوني، إذ يلاحظ أن هناك حضوراً مكثفاً لمفاهيم العنف **، والمفاهيم الدالة على الاستبداد (3).

وفي أوربا، عكست الأفكار التي سادت في القرون الثلاثة الأخيرة اهتماماً واضحاً بالطبيعة البشرية، وعلاقة الفرد بالدولة لتشمل ضمناً موضوعة العنف والطبيعة النزاعية للإنسان.

ويعد (هوبز) أبرز المعبرين عن أفكار تلك المرحلة، إذ يرى أن الطبيعة الإنسانية مشبعة بالعنف، فالناس يتحركون بواسطة الرغبات نفسها، وهذه الرغبات عادة ما تكون مستبدة وملحة، إما لأنها البديل الذاتي للحاجات البيولوجية الجامحة وإما لأن إشباعها يشكل بحد ذاته سبباً كافياً للسعي إلى تجديدها، غير أن الإشباع الشخصي أو الجماعي محدود دائماً؛ وذلك لأن الأغراض القابلة لإشباع هذه الرغبات تشكل كمية محدودة، ويترتب على مركب الرغبة والندرة، هذا تنافس دائم بين الناس، وبما أن أياً من الأفراد ليس قوياً بما فيه الكفاية ليفرض هيمنته بصورة دائمة فإن عدم استقرار التنافس بين الناس يعرضهم (للمأكلة العالمية) (4)، أو (حرب الجميع ضد الجميع).

وعلى خلاف (هوبز) يرى كل من (جان جاك روسو) و (كارل ماركس) أن العنف لا يمثل حالة طبيعية، فقد وجد (روسو) أن الطبيعة البشرية أصيلة وخيرة، وإن فسادها أمر تقرره الحضارة الإنسانية (5).

بينما وجد (ماركس) أن العنف هو سمة للحالة الاجتماعية التي أفسدها الاستئثار بوسائل الإنتاج، فالتنافس بين الناس ذو أصل اجتماعي، يتعلق بملكية وسائل الإنتاج، لذلك فإن الصراع ليس بين الجميع ضد الجميع كما ذهب (هوبز) وإنما هو صراع بين الطبقات (6).

وجدير بالذكر إن اهتمام (ماركس) قد انصب على العنف الثوري والذي يقع بين الأنظمة الاجتماعية والحضارية، وخلال تناوله للصراع ربط (ماركس) بين كل من التغير والصراع والعنف مؤكداً الدور الإيجابي الذي يؤديه العنف في حركة التاريخ، فالصراع يشير إلى وجود خلل في البنى الاجتماعية، أما العنف فهو شرط أساسي لتجاوز هذا الخلل ولإحداث التغيير فهو (مولد كل مجتمع قديم يحمل في طياته مجتمعاً جديداً كما أنه الأداة التي تحل بواسطتها الحركة الاجتماعية مكانها وتحطم أشكالاً سياسية جامدة وميتة)7.

أما (دوركهايم) فقد وجد في أثناء بحثه في التبديات الموضوعية لإشكاليات القهر والتسلط في الحياة الاجتماعية أن العنف ظاهرة ثقافية أتت مع رياح التطور الاجتماعي، ومع تحول المجتمعات الإنسانية من مجتمعات بسيطة إلى مجتمعات مركبة (8).

وأكد (سمنسر) في تصوره للنزاع والعنف: أنه قائم بين الجماعات بسبب الاختلاف في طرائقها الشعبية وأعرافها. في حين اختلف (كمبلوفتش) عن (سمنسر) في اعتقاده بأن النزاع متأصل في طبيعة المجتمع الإنساني، وهو يبدأ من الجذور الأولى للنشأة الإنسانية؛ إذ أن الرسوس Races ذات نشأة جينية متعددة، وهذا يعني وجود عدائية موروثة في الرسوس البشرية ضد بعضها مما يحول هذه الحالة إلى وضع مستمر وصيغة للتعامل على المستوى الإنساني (9).

ويعد (زيمل) أبرز من تعامل مع ظاهرة العنف– بمستواه الاجتماعي- كما يتبدى على شكل تعبيرات عدائية تصدر عن الأفراد، إذ وجد أن هذه التعبيرات تؤدي وظائف إيجابية للنظام الاجتماعي؛ إذ أنها تعمل على استمرار العلاقات تحت ظروف التوتر والضغط، ومن ثم تحول دون انحلال المجموعة وتفككها بانسحاب المشاركين فيها، بمعنى آخر: إن معارضة زميل أو شريك –كما يرى (زيمل)- تكون الوسيلة الوحيدة لجعل التعايش ممكناً مع أناس لا يمكن تحملهم، فهي تشبه صمامات الأمان، وفي حالة غياب هذه المعارضة فإن عضواً من أعضاء الجماعة قد يتخذ خطوات انفصالية وينهي علاقته بالجماعة (10).

ويعزو (توينبي) ظاهرة العنف في المجتمعات الحديثة إلى انعدام الذاتية الفردية وانسحاق الفرد في آلية الحياة الميكانيكية من جهة، وفي آلية الحياة الاجتماعية من جهة أخرى. ويتهم كلاً من الرأسمالية (بتأكيدها القيم التنافسية)، والشيوعية (بتغييبها للفردية وتأكيدها على الجماعة) بأنهما سبب في ظهور العنف بالكثافة التي تشهدها المجتمعات الحالية(11).

ودرس (بارسونز) العنف الاجتماعي في إطار العلاقات النظامية التي تحددها القوانين المدونة أو المتعارف عليها، ففي هذه العلاقات يتوقع كل شخص فيها سلوكية وأخلاقية الشخص الآخر، ومثل هذا التوقع يفهمه الشخص الذي يكون العلاقة الاجتماعية ويساعده في تحقيق أهدافه وطموحاته، لكن كل علاقة اجتماعية معرضة لاحتمالين، الاحتمال الأول هو عدم قدرة الشخص على معرفة توقع سلوك الشخص الآخر الذي يدخل في علاقة معه، والاحتمال الثاني هو معرفة الشخص توقع سلوك الشخص الآخر، بيد أن هذا التوقع لا يساعده في تحقيق طموحاته وأهدافه، وفي هذه الحالة تتحول العلاقة إلى صراع بين الطرفين ويصبح العنف حتمياً (12).

 

مشكلة العنف الاجتماعي

ينطوي مفهوم العنف على مشكلة تتعدد أبعادها، ويتداخل فيها العامل النفسي والبيولوجي والاجتماعي، كما يضم سلسلة من الأفعال التي تتراوح ما بين الضرر المادي والجسدي والإهانات النفسية وغيرها من أشكال الإيذاء التي تنبسط على سلم طويل من الدرجات، يبدأ بالتهديد والمساومة ماراً بالتجريح والتجويع والكسر والإسكات والتكذيب والسب ثم القتل.

ومع أن العنف قديم قدم البشرية، إلا أن ظهوره بالمستوى والشدة التي نشهدها اليوم، إنما يأتي نتيجة لسياقات وظروف اجتماعية معينة سمحت بذلك، ولعل في الظرف الاقتصادي الضاغط وما يتعرض له المجتمع العراقي من أزمات وما يتبعها من تغيرات عميقة تركت آثارها في بنية المجتمع ومنظومته القيمية والمعيارية ما يمثل بيئة مناسبة لتنامي العنف بكل مستوياته، وفي المجالات كافة التي يتفاعل في إطارها الأفراد. ابتداء من الأسرة وانتهاء بالمجتمع– بوصفه بنية كلية تعتريها مجموعة من الاختلالات- إذ أصبح العنف سيد الموقف وبات اللجوء إليه أو التهديد به لفض المشكلات البسيطة أو المعقدة أمراً محتوماً، إلى الحد الذي غدا يهدد فيه بتغيير طبيعة العلاقات القائمة، فلا يكون هناك مجال للتعاون وتنتفي عمليات الأخذ والعطاء، وتصبح القوة أو التلويح بها هي اللغة السائدة.

هذا ويظهر العنف الاجتماعي نتيجة لمجموعة من العوامل التي تضغط على الفرد وتعمل على تقليص قدراته في توجيه سلوكه بصورة ذاتية كما تجعله عاجزاً عن تقبل الضوابط والأحكام في مجتمع متأزم ومن نتائج هذا الوضع أن أصبح الفرد غير قادر على ضبط ذاته ويميل على التمرد والتهكم كما اتسم تفاعله بالخشونة والقسوة، على الأصعدة كافة، فعلى صعيد الأسرة حل الإكراه والقسر والصراخ بين أعضائها بديلاً عن التفاهم والحوار الهادئ في علاج بعض المشكلات.

كما تعكس العبارات النابية التي يطلقها الباعة وسائقو المركبات في الشارع ما يسميه بعضهم (اجتماعية نفورة من المجتمع)***، أو انحراف عن معيار العلاقات الإنسانية الرقيقة.

إن ظواهر من هذا النوع– تقع من جانب الأفراد، أو تمارسها المؤسسة الاجتماعية خلال محاولاتها لإخضاع أعضائها، عندما تفشل طرائق الإقناع الأخرى– هي شاهد ومؤشر على وجود تناقضات كامنة في بناء المجتمع تضغط على الفرد، وتؤدي إلى أن ينحرف الفعل الاجتماعي عن المنظومة المعيارية التي تحكم مساره، فيتخذ شكل خروقات تهدد النظام الاجتماعي وتبتدئ في ارتفاع معدلات الجريمة، أو في ظهور أنماط إجرامية لم يشهدها المجتمع قبلاً، أو قد تتمثل في ارتفاع حوادث العنف التي ترتكب للتفريج عن التوترات المختزنة لشرائح سكانية تعطي أكثر مما تأخذ.

ــــــــــ

* باحثة اجتماعية

1- عبد الرحمن بن محمد بن خلدون: مقدمة ابن خلدون، تحقيق علي عبد الواحد وافي، ج2، ط3، (القاهرة: دار نهضة مصر، بلا سنة طبع)، ص482.

2- المصدر نفسه: ص484.

** من ذلك مثلاً العبارات الآتية: غلبة المدافع والممانع، الافتراس، الاستطالة، الاستيلاء على الملك، كبحهم من التطاول، ينظر: المصدر نفسه: ص546، 547، 548، 554.

3- محمد عابد الجابري: (نظرية ابن خلدون في الدولة العربية، قراءة في الخطاب السياسي الخلدوني)، مجلة الفكر العربي المعاصر، ع37، 38 (بيروت: 1980)، ص36.

4- نقلاً عن : ر. بودون و ف. بوريكو: المعجم النقدي لعلم الاجتماع، ترجمة سليم حداد (بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، 1986)، ص394، وينظر أيضاً: اليكس انكلر: مقدمة في علم الاجتماع، ترجمة محمد الجوهري وآخرون، ط2، (القاهرة: دار المعارف، 1977)، ص108.

5- نقلاً عن: علي أسعد وطفة: بنية السلطة وإشكالية التسلط التربوي في الوطن العربي (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1999)، ص146.

6- ر. بودون و ف. بوريكو: ص395.

7- نقلاً عن: فيليب برنو: العنف وعلم الاجتماع، في المجتمع والعنف، تأليف فريق من الاختصاصيين، ترجمة الأب الياس زحلاوي، ط2، (بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، 1985)، ص95.

8- علي أسعد وطفة: ص152.

9- متعب مناف السامرائي: السلوك الجمعي، محاضرات ألقيت على طلبة الدراسات العليا لعام 1996. (غير منشورة).

10- أرفنج زايتلن: النظرية المعاصرة في علم الاجتماع، ترجمة محمد عودة وآخرون (الكويت: ذات السلاسل، 1989) ص ص: 180-181.

11- Toynbee، A.، Experiences (London: Oxford university press 1969) PP. 325-326.

12- Parsons، Talcott: Social Structure and Personality، (New Tork: Freepress 1964: p. 85.

*** استعمل بيير فيو هذه العبارة ليصف سلوك العنف. ينظر: (بيير فيو: العنف واوضع الإنساني، في: المجتمع والعنف، ص138).

 

الصفحة الرئيسية

الأعــداد السابقــة

فهرست العــدد

إتصــلوا بـنـــا