|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
العنف واللاعنف سيكولوجياً العنف وتصدع الشخصية |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
د. أسعد الإمارة* |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
المسالمة واللاعنف تحدث في النفس تسوية متناغمة أطرافها قوة تقدير الذات من الناحية الداخلية، أما من الناحية الواقعية والتعامل الخارجي، فهو الثبات الواضح في المبدأ بكل التعاملات، واليقين المستقر بأحقية الآخر في إبداء رأيه دون وجل أو خوف العنف وتصدع الشخصية يقول الدكتور (علي كمال) طبيب النفس المعروف بأن القلق هو النتيجة الطبيعية المنتظرة عند التعارض بين قوتين عاطفيتين، وهذا التعارض تجربة أساسية في الحياة الإنسانية.. ولابد من قيام هذا التعارض بسبب نمو الإنسان والضرورة في أن يأخذ بعين الاعتبار النظم والمقاييس المرعية في مجتمعه.. من هنا نبدأ بما انتهى إليه البروفسور علي كمال أستاذ الطب النفسي، فالعنف ينشأ من داخل النفس الإنسانية ولا يمكن أن يأخذ مساحة أوسع في النفس إذا لم يلقَ التشجيع والإثابة من الذات نفسها، فالعنف يتجاوز المقاييس والمعايير الذاتية حتى يعبر الخطوط الحمراء داخل النفس الواحدة، بمعنى أدق فهو ينتفض ضد قيم الوالدية وقيم الحنان الأمومي والانتماء النفسي للعائلة ويتجاوزها ليفك القيود الممنوعة التي حرمت الأديان بكل إصولها تجاوزها، تلك الأديان سماوية كانت أم غير سماوية، فالعنف يولد داخل النزوع النفسي ليجد صداه في البيئة الملائمة حتى ينمو فيكبر، وإزاء ذلك يقول (ميننجر Menninger) إن الصراع يقوم بين إحدى قوتين دافعتين أساسيتين في الإنسان زود بها عند الولادة: - الأولى: قوة التصدي. - الثانية: القوة الجنسية. الأولى مؤذية محطمة في طبيعتها، والثانية بناءة وتدفع نحو المحبة، وفي الطفولة يتعلم الطفل بالوعيد والتهديد والتعلم والتوجيه، أن يقيد من سلوكه، وبالتدريج يتمثل في نفسه القوى الرادعة التي كانت تقيده من الخارج وهي أوامر والديه ونواهيهم، وتتكون لديه المثل التي هي بمثابة الضمير لديه، وعندما تنضج الشخصية فأن عجز الفرد عن كبح جماح قوى التعدي في نفسه يصاحبه دائما الشعور بالقلق، والقلق في هذه الحالة إشارة لوجود اضطراب في داخل الشخصية، فالدافع للتصدي والتجاوز على الآخرين وممارسة العنف ضد المحيطين يعمل وكأنه خطر يهدد أمن وسلامتة الشخصية، ذلك لان الخبرة المكتسبة بالتجربة الذاتية أعطت للشخص العنيف المعرفة المسبقة بان هذا النوع من التهديد لسلامة النفس ونوازعها يأتي من الداخل (إي من داخل الكيان النفسي للفرد) غير أن الأمر يبدو أكثر تأكيداً عندما يكون هنالك فعلا حقيقيا فضلا عن التهديد الداخلي تهديداً خارجي المصدر يشعر به الفرد العنيف بأنه يمثل خطراً عليه ويلتحم مفهوما التهديد الداخلي والتهديد الخارجي التحاما متكاملا في تكاملية سيكولوجية في السلوك حتى تكاد تفقد الشخصية معناها الإنساني، بل كيانها النفسي إلا في توجيه واحد لا غير هو الفعل النفسي العنيف في صراع غير منتهٍ، هذا الصراع هو تعبير رمزي لصراعات نفسية أخرى تمتد جذورها في طفولة الشخص العنيف، وكما يؤكد علماء التحليل النفسي بقولهم، انه فشل الذات في إيجاد تسوية متناغمة مع مقتضيات الواقع، أي شدة الرغبات المدمرة وقوتها في الذات وضعف في تشكيلات الضمير الذي يسميه التحليل النفسي (الأنا الأعلى) وفي الحقيقة الضمير جزء من الأنا الأعلى بمعنى أدق. إذن لم تستقم لحمة الحياة في تناغم بين مقتضيات الذات الهائجة الثائرة الراغبة في المزيد من الإثارة والنفور، مقابل الوضع الآمن للمجتمع في تعاملاته، فأصبحت حينئذ الشخصية العنيفة شخصية شاذة تعيش قمة الصراع النفسي حتى أطلق عليها بأنها صراع قبل وفاق، وصراع بعد وفاق. أثبتت الدراسات الميدانية إن هؤلاء الأشخاص يتميزون بشكل واضح في أن تقدير الذات لديهم ينخفض ويعانون من تصدع الشخصية فهم يحملون في دواخلهم ازدراء الذات ويستجيبون إلى ظروف الحياة ومتغيراتها بإحدى الطريقتين: - الشعور بالنقص.. تجاه أنفسهم حيث يشّكون في قدراتهم لذلك يبذلون قليلا من الجهد في أنشطتهم وهم يعتمدون بكثرة على الآخرين لملاحظة أعمالهم، أن لديهم شعورا بأنهم يكذبون أو إنهم دجالون في حياتهم وهذا الشعور مدمر مهلك لهم. - الشعور بالغضب وإرادة الثأر من الآخرين.. فهم غالبا ما يعانون من مشاكل في أعمالهم وفي مسكنهم مما قد يسبب لهم في النهاية مرضاً نفسياً وعضوياً ورغبة في محاولة الانتقام من الجميع، وتراهم دائما يبحثون عن الأخطاء ولا يرون إلا السلبيات ويجدون سرورا عارما لأخطاء الآخرين ومشاكلهم، وينتابهم الفرح لما تحل مصيبة أو كارثة بأحد الناس، وبالتالي من نتائج تصدع الشخصية: * استحقار الذات. * الشعور بالذنب والدونية، حتى ولو لم يكن هناك فعلا خطأ. * الاعتقاد بعدم الاستحقاق لأية مكانة في المجتمع. * ضعف واضح بالكفاءة في أي دور أسري أو أبوة. * المحاولة المستمرة للانكماش على النفس فلا يريدون أن يراهم الآخرين. إن العنف الذي يصدر من الشخصية ما هو إلا عنف موجه نحو الآخرين بعد أن فشل الفرد ذاته في كبحه أو تبديده، فتوجه نحو الآخر بصورة متعارضة مع قيم المجتمع، لذا فهو يتحدث بلغة رغبته الداخلية مخالفا بذلك قيم المجتمع أياً كان هذا المجتمع. اللاعنف.. تسوية متناغمة في النفس إننا نميل في الغالب إلى الإعجاب بالأفراد الذين تكون لهم قيم واتجاهات وشخصيات متزنة، تتميز بالتسامح والمسالمة وتبدو على وجوههم البشاشة الحقيقية والرقة، نشعر معهم ونحن نتحدث بالأمان والاحترام، ولا يبدو منهم أي تصرف لا يليق بالمقابل أو لا سامح الله يجرحه، وأحيانا أخرى نلتقي عبر مسيرة الحياة بأشخاص تبدو الروح العدوانية تتطاير من أحاديثهم، ولغة التهديد والوعيد هي السائدة، وإذا ما هدأ بعض الشيء وبدا وكأنه يعيد توازنه ليضفي الثقة بالتواصل مع المقابل. أننا نستعرض في هذه المساحة نمطين من السلوك الإنساني، نمطين متناقضين ولكن لا يكمل كلا منهما الأخر ويقول علماء النفس الاجتماعي إن الفرد قد ينجذب إلى نقيضه إلى حد ما، وأوجدت الدراسات النفسية الاجتماعية إن التقارب والخلفية الاجتماعية المتشابهة تجعل الناس يتقاربون من البداية وتزيد من إعجاب كل منهم بالأخر، وحينما يبدو الأشخاص المتشابهين في التفاعل تصبح القيم والاتجاهات والاهتمامات المتشابهة ذات أهمية بالنسبة للكل وحديثنا عن سيادة السلوك المسالم والتسامح على شخصية البعض بينما يفتقد البعض من الناس هذا السلوك وهذه السمات الواضحة في التعاملات مع الناس. إننا حينما نقّيم سلوك المسالمة أو العنف ننطلق من القيم التي تشكل سلوكنا وما اكتسبناه من عمليات التنشئة وتأثير الخبرات السابقة التي تحدد في الواقع وما سوف يصدر منا في المستقبل فمحبتنا لجميع الناس واحترامنا لهم ولمعتقداتهم، وتقديرنا الفائق لأفكارهم ومذاهبهم، يكون بفعل خبراتنا السابقة التي كوناها عن ذواتنا وهي التي أعطت الثمار في التعامل الإنساني، أما كرهنا للناس جميعهم او لشريحة من الناس، فهو ينطلق أيضا من ذات مريضة غير سوية، لم تجد التسوية المتناغمة بين ما تحمله الذات من خبرات ومكونات تربوية سامية وبين الواقع المعاش حتى بات التناقض واضحاً في كلا الجانبين: الجانب الذي خبره العنيف- ومكونات شخصيته التي تشكلت، وأسس عوامل الاكتساب الذاتية، وانعكاس ذلك على أساليب التعامل الحياتية مع متطلبات الواقع الذي يراه (الشخص غير السوي - العنيف) بأنه يتطلب القسوة والعنف وفرض السلطة الذاتية كإثبات للذات المحرومة. هؤلاء غالباً ما يعانون من مشاكل في تعاملاتهم اليومية ومع أسرهم مما قد يسبب لهم في النهاية مرضا نفسيا أو رغبة دائمة في محاولة الانتقام ممن يختلف معهم في النظرة إلى أمور الحياة أو الرؤية المختلفة للأشياء، فهم يبحثون دائما عن أخطاء الآخرين ولا يرون إلا السلبيات والعيوب في تصرفات الآخرين، وتراهم يفرحون حينما يجسمون أخطاء الآخرين تجسيماً غامراً بالفرح. أما المسالمون الذين يرون في التعامل الإنساني القائم على اللاعنف انه تقدير عال للنفس مما يشكل هذا التقدير دافعاً قوياً لتوليد مشاعر الفخر والإنجاز واحترام النفس وتحييد الخبرات المؤلمة التي تسبب شعوراً كريهاً لدى النفس، أو تجاه الآخرين، هذا الشعور يولد القوة الذاتية لان يتعامل المسالم على أسس قوية من احترام الآخرين دون الإحساس بالنقص، وهو نابع أساسا من احترام الذات العظيم. إن المسالمة واللاعنف تحدث في النفس تسوية متناغمة أطرافها قوة تقدير الذات من الناحية الداخلية، أما من الناحية الواقعية والتعامل الخارجي، فهو الثبات الواضح في المبدأ بكل التعاملات، واليقين المستقر بأحقية الآخر في إبداء رأيه دون وجل أو خوف، وإزاء ذلك يقول علماء النفس إن سببها ناتج من شعور جيد حول أنفسهم، يساعد ذلك في طريقة معاملة النفس واحترامها وتكوين قيم داخلية ومشاعر يملكونها حول أنفسهم، حتى عده عالم النفس (ميلوك) بأنها عملية تقييم يقوم بها الفرد المسالم- اللاعنيف تجاه ذاته ويعبر فيها عن مدى قبوله لنفسه أولا، مشيراً إلى درجة النجاح التي يحققها كل يوم في التعامل مع أساليب الحياة اليومية مع الآخرين. حقاً أن المسالم (اللاعنيف) لا يخلو من قدر عظيم من الإستبصار بأحواله يجعله ينكر من نفسه أي تناقض في قيمه الخاصة او تعارض مع قيم المجتمع، فهو يحسن إدراك الواقع، وهذا الإحسان يدفعه إلى أن يتصرف ويتعامل على وفق الإسلوب الأمثل مع الجميع بكل سداد، فكأنه يعرف ذاته ويعرف الواقع، ولا يخطئه، وبهذا فهو يحُدث التسوية المتناغمة بين ما جبُلَ عليه وما اكتسبه من ناحيته،وتعامله مع الآخرين ومتطلبات الواقع بما فيه أسرته وعائلته وأصدقاءه، والناس الآخرين من الغرباء، فهو يستعين بوعيه كضياء لتوضيح التعاملات مع جميع الناس بغض النظر عن انتماءاتهم المذهبية والدينية والسياسية والفكرية، فهو استطاع أن يوفق بين ذاته وذوات الآخرين، هذا التوفيق هو مزيج من المعرفة والتجاهل، معرفة بعوالم الأمور وبواطنها، وتجاهل ما لا يقوده لان يتصادم به مع الآخرين، فهو وضع الحدود التي لا يرغب في تجاوزها مع الآخر احتراماً لمعتقده أو مذهبه أو دينه أو انتمائه الفكري أو السياسي، إننا معشر السيكولوجيين نعترف حقاً أن هذه التسوية المتناغمة العالية والحيادية الراقية مع الذات أولا، ومن ثم تنعكس على السلوك مع الآخرين ثانياً. إن قدرة إحداث التسوية المتناغمة داخل الذات لدى المسالم- المتسامح- اللاعنيف تحتاج حل اللبس بين الواقع الذاتي الذي يشمل كل مكونات النفس ورغباتها المجنونة وحب الامتلاك والغيرة، والواقع الفعلي وما يتضمنه من فساد في الحكم أحيانا على الأشياء والتصرفات وما يصدر من الآخرين، فالسلوك الإنساني ليس فعلا ورد فعل، إنما به من التأني والروية ما يجعله يرقى إلى سلوك الحكماء والأنبياء وعامة الناس من العقلاء، فالإنسان لا يعمل برد الفعل كما هو حال الكائنات الحية الأخرى وإنما يعمل بإدراكه العقلي للأشياء مع الابتعاد الكامل عن تزييف المعرفة وقلب الحقائق والأمور على ما ترغب نفسه، وما تشتهي، رغم أن علماء النفس التحليلي يرون: أن الأصحاء لا يسلمون أحيانا من اضطراب المعرفة، وإن هذا الاضطراب يتصف باختلاط الذاتي بالموضوعي، أي المتخيل بالواقع وما يتضمنه ذلك من انطماس الحدود الفاصلة بين الذات والآخرين، فضلا عن طغيان الذاتية الضيقة أحياناً عند البعض من الناس تجنباً، كما يعتقدون من الخسارة أو الخذلان، بينما في المسالمة واللاعنف يكون الشخص المسالم لديه القدرة الفائقة العالية في عدم الخلط بين ما يخص ذاته وما يخص الآخرين، فهو لا تنغمس لديه وحدة مكونات شخصيته مع مكونات شخصية الآخرين، وخلاصة القول أن اللاعنف والمسالمة هي تسوية متناغمة وموفقة بين قطبي الذاتية الخاصة والواقع، وإن نجاح هذه التسوية، تؤدي دائماً إلى البناء النفسي السوي لدى المسالم - اللاعنيف. اللاعنف... وسيكولوجية التطبيع النفسي ظهرت أراء عديدة ونظريات واتجاهات تدعم أساليب الحرب وتدعو إلى استخدامها في تحقيق الانتصارات وكسر شوكة الأعداء وتحطيم تاريخ الآخر وسلبه وهتكه، حتى ظهر في عصر التكنولوجيا إعلام الحرب، وعد آلة مضافة لآلة الحرب، ربما كانت أكثر تأثيراً وقوة من فتك السلاح وتأجيج مشاعر العدوانية، وتدعو إلى حرق الآخر شعباً أو أرضا أو تاريخاً، وعاون أعلام الحرب ثقافة العنف وشعراءه وكتاّبه حتى ظن البعض أن لجيش العنف مؤسسات لا عسكرية فحسب وإنما إعلامية وثقافية وتربوية وحتى ظن البعض من الناس أن تجييش المجتمع هو واجب مقدس لخلق النفير العام في نفوس الفتية والشبان والنساء والكبار، أما الأطفال فحصتهم التنشئة نحو التهيؤ للقادم الذي يبحث عن التعبئة دون الوعي بما سينتج عنه هذا التطرف في كل شيء.. ولا نعتقد أن هناك موضوعا واحدا قد تعددت فيه سبل التحفيز والحث وتضاربت فيه وجهات النظر كما تعددت وتضاربت في موضوع العنف منذ أول عنف عرفه الإنسان أيام قابيل وهابيل. فالاتجاهات الفكرية الفلسفية والعسكرية والنظريات كلها أضفت على هذه الدعوات أسماء متعددة أبرزها: حروب الانتصارات، مقاومة الشرور، ردع الكفار، ثني العدو، قهر الوحوش.. وهكذا من مسميات تثير دوافع العدوانية عند شعب ما من الشعوب أو بلد ما أو مجتمع ما. ولو أمعنا النظر في سيكولوجية التطبيع نحو اللاعنف لوجدناها تتخذ معنيين: المعنى الأول: يقترن بإزدهار المعرفة الداخلية- الذاتية بتطوير داخلي في النفس. المعنى الثاني: تنحصر هذه المعرفة في ازدياد قدرة المسالم - اللاعنيف على الأشياء واستيعابها دون أية مخاوف محتملة. إن النفس الإنسانية حفلت منذ خلقها بهذا الجانب (المسالمة) وظفرت خلالها بالكمال، لان الله خلق الإنسان في أحسن تقويم، ثم إن هذا الحسن في التكوين أعطاه المعرفة الواضحة الجلية في الخلٌق والاحترام والتواضع والرفعة عن صغائر الأمور ورؤية معالم الكون وهو مصدر أصيل للمعرفة في كل جوانبها وهو تطبيع لا ريب فيه نحو المسالمة واللاعنف. أما المعرفة المشوشة فإنها قادت البعض من البشر إلى التصفية والشقاء والكره والبغض حتى جعلت منه أقرب إلى الغريزة الحيوانية منها إلى الإنسانية، بل إنا نرى اللاعنف واليات تطبيقه جاءت من غير قصد لدى الإنسان في أكثر من موضع في حياته ولكن الدعوة إلى النزعات الحيوانية ظلت هي الغالبة وهو السلوك الأكثر قتامة وشدة وسوداوية في النفس الإنسانية ولاقت من الرواج والتدعيم والإثابة بما فيه الكفاية لان يحاكي الحيوانات المفترسة في سلوكها حتى طال هذا العدوان البشر والحيوانات الأليفة والبيئة الكونية التي عاشها أجدادنا الأوائل وما زلنا نعيشها إلى يومنا هذا على سطح الكرة الأرضية. يقول عالم النفس (مصطفى زيور) إن النفس الإنسانية هي في كل ما يصدر عنها، أي أن ما يصدق عليها من صفات وقواعد أساسية في مظهر من مظاهرها، يصدق عليها أيضا في غير ذلك من المظاهر، إن هذه قضية بديهية لا تحتاج إلى بيان، إذ لا يعقل أن تتغير طبيعة النفس تبعاً لتغير ما تعالجه من المواقف. فإذا قلنا لشخص عينه إن النفس، بناء على ذلك، هي سواء أكان ما يصدر عنها من سلوك العنف والعدوانية أم سلوك اللاعنف والمسالمة، إنها هي في أعماقها، سواء أكان ما يشغلها من كراهية أو بغض أم نشاط إنساني بناء لبني البشر جميعهم، وأن ما يصدق عليها هو سواء كان حاصل إنتاج سلوكها في كل ما يصدر عنها، ولكن الفارق مرة أخرى في كيفية مسار تطبيع هذا الفعل، هل هو سلوك عدواني وعنيف، أم مسالم قائم على التسامح واللاعنف، وهو ما نصبو إليه في موضوعنا هذا. فالنفس لا يمكن أن يصدر عنها أولا يصح بالحقيقة ما يصدر عنها ذات الصفات إلا في حالة المرض في شطره الأول وهو العنف والعدوانية والصحة والسواء في شطرها الثاني اللاعنف والمسالمة، لذا فإن انتظامها في سلوك التطبيع نحو المسالمة واللاعنف قائم على أساس المنطق الذي يرتضيه العقل الإنساني، ونقيضه هو المنطق الذي يقوم على السلوك الحيواني، فبواعث النفس تدفع بالمسالمة واللاعنف نحو التطبيع الداخلي الذاتي نحو القبول والاعتراف بالأخر بينما البواعث في العنف والقسوة تدفع إلى سلوك القتل والانتهاك والتدمير. بقي علينا أن نوضح الباعث لانطلاق العدوان والسلوك التدميري بالعنف، وكما هو معروف لدى المتخصصين في العلوم النفسية ولدى عامة الناس أيضا بان العدوان والسلوك العنيف هو طاقة انفعالية تشحذ الطاقة الذهنية لمتابعة المواقف الحياتية، وهي دائماً خالية من حسن النية أو التعاطي بسلوك المرونة مع تلك المواقف لدى الفرد نفسه أو مع أسرته أو مع الآخرين، فيكون التوتر في أعلى درجاته دائما، والشك في الآخر مهما كان قربه أو بعده عنه حتى وان كانت زوجته أو أبناؤه، فهو يشحن الطاقة الذهنية نحو هدف ما في الحياة سواء كان موضوعا أم شخصا بعينه أو ما شاكل ذلك، ويظل التوتر هاجسه الدائم. أما لو إستعرضنا بواعث اللاعنف وعوامل تشكيل السلوك لوجدنا أن عوامل التطبيع النفسي بدأت منذ سنوات التربية الأولى وامتدت إلى المجتمع لتكون تنشئة معتدلة مع الآخرين حتى تجعل الفرد المسالم بعيداً حتى عن التأفف أو مظاهر الجزع مع الذات في أحلك لحظاتها أو مظاهر الضجر في أعلى درجاتها، والقول الذي يسود دائما في فترات الألم والضيق ) قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا ) لذا فإن المسالمين يحققون الظفر والقدر الكافي من الاتزان ما كانوا يحصلون عليه بغير موهبة التطبيع النفسي التدريجي للذات نحو اللاعنف والمسالمة. اللاعنف والبناء النفسي للذات أجمعت الدراسات والبحوث السيكولوجية والاجتماعية أن جميع الشخصيات العدوانية تشترك في تركيب سيكولوجي واحد يمكن أن يتخذ كدعامة في التشخيص، يشترك في هذا التركيب والتكوين بيئة اجتماعية مرضية واستعداداً جبلياً (موروثاً) غير سوي، الأمر الذي يؤكد الرابطة الوثيقة بين التركيب النفسي والعوامل البيئية والبيولوجية، فالعوامل الإستعدادية تكون دافعا قوياً في تشكيل السلوك العدواني، بينما في البناء النفسي المسالم للذات يكون الحب بديلاً أكيدا عن العدوان، ويتساءل علماء النفس لماذا العدوان - وليس الحب- هو السلوك السائد في بعض الشخصيات المضادة للمجتمع أو ذات الطابع القاسي في التعامل، بينما جُبل الإنسان على القبول والمسالمة والتآلف، وهذا ما أكده (سيجموند فرويد) حينما قسم الغرائز إلى غريزتين أساسيتين: غريزة الحب وغريزة العدوان. وغريزة الحب هي غريزة بناءة تتضمن حب الذات وحفظ النوع وهي الغريزة الأكثر سيادة في الجنس البشري وتعد الطاغية على التكوين النفسي والخلقي وتعمل في الأساس على البنيان وتآلف الأشياء والتقارب بين البشر وتقود معظم أبناء البشرية إلى التطبيع الاجتماعي لادوار الحياة المختلفة ويجمعها القاسم المشترك هو روح المسالمة واللاعنف وقبول الآخر مهما كانت قوميته أو دينه أو مذهبه أو اتجاهه السياسي أو انتماءه الفكري، وساعدت النظريات النفسية التي دعت إلى اعتماد التطبيع الاجتماعي أساساً في التعاملات وخصوصاً نظرية التعلم الاجتماعي التي ركز أحد روادها (ولتر ميشيل) بقوله أن البشر يتعلمون كلا النمطين من السلوك بمشاهدة النماذج المتنوعة من حولهم، فنحن نقلد الأشخاص المسالمين والعدوانيين في معظم الحالات، ويضيف (ميشيل) إننا نفعل ذلك لأننا نأخذ تشجيعاً حينما يوافق على سلوكنا الإباء والأقران والمعلمون وغيرهم من القائمين في المجتمع، المسجد، المدرسة التأهيلية الخاصة، الكنيسة، المعبد.. الخ، كما إننا نتوقع تلك الموافقة والاستحسان مقدماً، فأن كان الدافع قوياً نحو إشباع جوانب المسالمة واللاعنف في الذات وجد الأفراد الطريق نحو قبول الآخرين سالكاُ ومقبولاً، أما إذا كانت الدافعة قوية من السلطات الحكومية أو الاتجاهات المتطرفة في السياسة أوالدين أو المدرسة التأهيلية الخاصة مثل مدرسة بناء العقيدة النضالية أو إعداد الكادر أو تأهيل الشبيبة نحو الجهاد أو كوادر الإستشهاديين..الخ من التسميات الدالة على العنف وتنمية الروح العدوانية، نشأت أجيال جديدة نحو طريق العدوانية وتتسم بسلوك العنف وهو تجيش لغريزة العدوان في الذات وهي غريزة التدمير والهدم وتعمل على تفكيك الارتباطات الإنسانية في النفس أولا ومن ثم في المجتمع ثانياً ثم تؤدي إلى هدم الأشياء الجميلة التي وهبها الله في خلقه على هذه الأرض. يقول علماء النفس الاجتماعي وبالتحديد أنصار نظرية التعلم الاجتماعي، إن الكائنات البشرية لا تولد بمجموعة كبيرة من الاستجابات العدوانية مرتبة ترتيباً معيناً ولكن الأفراد يتعلمون هذه الاستجابات بنفس الطريقة التي يتعلمون بها مختلف أشكال السلوك الاجتماعي الأخرى ومنها المسالمة وسلوك القبول للآخر واللاعنف، ويمكن أن تجد هذه السلوكيات التعزيز الكافي من أفراد المجتمع والمنظمات غير الحكومية مثل جماعة المسجد وأقران المدرسة والمعلمين ودور الشباب ومراكز تأهيل الشباب فينشأ اللاعنف كسلوك يرتبط في الذات مباشرة وهو تكوين صميمي لا يقبل الانفصام عن الذات ويصبح أحد سجايا أساسية أهمها اكتساب السلوك والمكافأة أو التوجيه الذي يرتبط بهذا السلوك والعوامل الاجتماعية والبيئية التي تؤثر فيه. إننا أمام إشكالية نفسية في التكوين وبناء الذات، واجتماعية في التقليد واكتساب السلوك بشقيه إما العدواني وهو الأسهل والأكثر انتشاراً ورواجاً وإما المسالمة وهو الأصعب والأكثر نضالا ومجاهدة مع النفس والأقل صبراً وقدرة على التحمل والمطاولة بفعل سيادة سلوك الكراهية وسياسة العنف التي أدمنها الناس عبر القرون والعقود.فتقليد السلوك المسالم اللاعنيف يكون سائداً عندما يكافأ النموذج (القدوة) رجل الدين المعتدل المسالم الواعظ، أو السياسي العاقل محترف الأهداف السامية وخصوصا إذا كان المتلقي يعشق النموذج من نفس الدين أو المذهب أو نفس الاتجاه السياسي أو الطائفة، فالأرض لا تخلو من عقلاء في الأديان السماوية وغير السماوية والمذاهب بمختلف أنواعها والاتجاهات السياسية بمختلف توجهاتها وإزاء ذلك فإن بزوغ نزعات اللاعنف وسلوك المسالمة في التكوين الأول لنشأة الإنسان خلال مراحل حياته الأولى يعطي الوقاية والضمان الأكيد من السلوك العدواني الصريح أو قدرة المسالم الذي تم بناءه النفسي لذاته بأساليب مختلفة عن الأساليب التقليدية في نمط العدوان، انه يستطيع التحكم في كل سلوكه وضبطه، فإذا كان العدوان شكلا متعلماً من السلوك فأن المسالمة واللاعنف شكلا مضموناً وأكيدا في نتائجه خلال مراحل التعلم ونوجز بعض المقارنات في الأسباب والنتائج كما يلي:
إن المسالمة واللاعنف هو بناء نفسي للذات يحفزه دافع غريزي مصدره التسامح ويدخل أصلا في تكوين الفعل النفسي السوي، هذا الدافع استقل بذاته وحل محل الدفعات العدوانية في الذات الإنسانية، فكل إنسان به من الخير وبه من الشر، ففي اللاعنف يسود الخير وفي العدوان يسود الشر، الشر خصوصاً في مرحلة العمر الأولى ومرحلة المراهقة، فالمسالم- اللاعنيف يجني ثمن هذه التعزيزات والتدعيمات مستقبلا حينما تسود الطمأنينة نفسه وينتابه القلق أزاء أي خطأ محتمل أن يرتكبه ويفسر بالسوء، فهو يمنح الاحترام والتقدير للذات أولاً لينعكس ذلك على العالم الخارجي وهو بذلك يستحوذ على التقدير في البناء النفسي لذاته وللآخرين. * أستاذ جامعي وباحث سيكولوجي Elemara_32@hotmail.com |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
|