الصفحة الرئيسية

الأعــداد السابقــة

فهرست العــدد

إتصــلوا بـنـــا

ردك على هذا الموضوع

من علم الدلالة إلى علم العلامات

* سعيد عبد الهادي

نستطيع أن نعد العقد الستيني عقدا ثوريا في مجال البحث الدلالي إذ مع صعود البنيوية والتأكيد الشكلاني الذي صاحبها، برز تيار دلالي كان لما قدمه هلمسليف أثر كبير في بلورته، لهذا لا نستطيع أن نعد جهود (بارت، وغريماس، وكرستيفا، وايكو) إلا امتدادا لهذه الجهود التي بنيت على اللمحة السوسيرية (ولما كان هذا العلم غير موجود بعد، فانه لا يمكن أن نتنبأ بما سيكون، ولكن يحق له أن يوجد ومكانه محدد سلفا، ليست الألسنية سوى قسم من هذا العلم العام[i].

وهكذا مع صعود علم العلامات، بدا الانشغال التأصيلي، فكان أن الفت العديد من الكتب والبحوث التي لمعت فيها نظرات السابقين انطلاقا من أرسطو في منطقه (إن ما يخرج بالصوت دال على الآثار التي في النفس) وما يكتب دال على ما يخرج بالصوت[ii]، والتميز بين ثلاث علاقات، لغوية بين الصوت والمعنى، وانطولوجية بين الاسم والمسمى، ومنطقية بين الفاعل والمسند، ثم ما قدمه الرواقيون من تمييز بين الدالة العقلية، والحسية، والتأكيد على علاقة الالتزام التي يتحكم بصلة الدال[iii]، بمدلوله، ثم كانت نظرات القديس أوغسطين (ت 430م) أثرها أيضا وإذ حدد الإشارة بأنها (ما يحمل في نفسه معنى ما يدل للذهن- خارج نفسه- على شيء ما[iv])، مثلما حدد المعنى بكونه (علاقة بين الإشارة والشيء المشار إليه[v]).

أما فيما قدمه العرب فنستطيع أن ننظر إلى هذا المنجز من عدة زوايا أو مجالات، الاصوليون، المناطقة، البلاغيون، اللغويون، النقاد، المعجميون، لهذا فان أية محاولة لجمع الجهود كافة تحتاج إلى وقت طويل وغوص عميق في بطون كتب التراث، ما نشر منها وما لم ينشر.

ما يستوقف القارئ أن المعجم العربي لم يستطع أن يتجاوز المعنى اللغوي الموروث، فإذا كان لسان العرب (إبن منظور (ت711هـ))، لم نجد فيه إلا قوله (الدليل: ما يستدل به، والدليل: الدال، وقد دله على الطريق يدله دلالة، أو دلالة ودلالة[vi]).

وإذا ما عرفنا طبيعة بناء هذا المعجم، فسنرى أن هذا التحديد محكوم بالمعنى اللغوي ولكن صاحب تاج العروس لم يخرج عن هذا التحديد السابق برغم تأخره[vii]، أما الفيومي (ت770هـ) في مصباحه المنير، فهو أيضا لم يخرج عن هذا على الرغم من ارتباط هذا المعجم بحقل فقهي وليس لغويا[viii].

لهذا جاء تحديد الدلالة في كتب حاولت أن تأصل للاصطلاحات العلمية فكان الشريف الجرجاني (ت816هـ) قد حدها بقوله: هي كون الشيء بحالة يلزم من العلم به العلم بشيء آخر، والشيء الأول هو الدال، والثاني المدلول، وكيفية دلالة اللفظ على المعنى باصطلاح علماء الأصول محصورة في عبارة النص، وإشارة النص، ودلالة النص، واقتضاء النص، ووجه ضبطه أن الحكم المستفاد من النظم إما أن يكون ثابتا بنفس النظم أولا، والأول إن كان النظم مسوقا له فهو العبارة، وإلا فالإشارة، والثاني إن كان مفهوما من اللفظ لغة فهو الدلالة، أو شرعا فهو الاقتضاء. فدلالة النص عبارة عما ثبت بمعنى النص لغة لا اجتهادا[ix].

أوردنا النص كاملا لنبين أن الدلالة حين اتخذت معنى اصطلاحيا فان الإشارة وردت هنا بمعناها اللغوي، ثم يحدد الدلالة اللفظية الوضعية بقوله هي (كون اللفظ بحيث متى أطلق أو تخيل فهم منه معناه للعلم بوضعه. وهي المنقسمة إلى المطابقة والتضمن والالتزام، لأن اللفظ الدال بالوضع يدل على تمام ما وضع له بالمطابقة، وعلى جزئه بالتضمن، وعلى ما يلزمه في الذهن بالالتزام[x]، وهذا التحديد لم يخرج عنه المتأخرون، وقد قسم (العرب) الدلالة إلى: دلالة عقلية: وهي أن يجد العقل بين الدال والمدلول علاقة ذاتية تنقله من أحدهما إلى الآخر، كدلالة العلة على المعلول.

ودلالة طبيعية: وهي أن يجد العقل بين الدال والمدلول علاقة طبيعية تنقله من احدهما إلى الآخر كدلالة الحمرة على الخجل، و الدلالة الوضعية: وهي أن يكون بين الدال والمدلول علاقة الوضع كدلالة اللفظ على المعنى. ونستطيع أن نوضح بهذا المخطط

                                               الدلالة

                 

               عقلية                                       طبيعية                                        وضعية

 

                                                                          

                                                                 لفظية                                      غير لفظية 

 

                                        مطابقة             تضمن                  التزام

 

وإذا ما نعرف هذا التقسيم (بيرس) الذي وضعه (1878) حيث قسمها إلى (شاهد أو مؤشر وأيقونة ورمز) فسنرى تشابها لا يخفى على الناظر، من هنا نستطيع القول أم المباحث الدلالية القديمة وان صبت جهدها الأعظم على محاولة تقييد المعنى فإنها حاولت أن تقدم نظرات عن علم اشمل هو علم العلامات، هذا العلم الذي تحولت علاقته بعلم الدلالة إلى علاقة عموم بخصوص وهذا ما أبرزه بوضوح وسعى له (تشارلز موريس) في محاولة جادة لتطوير ما قدمه (بيرس) إذ قسم علم العلامات على ثلاثة أقسام:

1-   الخصائص التركيبية- النحو والصرف.

2-   الخصائص السيمانطيقية (الدلالية)، طبيعة اللغة من حيث الدلالة والمعنى.

3-   الخصائص البراجماطيقية (التداولية).

وذهب إلى القول بان علم الدلالة (السيمانطيقية) هو (علم دراسة اللغة من جميع نواحيها التكوينية، ووضع هذه الدراسة على هيئة نظرية عامة ممكنة التطبيق على جميع اللغات مهما اختلفت خصائصها وأصولها[i]، وهنا يجب أن ننتبه إلى التمييز بين علم الدلالة وعلم المعاني، فالأخير علم بلاغي وظيفته تتبع خواص تركيب الكلام في الإفادة وما يتصل بها من الاستحسان وغيره ليحترز بالوقوف عليها من الخطأ في تطبيق الكلام على ما يقتضي الحال، فهنا نحن أمام علم معياري في حين مع علم الدلالة نحن أمام علم وصفي تحليلي ينطلق من تحليل الكلمة إلى اكتشاف أوسع العلاقات التي تربط بين الوحدات اللغوية المختلفة[ii]، وأهم العلاقات التي درسها علم الدلالة والتي أصبح يصنف وفقها هي: الإشارة: أي العلاقة بين الدال والمدلول.

والترابط: أي موقع الدال في نظام العلاقات الذي يرتبط بموجبه مع الدوال الأخرى في اللغة وتنقسم العلاقات الترابطية إلى تلاؤمية إذا كانت أفقية واستبدالية إذا كانت عمودية[iii]، وهذا الموقع لا يمكن أن يفهم بعيدا عن القيمة البنيوية والمحتوى الدلالي، إذ أن الكلمة منفتحة من ناحية على علاقة إمكانيات وفرتها بنية النظام الالسني، ولكن بمقدار ما تصير هذه العلاقة المضمرة محققة في الخطاب ومعترفاً بها من قبل المتحدثين يكون اثر المعنى الناتج عن هذه العلاقات راسخا في الذاكرة ويثبت تعلقه بالعلامة بان يهبها مضمونا، أما القيمة البنيوية فهي تصور راسخ الأن إذ أن ما يشكل المعنى هو السياق والسياق يعتمد القيم الاختلافية بين عناصر اللغة[iv].

وما جرى في السيميولوجيا هو تعميم الدرس اللساني الذي قدمه (سوسير) بعد تطويره والاشتغال به من قبل جماعة كوبنهاكن وجماعة براغ و الباريسيين، أو ربما كانت جملة الثنائية التي قدمها سوسير هي الأكثر أثرا في هذا المجال، أما الثنائيات المقدمة فهي:

أ‌-     ثنائية اللغة/ الكلام، اللغة مؤسسة مجتمعية، ونظام من القيم، وهو ليس فعلا لأنه عقد جمعي على حكم ما يرغب في التواصل أن يخضع كلية، أما الكلام فهو الفعل الفردي الذي بواسطته ومن خلاله يستطيع المتكلم استخدام شفرة اللسان بقصد التعبير عن أفكاره الخاصة، وهكذا نستطيع القول انه لا يمكن قيام كلام بدون لغة ولا لغة بدون كلام، مع ميرلوبونتي تحول هذا التعارض إلى شكل آخر هو الحدث/ البنية وبهذه الطريقة تم سحبه إلى كل بنية من الممكن أن ينجلي عنها حدث ما كالموضة والأساطير والأحلام وغيرها[v].

ب‌- ثنائية الدال/ المدلول، وهي الثنائية المكونة للعلامة اللغوية، والتي من الممكن سحبها نحو العلامات غير اللغوية في سبيل تعميم التعميم للنظام اللغوي، وهنا تبرز أهمية التخصص المزدوج الذي طرحه مارتينيه، والذي يميّز العلامات اللغوية من غيرها، إذ أن العلامة اللغوية بوصفها وحدة دالة متشكلة من جزئيات غير دالة بنفسها، وإنما تشكلها وتخصصها هو الذي يمنح الدال، معناه ودلالته وهذا التقسيم بين وحدات مميزة ووحدات دالة يوضح كيف استطاعت العربية أن تكون لغة تعبير مكتملة بـ (29) حرف فحسب وهذا ما أسماه مارتينيه الاقتصاد اللغوي، هذا الأمر يقودنا للحديث عن ثنائية طرحها هلمسليف بين الشكل والمادة، أي المادة التي نتكلم عنها أو نفكر بها والمادة التي نتكلم بواسطته، والشكل الذي نتكلم عنه والشكل الذي نتكلم بواسطته، مادة المحتوى وشكل المحتوى، ومادة الحاوي وشكل الحاوي، فالطاولة المتكلم عنها تمثل مادة المحتوى، أما تثبيتها بواسطة اللغة فهو شكل المحتوى والأصوات التي نعبر بها عنها هي مادة الحاوي وصياغة الأصوات في وحدات التعبير فتمثل شكل الحاوي، ويمكن أن نوضح الأمر بهذا المخطط.

هذا التوزيع كان نافعا في دراسة المطبخ والأزياء، فالأكل والملبس يصلحن للدلالة على وضع ما، فضلا عن فائدتهما المباشرة التغذية والكسوة[i].

جـ- ثنائية التركيب الاستبدالي، على المستوى التركيبي تستمد كل مفردة قيمتها من تعارضها مع سابقاتها ولاحقاتها والعلاقات هنا علاقات حضورية أما المحور الاستبدالي فهو يتشكل من العلاقة بين المفردة الموجودة على المحور التركيبي وبين ما تثيره من خزين ذاكري للمفردات التي يمكن أن ترتبط به عبر علاقات من التداعي، أو التصويت، ولذا فان العلاقات هنا علاقات غياب وهذا قاد جاكوبسن للتمييز بين المحوريين على أساس الاستعارة والمجاز الرسل- الكناية[ii].

د- التعيين والتضمين: التعين ما هو مشترك من قيمة لفظة ما بالنسبة لمجموع الناطقين باللغة، أما التضمين فهو كل ما توحي به عبارة ما أو تثيره أو تفرضه بطريقة واضحة أو غامضة بالنسبة لكل ناطق باللغة بمفرده وهكذا فان التضمين يرتبط بالفرد لكنه في الحقيقة وليد حاضنة ثقافية واجتماعية تكون الإناء الذي يترك في داخله فكر الفرد ويمكن أن نوضح العلاقة بين التعيين والتضمين بهذا المخطط المأخوذ من كوهين[iii].

الدال

             التعيين  =  المدلول الأول

                                  

                                                                       السياق

             التضمين =    المدلول الثاني

ولو عدنا إلى فرضية (ورف وسابير) القائلة بان لكل لغة من حيث أنها تمثل رمزي الواقع المحسوس، فإنها تتضمن تصوراً خاصاً للعالم ينظم ويكيف الفكر[iv]، بحسب هذه الفرضية فان اللغة تتخذ دورا مركزيا في تشكيل تصور مختلف للعالم بحسب اختلاف اللغة وهذا الأمر ينعكس على طبيعة التضمين ذاته الارتباط بقاعدة معجمية يحتكم إليها التعيين.

من خلال كل ما سبق نستطيع أن نقول أن الدرس الدلالي الحديث قد أعيد تأسيسه على قاعدة لسانية وعلى الرغم إن المنحى المنطقي في هذا الدرس قدم الكثير على أيدي بيرس وفريجيه وكارناب وموريس ثم تم توسيعه في الدراسات النصية الحديثة عند فان ديك، وسميث والآخرين، إلا أن الأثر الأكبر كان للدرس اللساني فمع سوسير وهملسلف وجاكوبسن ومارتينه تغيرت النظرة بالكامل لطبيعة هذا الدرس ففي الوقت الذي تعززت فيه النظرة لآليات الانتقال الدلالي اللغوي، بات التمييز بين ما هو لغوي وما هو غير لغوي يشكل درسا كاملا في السيمياء الحديثة وإذا كانت آليات الدرس اللغوي قد نقلت لفهم التدليل في مختلف الأنظمة الثقافية والمعرفية، فمع ليفي شتراوس درست الأسطورة وتوسع الدرس عند متابعيه ليشمل الأديان والكتب المقدسة، ومع لاكان امتدت هذه الآليات نحو علم النفس ومع بارت اشتغلت على أساطير العالم المعاصر، أما هابرماس وجينيت فكان منجزهما قد سار بالنقد الأدبي أشواطا بعيدة، وكذا ما فعله إمبرتو إيكو.

وهكذا نرى إن علم الدلالة الذي لم يكن أكثر من مبحث يمهد به للدرس المنطقي، والأصولي عند المسلمين أصبح دليلا وهاديا لمعظم الدراسات في مختلف الحقول المعرفية المعاصرة وهنا تكمن الفاعلية الثورية لعقد السينات التي اشرنا لها سابقا.

·       مدير تحرير جريدة الصباح.

[i] - ينظر دي سوسير – المصدر السابق وكذلك بارت، مبادئ في علم الدلالة ترجمة محمد البكري كتاب الجيب منشورات دار الشؤون الثقافية العامة بغداد ط2/ 1986 ص35 وينظر ميشال زكريا، الالسنية، علم اللغة الحديثة، قراءات تمهيدية، المؤسسة الجامعية للدراسات بيروت ط1 / 1984 ص 43، وكذلك ميشال زكريا الالسنية على اللغة الحديثة المبادئ والاعلام، المؤسسة الجامعية ط1 / 1980 ص247-250.

[ii] - ينظر بارت (رولان ( المصدر السابق ص 93.

[iii] - ينظر شريم (جوزيف ( التعين والتضمين في علم الادلة، الفكر العربي المعاصر عدد 18/19 لسنة 1982، ص79.

[iv] - زكريا (ميشال ( الألسنية (قراءات تمهيدية)، ص 161-163.

[i] - موريس (تشارلس ( اسس علم العلامات مترجمة جمال العميدي مخطوط لم ينشر ص 15.

[ii] - لاينز (جون ( علم الدلالة السلوكي، مجيد الماشطة، سلسلة الموسوعة الصغيرة (179 ( ط1 1986، دار الشؤون الثقافية، بغداد من مقدمة المترجم ص5.

[iii] - المصدر نفسه ص 65.

[iv] -ينظر غيرو (بير)علم الدلالة ترجمة انطوان أبو زيد سلسلة زدني علما منشورات عويدات بيروت لبنان ط1/ 14986 ص31.

[v] - ينظر- ديسوسير المصدر السابق وينظر ميرلوبونتي تقويض الفلسفة / سلسلة زدني علما منشورات عويدات بيروت.


[i] - دي سوسير (فرديناند ( علم اللغة العام، ترجمة يوئيل يوسف عزيز، منشورات آفاق عربية مقيد ط1/1985 ص84.

[ii] - ارسطو- المنطق/ تحقيق عبد الرحمن بدوي وكالة المطبوعات، الكويت ط1/1980ص99 وينظر من ص99الى ص103 للاطلاع على وجهة نظر أرسطو..

[iii] -أمين (عثمان ( الرواقية، مكتبة الانجلو القاهرة، ط3/1971 ص140.

[iv] -بركة بسام الإشارة الجذور الفلسفية والنظرية اللسانية، مجلة الفكر العربي المعاصر مركز الانماء القومي / بيروت عدد 30/31 1984ص45.

[v] - المصدر نفسه نفس الصفحة.

[vi] - ابن منظور، لسان العرب منشورات دار لسان العرب بيروت مادة (دلل (.

[vii] -الزبيدي (محمد مرتضى (، تاج العروس في جواهر القاموس دار مكتبة الحياة بيروت مدة (دلل).

[viii] -الفيومي المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي دار الفكر بيروت بلا، مادة (دلل (.

[ix] - الشريف الجرياني التعريفات– دار الشؤون الثقافية بغداد ط1 1987 ص61-62.

[x] - الفاخوري (عادل ( علم الدلالة عند العرب، دار الطليعة بيروت، ط 1 1985، ص25.

الصفحة الرئيسية

الأعــداد السابقــة

فهرست العــدد

إتصــلوا بـنـــا