|
||||
ردك على هذا الموضوع | ||||
لا تطلقوا النار على الكلمة … |
||||
علي حسين عبيد | ||||
ما هي حدود سلطة الكلام وهل بإمكان الكلمة أن تتجاوز في قدراتها وإمكانياتها غير المادية سلطة السلاح وقدرته على التهديد والقتل والدمار؟!. لقد وعى الإنسان قدرات الكلام منذ زمن سحيق وكان الفكر والأدب بكل أجناسه ولا زال وسيبقى أحد أهم الركائز التي تسند الإنسان في مسيرته الحياتية والكونية على حد سواء وهو يغذ الخطى نحو عالم أكثر حرية وأمنا وإنسانية، فلقد دأب الأدباء والصحفيون والمفكرون والمثقفون عامة على رسم المدن الفاضلة التي تليق بإنسانية الإنسان على مدى التأريخ وخططوا لها وأشبعوها بحثا وتصميما شكليا وجوهريا بما يتناسب وسمو النفس البشرية وطموحاتها التي تمضي قُدُما، ولذلك غالبا ما ينتمي الأديب أو المثقف بوجه عام إلى المساحة المسالمة في النفس البشرية وهو في كل الأحوال لن يشكل خطرا على كائن ما إلاّ في حالة إنتماء هذا الكائن فكرا وسلوكا لمساحة الشر في النفس البشرية. إذن متى تستهدف الكلمة ومن الذي يستهدفها؟. تساؤل يجدر بنا طرحه على أنفسنا وعلى غيرنا ونحن نمر الآن عبر مضيق سياسي يمتلئ بالمتناقضات وأكثرها وضوحا ظاهرة مستجدة على الواقع العراقي والعربي أيضا وهي ملاحقة الصحفيين والأدباء وقتلهم كما حدث في حالات عديدة سنأتي على ذكر بعضها لاحقا، وهنا يبرز تساؤل مفاده من المستفيد الأول إذا ما تم وأد الكلمة أو تحجيمها ومن المستفيد في حالة تسيّد العماء والضبابية على المشهد السياسي الراهن في العراق، وقبل أن نبحث عن المستفيد من ملاحقة الصحفيين والأدباء والمبدعين عموما نقول أن الفكر والإبداع على وجه العموم لا يلتقي مع القتل المجاني ولن يصطف إلى جانب الإرهاب بكل أنماطه المعلنة والمبطنة لسبب واضح هو افتراق الجانبين من حيث الوسيلة والهدف، فهدف الإبداع غالبا ما يكون إيجابيا بنزوعه وتطلعاته أما هدف الإرهاب (الذي تتبرأ منه المقاومة المشروعة للإحتلال أو غيره من التبريرات والذرائع) هو إجبار الآخرين على الانضواء تحت خيمة الأحادية التي لا تقبل الآخر مطلقا سواء على مستوى الحوار أو غيره، وعندما نعود ونسأل من المستفيد من قتل المبدعين سوف لا يتردد أحد لحظة واحدة بالقول إن أعداء العراقيين وأعداء الإنسان هم المستفيدون من ممارسة هذه الظاهرة. طارئية قتل الكلمة يكاد أن يتفق الجميع (علماء، مفكرون، وبسطاء من عامة الناس) على أن ظاهرة القتل العشوائي واستهداف الأبرياء من غير تمييز بين مدني وعسكري أو غير ذلك من التمييزات التي تتيح للقاتل تبرير القضاء على ضحيته، ما هي إلاّ ظاهرة طارئة ومرافقة للتغييرات السياسية التي أعقبت سقوط النظام السابق في العراق، ولن يتفق أحد من العراقيين سواء أكان فرداً بعينه أو جماعة سياسية أو ثقافية ناشطة أو غيرها على تجذّر هذه الظاهرة في البنية السلوكية للشعب العراقي على مدى تأريخه القديم والحديث على حد سواء كما أن ثقافة العراقيين القائمة على نبذ العنف والانخراط في النشاط الإنساني عموما وتقديم كل ما من شأنه أن يدعم المسيرة الإنسانية الخلاّقة ما هو إلا دليل على حيوية هذا الشعب ونزعته الدائمة صوب حومة الإبداع والتجدد ودعم المشاريع التي تصب في صالح الإنسانية والدلائل كثيرة في هذا الصدد ابتداء من مسلة حمورابي بإنجازه التشريعي الشهير وليس انتهاء بإنجازات المبدعين العراقيين المعاصرين الذين أثروا الساحة العربية والإسلامية والعالمية بإسهامات أدبية وفكرية لا تقل عن المنجز العالمي للشواخص الإنسانية الأخرى التي أسهمت في بلورة ودعم هذا النشاط المتواصل ليشكل بالتالي الوجه الأكثر إشراقا للحضارة البشرية بأروع صورها وأكثرها تطورا، إذن سنتفق على أن شعبا من هذا الطراز لا يمكن أن تنبت في تربته بذرة الإرهاب ولا يمكن أن يشكل مثل هذا الشعب أرضا خصبة لمثل هذه الظواهر المريضة، ولذلك نخلص إلى القول بأن هذه الظاهرة غير أصيلة في تشكيل البنية السلوكية للعراقيين وإن مبدأ اللاّعنف هو الوسام الذي يتحلى به صدر العراق والعراقيين وان مساحة الحوار تتسع للجميع، مع الاحتفاظ التام بالخصوصية الفكرية والمعتقدية وغيرها للجميع. من يسفح دماء الكلمة ترى من الذي يستهدف الصحفي أو الأديب أو المبدع على وجه العموم؟. وإذا اتفقنا على أن العراقي ينأى بنفسه عن الانسياق في موجة القتل المجاني ويرفضها جملة وتفصيلا وهي تتعلق بعامة الناس دونما تحديد مسبق فكيف إذا تعلق الحال بأرباب الكلمة ومدبجي الأفكار في فضاءات الورق وفي رحبة الحياة الواسعة على حد سواء؟ ان العراقي يأبى قطعا أن يسفح دماء الكلمة، ولكن ما هذه الحالات التي رصدتها ووثقتها وسائل الإعلام المقروءة والمرئية والمسموعة أيضا؟ ولماذا ذهب ضحية هذه الظاهرة عدد من أدباء وصحفيي ومبدعي العراق، ترى من سيوافق على قتل شاعر مثل (احمد آدم)* أو صحفي بريء من كل تجاوز على حقوق الآخرين مثل (نجم عبد خضير)** وغيرهما كثيرون أزهقت أرواحهم ظلما وأطفئت أقلامهم تجاوزا على كل الأعراف البشرية أنى كان منشؤها؟؟؟ إنها سلسلة من التساؤلات التي لا تجد من يشفي غليلها، وما أصعب أن تذهب أرواح المبدعين سدى وما أبشع أن تذهب أرواح الناس بلا أدنى مبرر، والأدهى من ذلك وأمر ما حصل للصحفي اللبناني (سمير قصير)*** من عملية اغتيال غاية في الخطورة، إننا نقف مشلولين حقا بإزاء فرز الأسباب التي تدفع باتجاه القتل العمد في وضح النهار للكلمة التي لا تحمل سوى صوتها بإزاء الآخرين، ولا نستطيع مجرد أن نفكر بأن هذا الصحفي قتل لكونه يتمتع بصراحة متميزة في التعاطي مع الوقائع السياسية في لبنان أو غيرها ولا نستطيع أن نصدق بأن الصراع الدائر بين المعارضة اللبنانية وسواها من السياسيين هو الذي أدى إلى اغتيال الصحفي قصير بهذه الطريقة التي لا تنتمي للفعل الإنساني بأي حال من الأحوال. الشعراء تحت مطرقة الاغتيال لقد كنت أستمع مع آخرين للشاعر أحمد آدم قبل أيام من اغتياله وهو يلخص رؤيته لدور المثقف المسؤول في المرحلة الشائكة التي يتعثر بها العراق من أقصاه إلى أقصاه، وكعادته كان هادئا متأملا في كلماته المضخمة بنبرة تفاؤل واضحة غالبا ما كانت تطبع تطلعاته وهو يرنو إلى أمام، لقد بدأ أحمد آدم يعيش نجاحاته للتو في الأدب وفي الحياة عموما، فقد تمت الموافقة على تعيينه في التربية كمدرس لمادة اللغة العربية في إحدى الثانويات قبل أن تطوله يد الموت بإسبوع واحد فقط، وقد تم تعيينه كمندوب لجريدة المدى بالتأريخ المذكور نفسه وقد بدأ يرمم روحه وعائلته من جديد بعد أن نالهما الحيف كما هو حال العراقيين جميعا في رحلة الحروب والحصارات المتتالية، لقد وضع قبل شهور فقط أساسا لبيته الصغير الذي أخذ يعلو بتأن جميل، شهرا بعد شهر ليستقر فيه هو وعائلته التي هدها التنقل من بيت إلى بيت ومن مدينة صغيرة إلى أخرى حتى انتقلوا أخيرا إلى بيتهم الجديد ويا له من بيت عجيب، انه عبارة عن غرفة نوم صغيرة وغرفة استقبال أصغر مسقفتان بجذوع النخيل ودورة مياه لا تكاد تتسع لجسد طفل ومع ذلك أطلق على هذا البناء الخرافي صفة بيت لأنه أنقذه وعائلته من غائلة الإيجار التي أخذت ما أخذت من إبداعه ووقته الموزع بين بيع الكتب على أرصفة المدينة وكتابة الشعر والنقد والمقالة والسفر إلى بغداد كلما اشتد به الحنين إلى وجهها الشعري البالغ العذوبة والجمال كما كان يردد دائما، ولم يترك الشعر قط هذا الطفل الذي لم يبارح حلبة الأدب أبدا، انه الشاعر الذي غادر الحياة وهو يحلم أن يرى كتابا شعريا واحدا من دواوينه الثلاثة مطبوعا على نفقة وزارة (الأدباء والمثقفين) لكن هذا لم يحصل، لقد باع الراحل أثاثه القليل والرخيص أصلا وطبع ديوانه الأول الذي أطلق عليه تسمية تليق بأحمد آدم وتصور لنا علاقته المصيرية مع الشعر. حمل ديوانه الأول عنوان (يسعى) ولقد سعى هذا الرجل بإخلاص كي يقول كلمته للآخرين ويمضي ولم يكن يعرف أبدا أن يد الغدر والظلام ستطوله وهو الذي لم يتجاوز على حقوق كائن من كان طوال سنواته الأربعين. خلاصة القول إن من يطلع على تفاصيل حياة الشاعر آدم أو الصحفي نجم عبد خضير سوف يصاب حتما بالذهول بإزاء عشوائية إغتيالهما وسوف يتوقف كما توقفنا كثيرا عند هذه الظاهرة التي أقحمت نفسها في النسيج السلوكي المتوازن للعراقيين عبر تأريخهم الطويل، الأمر الذي يحتم تطويق هذه الظاهرة وفضح من يقف وراءها أمام الملأ، مع وجوب إسهام المنظمات الإعلامية والفكرية والحركات الدينية والسياسية في تعميق ثقافة اللاعنف كما هو الحال مع المدرسة الشيرازية. إن ظاهرة أستخدام العنف ضد الكلمة لم تكن من سلوك الفرد العراقي، ربما يجوز لنا أن ننسب مشاهد من هذه الظاهرة للحكومات التي تعاقبت على حكم العراق منذ نشوء الدولة العراقية الحديثة ولا سيما إبان النظام السابق غير أننا نقر بأن المؤرخين لم يرصدوا أو يوثقوا لنا ظواهر إرهابية غير حكومية تترصد الكلمة مهما كانت توجهاتها وعلى العموم نعتقد مثلما يعتقد كثيرون أن ظاهرة العنف ضد الصحفيين والأدباء في العراق تعد حالة سلوكية طارئة ولا يمكن أن تتداخل في النسيج السلوكي العراقي كما إنها لا يمكن أن تشكل دعامة من دعامات البنية السلوكية للعراقيين على وجه الإجمال. * ولد الشاعر احمد آدم في 1965 في كربلاء قضاء الهندية. - أكمل دراسته في الهندية وكربلاء وحصل على دبلوم من معهد الإدارة ثم على بكالوريوس في اللغة العربية من كلية التربية / جامعة كربلاء. - نشر قصائده مطلع عقد التسعينيات من القرن الماضي ونشر أول دواوينه (يسعى) عام 1998. - انتخب أمينا للشؤون الثقافية لاتحاد أدباء كربلاء في الدورة السابقة. - شارك في المهرجانات الشعرية التي أقيمت في العراق كالمربد ومهرجان المتنبي والحبوبي. - متزوج وله ولدان وخمس بنات وحفيدتان من ابنته الكبرى. ** نجم عبد خضير صحفي عراقي شاب /جريدة المدى. - تولد كربلاء 1975. - متزوج وله طفلة حديثة الولادة. *** سمير قصير صحفي لبناني اغتيل في بيروت مؤخرا. |
||||
|
||||
|