لا يحمل نظام الإشارة صفة الملكية
الشاملة إذا ما حللناه إلى عناصره الأولية فإنه يتكون من الدال
الذي هو عرضة للتغير الخاضع للزمان والمكان، والمدلول الذي يبقى
بشكله الأثيري الكلي المعبر عنه بألفاظ مختلفة.
وإذا ألفينا إلى وصف المقدمة الأولى لمكونات الإشارة وجدنا أن
الدال يتكون من الموضوع المشخص المشار إليه وهو ما ينطبق عليه وصف
الفردي المتعلق بالموضوعات الحسية، أما المقدمة الثانية، فإنها
تتكون من الموضوع المشترك المتفق عليه الذي هو المدلول، ولأن
الإشارة تتكون من هاتين المقدمتين، فإن ضرورة التلازم وما يميز
الدال والمدلول في حالة كون الإحالة الخارجية هي ما يتوسط هذه
العلاقة.
فما نوع الإشارة إذاً عند
سوسير؟
إن الإشارة عند سوسير تتكون من
قطبين هما: الدال وهو حقيقة نفسية أو صورة سمعية تحدثها في دماغ
المستمع سلسلة الأصوات التي تلتقطها أذنه وتستدعي إلى ذهن المستمع
صورة ذهنية أو مفهوم وهو المدلول
(1). وقد برر
سوسير علاقة الدال بالمدلول من حيث أنها تنفي الشيء الخارجي على
اعتبار أن الإشارة هي عملية نفسية داخلية أو هي انطباع صورة الشيء
في الذهن والاحتفاظ به وبمجرد ذكر اسمه فإنه يتمثل أمامي كصورة
ذهنية معرفية وهذه الصورة يكسبها الإنسان عن طريق البيئة الثقافية
وعملية السماع والرؤية إلى أن يصل الإنسان مرحلة معرفة الشيء دون
الإحالة إليه، ولهذا السبب فإن نظام الإشارة عند سوسير يتخذ صيغة
الاعتباط أو النسبية لأن معرفة الأشياء بالنسبة إليه انطباعية
تصورية مع اختفاء الإحالة الخارجية التي ربما تكون القرينة التي
تربط بين الدال والمدلول عند سوسير.
هذا التبرير الذي يحاول سوسير أن يقنع به تلامذته لا يكون مقبولا
برأي الفلاسفة الوضعيين الذين اهتموا باللغة فنجد على سبيل المثال
الفيلسوف البراجماتي الأمريكي تشارلز سوندروز بيرس (1839- 1914)
الذي لا يستطيع التنكر لوجود الموضوع الخارجي لأن الإشارة بالنسبة
إليه ثلاثية الأقطاب، وهي على شكل مثلث تمثل المفسرة الزاوية
القائمة من المثلث ويمثل كل من الموضوع والمفسرة الزاويتين اللتين
في قاعدة المثلث، فالمصورة هي الحامل المادي للإشارة التي تقابل
(الدال) عند سوسير والمفسرة تقابل (المدلول) عند سوسير، أما
الموضوع فهو القطب الذي تفتقر إليه ثنائية سوسير وهو الركيزة في
ثلاثية بيرس، التي تشكل موضوع التلازم الضروري في نظام الإشارة عند
بيرس.
ومن الكتاب والباحثين الذين كان لهم حضور في موضوع الإشارة هو
الدكتور العراقي ياسين خليل الذي تناول موضوع السيميوطيقا في كتابه
(منطق اللغة) حيث استعرض لنا الدكتور محاولاته الرائعة في عملية
تحليل وتفهيم اللغة والجانب السيميوطيقي فيها، ففي هذه الدراسة نجد
أن الدكتور ياسين يلتزم أسلوبا أكثر دقة وتخصص في تحليله للإشارة،
وهو يحاول أن يعرض لنا الأنظمة الثلاثة التي تكوّن بما يعرف بـ
(السيميوطيقا) وهذه الأنظمة يحددها الدكتور ياسين بـ (السنتاكس
والسيميانطقية والبراجماطيقة). وهذا يعني أن الإشارة بالنسبة له
تكون ثلاثية الأقطاب ويقوم الدكتور بدراسة مسحية دقيقة في تناوله
كل واحدة من هذه الأنظمة بصورة مستقلة حيث يبدأ بعملية تفكيك هذه
الأنظمة إلى أصغر كيان فيها ومن ثم يشيد البناء الأخير، الذي هو
السيميوطيقا، ويحاول الدكتور التعمق في بحثه هذا للوصول إلى
المتواليات المتناهية في الصغر، التي تحليلها إلى كائن أصغر من
ذلك، وتعتبر هذه المتواليات هي الكيان الأول في نظام اللغة (كالحرف
في الكلمة حيث أنه لا يمكن تحليله إلى جزء أصغر منه)
(2)، ويمتاز
الدكتور ياسين أثناء إجراءه عملية تحليل الإشارة في أنه يعطي خطة
بواسطتها يتم تفكيك الإشارة وبناءها، فعلى سبيل المثال يفرّق
الدكتور ياسين بين مستويين في البحث العلمي يتضمن:
المستوى الأول: موضوع البحث / المستوى الثاني: فيتمثل في النظام
الذي يتكلم عن موضوع البحث أو بعبارة أخرى فهو يميز بين اللغة
كنظام مستقل قائم بذاته، وبين اللغة العلمية التي تتناول أو تبحث
في موضوع ما، وهذا التمييز يبرز كذلك عند سوسير بين اللغة والكلام،
وقد أطلق الدكتور ياسين على هذين المستويين باللغة العلوية بالنسبة
للمستوى الأول ولغة الموضوع بالنسبة للمستوى الثاني، وهذا الكلام
يحيلنا إلى استنتاج، إن اللغة تلك سلوكين في وجودها فهي من حيث
القاعدة (نحو) تكون ثابتة، ومن حيث أنها كلام عن موضوع علمي أو
ثقافي فهي صيرورة متحركة مع تحرك هذه الثقافات، والملاحظ على
الدكتور ياسين أثناء سلوكه طريق التحليل أنه يتبع خطوات منطقية
علمية ويحاول بواسطتها تحديد اللغة والإحاطة بها صيانة منه حتى لا
يشكو هذا البحث التشتيت، وهذه الدراسة المنطقية للغة تختلف عن
دراسة سوسير وبيرس الذين اهتموا باللغة كلغة دون إدراج المنطق في
عملية التحليل الذي يقومان به، حيث أتبع سوسير تحليل اللغة تحليلا
داخليا نفسيا دون اللجوء إلى شيء خارجي في معاملته للإشارة، أما
بيرس فأن الأقطاب الثلاثة للإشارة لديه تمثل كل واحدة منها إشارة،
وهذا ينفي عملية البناء لأنه لا يكون هنالك نظام إشارة بل نظام
إشارات متعددة ومختلفة وهذا يضرب النظام الذي لا يستطيع أن يحوي
المتناقضات.
أما الدكتور ياسين فإننا نجد في تعريفه عملية إقامة نظام هرمي
ثلاثي الإشارة، ولكنه لم يعطي الموضوع الداخلي أو تحليل اللغة
نفسيا اهتماما كبيرا، ولو أنه تناولها ولكن بشكل يعطي مجال للأنظمة
الأخرى أن تأخذ حظها في التحليل، فهو واضح من تعريفه يحاول أن يظهر
لنا هذا المنهج على أنه منهجا شاملا، فهو يعرّف السيميوطيقا أو علم
الإشارة، بأنها علم دراسة اللغة من جميع نواحيها التكوينية ورفع
هذه الدراسة على هيئة نظرية عامة ممكنة التطبيق على جميع اللغات
مهما اختلفت خصائصها وأصولها
(3)، والسيميوطيقا
تختلف عن السنتكاكس (الصورة) والسيميانطقية (الدلالة) أو (المعنى).
والبراجماطيقية (الصوت أو الكلام) من حيث تكوينها العام حيث أنها
تدرس كل واحدة من هذه الأنظمة على إنفراد وتسعى لوضع أسس عامة لهذه
العلوم وتبحث اللغة ككل غير مجزأ إلى خصائص مختلفة الطبيعة وإلى
جانب ما تقدم تهدف السيميوطيقا إلى معرفة وكشف الصفات والمباديء
التكوينية لكل لغة.
إن معيار التحقق الذي نألفه عند فلاسفة الوضعية المنطقية وعند
الدكتور ياسين خليل هو المعيار الذي يجعل من القضية قابلة للتصديق
لأنها لا تأخذ صيغة التصور فقط، وإنما الحكم على هذا التصور من
خلال الواقع القابل للتجربة.
________________________________________________________________________________
1- أنظمة: العلاقات في اللغة والأدب والثقافة،
ترجمة سيزا قاسم ونصر حامد أبو زيد، دار الياس العصرية، القاهرة-
مصر، 1986، ص19.
2- أنظر د. ياسين خليل، منطق اللغة، كلية الآداب،
بغداد، 1962، ص22-23.
3- منطق اللغة، ص22- 30.