الصفحة الرئيسية

الأعــداد السابقــة

فهرست العــدد

إتصــلوا بـنـــا

ردك على هذا الموضوع

سرقسطة الأندلسية في الأمس واليوم

هي (المدينة البيضاء) لا تدخلها الأفاعي أبداً

ودرة معالمها (قصر الجعفرية)

 د.محسن الرملي

ــ إسـبانـيا ــ

 إن جل الذين يذهبون إلى إسبانيا من أنحاء العالم بشكل عام ومن الوطن العربي بشكل خاص بهدف زيارة الآثار الأندلسية يتوجهون إلى الجنوب حيث غرناطة وقرطبة وإشبيلية، وإذا ما وسعوا من دائرة زيارتهم يذهبون إلى طليطلة في الوسط حيث لا يجدون هناك إلا مسجداً صغيراً لم يحظ بالعناية المناسبة.. وحتى الأسبان أنفسهم لديهم التصور ذاته؛ من أن ما هو أندلسي هو ذلك الذي في الجنوب وحسب، أو ما يكون ضمن محيط الإقليم الذي يحمل الاسم حتى اليوم (الأندلس). فيما أن الحقيقة التاريخية غير ذلك، فالكل يعرف بأن المسلمين قد وصلوا حتى الجنوب الفرنسي، وما تركوه على امتداد شبه الجزيرة الإيبيرية سيظل ميداناً واسعاً للبحث لا ينضب، وثمة خصوصية تاريخية وحضارية وآثارية لكل معلم أندلسي في هذه الأصقاع يستحق التوقف عنده تأملاً ودراسة وفق هذه الخصوصية وضمن الإطار العام للحضارة الأندلسية.

 وعليه فقد توجهنا إلى مدينة (سرقسطة) التي تبعد عن العاصمة مدريد 325كم بالاتجاه الشمالي الشرقي، عاصمة إقليم (آراغون) وتسمى بالإسبانية (ثاراغوثا). لقد وجدت هذه المدينة منذ أكثر من ألفي عام تقريباً، حيث أسسها الرومان وأطلقوا عليها اسم قائدهم (القيصر أغسطس) وقام المسلمون بتعريب هذا الاسم بتحويله إلى (سرقسطة) مثلما قاموا بتعريب الكثير من الأسماء والمظاهر أيام فتحهم لشبه جزيرة إيبيريا. وكان موسى بن نصير هو الذي فتحها بنفسه سنة 714م أي بعد ثلاثة أعوام من عبور المسلمين لمضيق جبل طارق. وقال موسى بن نصير بأنه لم يذق أعذب من مياه سرقسطة في كل مياه الأندلس. حيث تقع المدينة على نهر (إيبرو) ويمر منها نهر صغير آخر هو (أويربا). لقد استسلمت له بلا مقاومة، فقد كان قاطنوها يضيقون ذرعاً بعسف الحكم القوطي مما جعلهم يرون في المسلمين أملاً لهم، ولهذا فقد كان الدخول إليها يسيراً مثلما كان انتشار الإسلام بين أهلها يسيراً. وقد أطلق العرب على هذه المدينة تسمية (المدينة البيضاء). يقول بعض المؤرخين لأنها كانت مبنية من الجص والمرمر والصخور البيضاء، ويقول الحمري في كتابه (روضة المعطار) لأنه كان ينبعث من قبرين لرجلين صالحين فيها هالة أو دخان أبيض، بينما أظن بأن هذه التسمية قد أطلقت عليها لأنها دخلت الإسلام أو دخل الإسلام إليها بلا إراقة دماء، ومن طبيعة العرب أن يصفوا التحولات أو الثورات السلمية بالبيضاء. وهي مدينة كانت وما تزال هادئة مسالمة يمتاز أهلها بالطيبة وتجنب العنف. ومن الطريف أيضاً أن يذكر المؤرخ الحمري بأنها مدينة لا تدخلها الأفاعي أبداً ولا تعيش فيها، فحتى لو جاء أحدهم بأفعى إليها فسوف تموت، ويعزو ذلك إلى طبيعة بياضها ونصاعة حجارتها!. كما أسماها المسلمون أيضاً، ضمن التسميات العسكرية، بـ (الثغر الأعلى) حيث موقعها الممثل للحدود الشمالية للدولة الأندلسية. وكان غالبية من دخلوها فاتحين ثم أقاموا فيها من عرب اليمن ولهذا نجد حتى اليوم بعض العمارات مكحَّـلة النوافذ والأبواب والأسطح بالجص الأبيض على طراز المعمار اليمني، وقد رافق هؤلاء أقلية من البربر المسلمين ممن كونوا عوائلهم المعروفة لاحقاً.

 لقد ازدهرت سرقسطة أيام الحكم الإسلامي لها في كل الأصعدة، الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، حيث كان العرب بارعين في استخدام المياه وشق القنوات والزراعة والتنظيم الإداري وأقاموا القلاع والمساجد ومدارس العلم وعمروا الأسواق. وكان التسامح فيها نموذجياً من حيث تعايش المسلمين والمسيحين واليهود معاً بحيث وصل بعض أبناء الديانات الأخرى إلى مناصب مرموقة في الميدان الثقافي وحتى في إدارة الحكم. وبرزت حركة فكرية وأدبية متميزة وأسماء بقيت خالدة تحمل اسم هذه المدينة أمثال: فصحون السرقسطي، العارف بالمنطق وصاحب الرسالة المدخلية للعلوم الفلسفية المعروفة بعنوان (شجرة الحكمة)، أبي الطاهر السرقسطي صاحب كتاب (الإكتفا في القراءة)، أبي حسن بن عمار العبدري السرقسطي صاحب كتاب (تجريد الصحاح الستة)، ثابت بن عبدالعزيز السرقسطي صاحب كتاب (الدلائل في شرح غريب الحديث)، المازني السرقسطي صاحب كتاب (شرح الكامل في اللغة) والفيلسوف أبو بكر محمد بن باجة التجيبي السرقسطي المعروف بابن الصائغ، وابن الفوال السرقسطي العالم اليهودي الذي تفوق في الطب وكان ملماً بالمنطق وبالعلوم الفلسفية وألف كتاباً بعنوان (كنز الفقير) المكتوب على شكل أسئلة وأجوبة تضم قوانين المنطق ومبادئ الطبيعة.. وغيرهم. حيث كان المثقفون يلجأون إلى سرقسطة هرباً من تحارب الطوائف والفتن التي راحت تدب في الجنوب الأندلسي، ويلجأ إليها النصارى واليهود والقوط من الشمال فيجدون فيها مستقراً آمناً للعيش فقد كان لها نوع من الاستقلالية. هذا وقد انتشرت الكثير من القرى الجديدة والبلدات العربية الإسلامية حول المدينة بفضل حسن التخطيط الإداري وشق قنوات المياه.

 سقطت سرقسطة في عصر المرابطين سنة 1118 بعد أن دام الحكم الإسلامي فيها أربعة قرون، مازالت آثارها باقية حتى اليوم مما سنأتي على ذكره لاحقاً بعد أن نمر على أهم ما بقي من تلك المعالم وهو قصر (الجعفرية) أو (قصر السرور)، علماً بأن النهاية الأخيرة والتامة للوجود الإسلامي، بما في ذلك من بقي ممن يسمون بالمدخريين المسلمين، كان سنة 1622.

قصر الجعفرية.. قصر السرور

 إن قصر (الجعفرية) هو أبرز معالم سرقسطة في الأمس واليوم ويعد أحد أكبر مفاخرها، بحيث لا يمر سائح في المدينة دون أن يراه. لقد بناه حاكمها الملك أبو جعفر أحمد المقتدر في القرن الحادي عشر أيام حكمه بين الأعوام (1046 ـ 1082) وكان هو أول من تغزل بقصره شعراً واصفاً إياه بأنه قمة ما تمنى، وأنه على الرغم من اتساع حكمه ومآثره في أقليم آراغون إلا أن هذا القصر وحده يكفيه كمفخرة له عن كل مآثره الأخرى. لقد بناه خارج المدينة حيث يمتد النظر من شرفاته على حدائق وبساتين خضراء حتى النهر، وحصنه بقلاع عالية وخندق عريض، مازجاً في فنه المعماري ملامح من دمشق وبغداد والمغرب فيما يغلب عليه التأثر بالفن المعماري في قرطبة، وجعل فيه محراباً رائعاً للصلاة، وقاعات للتدارس وصالات للترف والاحتفالات منها صالة الذهب وفي وسطه بئر تصل مياهه عبر قناة من النهر وبمستواه ترتفع بارتفاعه وتنخفض بانخفاضه، مما يجعل الماء وفيراً في القصر ونافوراته، ولم ينس البركة المعروفة في قصور الشرق كرمز للرفاهية والخير والسلام. نوافذه وهندسته درست بعناية مراعية لمساقط الضوء وانعكاساته على ألوان المبنى التي من أبرزها الأحمر والأزرق والزهري والأبيض.. بل أن معماره قد أثر في كل المعالم الأندلسية التي بنيت بعده بما في ذلك جوانب من قصر الحمراء في غرناطة. وقد أطلق عليه آنذاك (قصر السرور) دلالة على الرخاء والرفاهية وباعتباره قصر صيفي لإقامة الملك ومركزاً ثقافياً وفنياً في عصره، ثم تحول اسمه مع مرور الزمن إلى (الجعفرية) نسبة إلى جعفر بن المقتدر، حيث درج الأسبان على هذه التسمية حتى اليوم. لقد سعى المقتدر عبر هذا القصر إلى تقليد المناخ الثقافي الذي كان سائداً في بغداد وخاصة في (بيت الحكمة) فقد جعل منه بمثابة ورشة فكرية علمية ثقافية فنية مفتوحة إلى جانب كونه قصراً ترفيهياً يتم فيه تطبيق التقاليد الشرقية. فكان يجمع فيه خيرة علماء الفقه والفلسفة والطب والهندسة والشعراء وأهل الفن بغض النظر عن كونهم مسلمين أو نصارى أو يهود، فقد كان جو التسامح والتلاقح الثقافي سائداً بحيث يشكل علماء الأديان الأخرى جزءاً مكملاً في إطار فسيفساء الثقافة الإسلامية، بل أن بعضهم كان يعين العلماء المسلمين على الاستنتاج والاستنباط في العلوم الإسلامية نفسها لما كانوا عليه من دراية وتشبع بالثقافة الإسلامية، مما جعل للحركة الثقافية في سرقسطة خصوصيتها، بحيث أثار دهشة الباحثين والآثاريين اليوم وجود رسم نحتي لطائر مجسد وسط زخرفة أحد أعمدة مداخل القصر وهو ما لم يوجد في أي أثر إسلامي آخر بحكم منع الإسلام لتجسيد الكائنات الحية في الرسم والنحت، الأمر الذي جعل الباحثين يعزون ذلك إلى طبيعة الانفتاح الثقافي التي كانت سائدة في هذا القصر، فيما يرى البعض بأنه محاولة في استكمال التصور عن قصور الجنة، لما كان عليه هذا القصر من روعة، فوضعوا صورة الطير في الأعلى. هذا إلى جانب ما تم من تطريز للحواشي العليا للجدران والسقوف بآيات من القرآن بالخط الكوفي وخاصة في المحراب والمدخل، أما في القاعات العليا فقد تكررت عبارة (الملك لله..الملك لله) بكل الاتجاهات مثلما تكررت عبارة (لا غالب إلا الله) في قصر الحمراء. ولشدة إعجاب ملوك آراغون بهذا القصر الذي استولوا عليه بعد سقوط سرقسطة، وبشكل خاص بيدرو دي آراغون الذي أحب أن يكون قصره في هذا القصر، فأقاموا عليه التحويرات وبنوا قاعة احتفالاتهم فوق قاعة احتفالات المسلمين كدلالة على الانتصار والتفوق، وكما حدث في غرناطة وقرطبة وغيرها راحوا يلصقون رموز وشعارات مملكاتهم والصلبان على السقوف وأعالي الجدران، إضافة إلى تطريزات قوطية ورومانية وكنائسية وتحويل المحراب إلى مطبخ.. ومما يدعو للتأمل مفارقة أن يخطوا أسماء زوجاتهم وتواريخ زواجهم وشعارات دعاية سياسية لحكمهم وسيوف ودروع ورماح وصوراً لهم ولانتصاراتهم وعبارات تشير إلى قوتهم وملكيتهم الأبدية التي لا تزول وتحويل الغرف الجانبية إلى زنزانات للتعذيب، فبينما يذكر الحاكم المسلم نفسه بالتواضع والفناء وأن هذا (الملك لله) يفعل الآخر العكس.. هذا ثم تحول القصر بحكم تحصيناته العسكرية إلى مقر للجيوش ولمحاكم التفتيش وسجن لمعارضي الحكومات المتلاحقة على امتداد ثلاثة قرون حيث مازالت آثار السجناء باقية من عبارات عذاب وذكريات وحساب للأيام وأسماء حبيباتهم وخربشات خطوها بأظافرهم… ثم أهمل القصر وظل في تصور الناس على أنه مجرد قلعة عسكرية قديمة، إلى أن صدر القرار بإعادة ترميمه وصيانته في أواسط الثمانينات، حيث تم العمل فيه بجدية وأمانة استطاعتا أن تجعلا منه الآن معلماً مثيراً للدهشة والتأمل، وهو يجمع في تكوينه الحالي آثار مراحل وقرون عديدة منها الإسلامي الأندلسي ثم الملوكي الأراغوني والعصر الوسيط وأضيف إليه ركن حديث تابع لبلدية آراغون. فأصبح رمزاً وسجلاً لتلاحق وتوارث العصور وأرشيفاً لحضارات متعاقبة.. حتى حاز مؤخراً على جائزة أوربية.

سرقسطة اليوم.. ثاراغوثا

 ما تزال سرقسطة كما كانت عاصمة لإقليم آراغون الإسباني بعد أن استقر اسمها وفقاً للتحوير الإسباني (ثاراغوثا).. يطلق عليها أيضاً بأنها مدينة الثقافات الأربع (الإيبيرية، والرومانية، والإسلامية، والمسيحية).. إنها اليوم مدينة تزداد اتساعاً وتجديداً في الأبنية والشوارع والجسور وتستعيد آثارها التاريخية فاتحة متاحفها أمام السياحة فخورة من بين ما تفخر به برمزين: قصر الجعفرية وكونها المدينة التي ولد في ضواحيها الرسام العالمي غويا. يتمتع أهلها الذين يبلغون أكثر من 600 ألف نسمة بالطيبة والهدوء والمحافظة على البنية العائلية فيما لا يتنكرون أو يرفضون، كأبناء مدن أخرى، أصول ثقافتهم وخليط الدم العربي الذي يمتد إلى عروقهم، ولهذا فهم أقل الأقاليم تعصباً ضد الأجانب ولا وجود لشعور عنصري لديهم، ومازالت بعض عوائلهم تحمل ألقاباً عربية مثل: (مكناسة) وهي من أصل إحدى قبائل زناتة المغربية، وعائلة (الزيديين) من أصول يمنية، والحجارين، إضافة لاحتفاظ العديد من القرى والبلدات المحيطة بسرقسطة بأسمائها العربية مثل: (قلعة أيوب) وهي المنسوبة إلى ثالث ولاة الأندلس أيوب بن حبيب اللخمي ابن أخت موسى بن نصير، وتقع في الثغر الأعلى إلى الجنوب الشرقي من سرقسطة، وقرية (زيدة) و (الحامة) و (المنية) و (قرية القصر) ومناطق وأحياء ومعالم أخرى تحافظ على أسمائها العربية مثل: (البرج) و (قلعة التراب)و (برج العروس) وغيرها. هذا ويعيش في المدينة الآن 12 ألف مهاجر مسلم تقريباً، أكثرهم من المغرب والسنغال، يعملون في الزراعة والإعمار والخدمة. وكعينة من هؤلاء التقينا بالفنان التشكيلي المغربي حميطو المصطفى الذي يعيش في سرقسطة منذ 14 سنة، ويفكر بمواصلة العيش فيها بقية حياته، حيث فتح فيها مطعماً عربياً في التصميم والديكور والأطعمة قرب آثار الجامع الكبير الذي بناه المسلمون أول دخولهم وتحول، بعد سقوط الأندلس، إلى كنيسة (اللاسيو) وهي ما تزال محتفظة بجانب من معمارها الإسلامي..

 يصف حميطو سرقسطة بأنها مدينة مازال ينبض في عروقها الدم العربي، وأن أصدقائه من المثقفين من أهلها يفتخرون بذلك ومنهم مهندسين وآثاريين كانوا من بين الذين دعوا إلى إحياء قصر الجعفرية والمعالم الإسلامية الأخرى وكتبوا عن تاريخ المسلمين هنا، وهم يشيرون إلى أصول أجدادهم اليمنية أو البربرية.. كما يعبر حميطو عن قلقه من موجة الفتيان المغاربة الأخيرة التي أخذت تعبر المضيق في مغامرات القوارب الصغيرة (قوارب الموت) وهم شباب هربوا من مدارسهم في المغرب، يجهلون التاريخ ويفتقرون إلى سلوك التعامل الحضاري، وقدومهم بهذا الشكل وعدم حيازتهم على أوراق إقامة قانونية يجعلهم يلجأون إلى سرقة السائحين. مما يشعر حميطو بالخجل ويثير قلقه من أن يؤدي ذلك مستقبلاً إلى إثارة شعور بالعنصرية له ما يبرره. ثم يضيف: أحياناً طويلة أتأمل تاريخنا هنا وأقول؛ أنظر كيف كنا هنا وكيف أصبحنا؟!.. وشعوره بفقدان تلك القيمة العليا من التسامح والكبرياء والإنجاز ينعكس أحياناً في رسوماته ومن ذلك لوحته (فقدان القمر) الواضحة الدلالة في العنوان والتجسيد… وعليه فنحن نختتم جولتنا بالقول: إذا كنا قد فقدنا القمر فعلى الأقل لنحرص على أن لا نفقد الاستنارة بنوره.

الصفحة الرئيسية

الأعــداد السابقــة

فهرست العــدد

إتصــلوا بـنـــا