إن اقتراباً أولياً وعاماً نحو
التعرف على حال الثقافة في البرتغال سيكشف عن الكثير من ملامح
التشابه بينها وبين حال الثقافة العربية، ومن ذلك، هذا المخزون
الهائل من الذاكرة الغنية والإرث الحضاري المتراكم عبر أزمنة كانت
فيها البرتغال امبراطورية وقوة يمتد سلطانها إلى بقاع شاسعة من
العالم، بما في ذلك سواحل الخليج العربي. يقول ساراماغو في روايته
(سنة موت ريكاردو رييس): (تذكروا الخريطة الوردية.. بين أنغولا
والساحل الشرقي.. من يسد علينا الطريق؟.. كل شيء برتغالي؛ الطرقات،
الأرض، العَلَم.. ولكن الإنكليز هم الذين خدعونا). كانت تستكشف
الأراضي والبحار والمحيطات والمضايق التي بقي أحدها يحمل اسم
البرتغالي (ماجلان) الشهير حتى يومنا هذا، وكذلك المستعمرات
الكثيرة التي تذكر العالم والبرتغاليين بتاريخ عريض لهم، وهذا ما
حدث في أيامنا حيث تظاهر البرتغاليون مطالبين بالتدخل الدولي
لحماية سكان جزيرة تيمور التي كانت إحدى آخر مستعمراتهم.. وهكذا
فمن الطبيعي أن نجد بأن ذاكرة الثقافة البرتغالية مثقَلة بالماضي
كذاكرتنا العربية. كما نجد لشبونة العاصمة مدينة مخضبة بأصابع
التاريخ ومكتظة بالمتاحف التي يشير بعضها إلى تأثيرات حضارية قادمة
من الشرق وفيها أجنحة للفن الإسلامي وكنوزه، إضافة إلى تلاقحات
متعددة مع حضارات أخرى حين كانت البرتغال سيدة على الأرض ولغتها
مهيمنة على الخطاب العالمي.
تجدر الإشارة إلى أن البرتغال قد اعتذرت رسمياً للعرب والمسلمين عما حدث فيها
لهم من تعذيب وظلم ومعاناة خلال أعوام محاكم التفتيش في القرنين
السادس والسابع عشر، فيما لم تفعل أسبانيا ذلك حتى اليوم على الرغم
من أن محاكم التفتيش فيها كانت أكبر وأشد وأقسى مما كانت عليه في
البرتغال، وعلى الرغم من المحاولات المتكررة للمثقفين
والدبلوماسيين العرب برفع مطالباتهم بالاعتذار إلى التاج الملكي
الأسباني.
البرتغال اليوم هي دولة صغيرة لا يكاد الناظر إلى الخريطة يميزها عن أسبانيا
التي تمتد على وجه شبه الجزيرة الإيبيرية، فيما تراجعت اللغة
البرتغالية إلى الصفوف الأخيرة في تسلسل اللغات المهمة لتقتصر الآن
على بلدين رئيسيين هما البرتغال والبرازيل، الأمر الذي جعل من نيل
خوسيه ساراماغو لجائزة نوبل انتصاراً كبيراً للغة البرتغالية وأعاد
التذكير بها إلى الحد الذي تم فيه عقد مؤتمر دولي لمراجعة تحديثها
وإعادة الاعتبار لها. علماً بأن نوبل ساراماغو هي نوبل الوحيدة
للأدب البرتغالي وهي في الرواية، مثلما أن نوبل نجيب محفوظ هي نوبل
الوحيدة للأدب العربي، وفي الرواية أيضاً. وكثيراً ما دعا ساراماغو
في أقواله وأعماله إلى إعادة الاهتمام باللغة البرتغالية، و(على
الآخرين أن يتعلموا لغتنا مثلما نتعلم لغاتهم)، لكن أبواب الترجمة
لم تُفتح على مصراعيها للأدب البرتغالي كما قد نتصور بعد نوبل
ساراماغو، تماماً مثلما لم يحدث ما سبق لنا وأن توقعناه لأدبنا
العربي بعد نوبل محفوظ، فلم تُسمع أصوات الأدب البرتغالي اليوم
عالمياً، وربما تم الاكتفاء بإعادة طبع ما تمت ترجمته سابقاً،
لمجرد انتهاز مناسبة الجائزة كفرصة للبيع، فطُبعت بعض أعمال
الروائي والقاص البرتغالي الدبلوماسي إيكا دي كيروس (1845-1900)
الذي يعتبر رائداً للواقعية ومعلماً له تأثيره المهم على الأدبين
البرتغالي والبرازيلي. إضافة إلى أعمال شاعر البرتغال الكبير
فرناندو بيسوا (1888-1935).. وكتب أنطلوجيات وملفات عامة في
المجلات والملاحق الثقافية عن الأدب البرتغالي.. وبقيت أسماء عديدة
أخرى مهمة مجهولة عالمياً، أمثال: ماريو دي ساكرنيرو، أنطونيو
بوتو، خوسيه ريخيو، ميغيل تورغا، فلوربيلا إسبانكا، خورخه دي سينا،
روي ثيناتي، أنطونيو كواتوبينا.. وغيرهم. أما عن ساراماغو نفسه فلا
شك في كونه الآن أحد أهم الروائيين الكبار وله صوته ووزنه في
الخطاب الروائي العالمي، ويحظى بالإعجاب والتقدير الكبيرين في كل
أنحاء العالم، ومع ذلك فثمة كثيرون مازالوا يعتقدون بأنه أسباني
لأنه يقيم في أسبانيا منذ سنوات طويلة ومتزوج منها، وأغلب أعماله
تُرجمت عن الأسبانية لا عن البرتغالية. وحتى في داخل البرتغال تكاد
المعرفة الجيدة به تنحصر في أوساط المثقفين وإن كانت الغالبية من
البرتغاليين تعرف اسمه لكنهم لم يقرأوه. وحين نسأل عن ذلك نجد
الجواب في كونه صعب القراءة لأنه يستخدم تقنيات معقدة!.. ولا تخلو
الإجابة أيضاً من الإشارة إلى أنه مُعارض قديم وعلى خلاف مزمن مع
السلطات منذ بداية نضاله ضمن صفوف الحزب الشيوعي البرتغالي، فهو
(شيوعي عنيد) كما يصف نفسه.. إلا أننا نلمس بوضوح افتخار مواطنيه
به ونتذكر استقبالهم الجماهيري والرسمي الكبير له عند حصوله على
نوبل. وتحمل الآن في لشبونة أهم مؤسسة ثقافية اسم ساراماغو؛ تقام
فيها المؤتمرات والندوات والمعارض والنشاطات الثقافية الكبيرة
وتطبع الكتب والصحف الأدبية.
تعتز البرتغال بأعلامها من الكتاب والشعراء فأقامت لهم النصب والتماثيل
وأطلقت أسماءهم على الساحات والشوارع كما هو الحال- مثلاً - مع
شارع الميدا غاريت في لشبونة. كما أنها تحافظ على اسم المنطقة
(تشيادو) الذي أطلقه عليها الشاعر أنطونيو ريبير منذ القرن السادس
عشر. ومثل الكثير من العواصم في بدايات القرن العشرين فقد كان
للمثقفين مقهى أو أكثر يلتقون فيه، ففي لشبونة اشتهر (المقهى
البرازيلي) أو (البرازيلية) بتسمية (مقهى المثقفين) وهي مصادفة
تذكرنا بالمقهى البرازيلي في بغداد. تأسست (البرازيلية) سنة 1920
وتقع في ميدان روسيو في حي كايشا. وكان من أبرز مرتادي هذا المقهى
الشاعر فرناندو بيسوا مما جعل بلدية لشبونة تقيم له تمثالاً بالحجم
الطبيعي جالساً في موقع طاولته المفضل، كأنه لم يغادرها، وبجانبه
مقعد فارغ يتناوب عليه الزوار جلوساً لالتقاط الصور مع بيسوا.. وكم
تمنيت حينها لو أن التفاتة جميلة كهذه تحدث في وسطنا الثقافي، كأن
تقام تماثيل للزهاوي والرصافي وغيرهم في مقاعدهم المعتادة أو
للبياتي مثلاً في ركنه المفضل في مقهى (الفينيق) في عمان، فيجسد
الأمر حضوره وسط كراسي رواد المقهى وجلب الزائرين والسياح إليه.
هذا وجوار (المقهى البرازيلي) تماماً نجد فندقاً يحمل اسم بورخس،
وعلى مقربة منهما توجد أقدم وأكبر مكتبة في لشبونة، والتي لم أجد
فيها أية ترجمة للأدب العربي، حيث لا أحد هناك يعرف عنه شيئاً. ولا
وجود حتى لصحف عربية مثلما نجدها في أكشاك العواصم العالمية
الأخرى، الأمر الذي يؤشر إلى قلة وجود العرب.. ربما بحكم تأخر
الوضع الاقتصادي للبرتغال عن سائر أوربا.
أما عن الفنون الأخرى فلا وجود لإنتاج سينمائي برتغالي تقريباً، ويعود ذلك
للعامل الاقتصادي أيضاً، فيما نلاحظ ازدهاراً وتطوراً في المسرح
ووجود حركة تشكيلية عريقة ومتنوعة، وكذلك الموسيقى التراثية
والشعبية إضافة إلى تجارب مزج الفادو البرتغالي الشهير بالسامبا
البرازيلية.
بقيت الإشارة إلى أن البرتغال يتوجه الآن بشكل عام نحو إعادة ترميم الآثار
والقلاع القديمة وفتح المتاحف وتجديد وسائل الاتصال والاهتمام
الكبير بالمرافق السياحية التي بدأت تجلب الأجانب إليها بكثرة
وخاصة بعد انضمام البرتغال إلى الاتحاد الأوربي وتلقي الدعم منه،
الأمر الذي يأخذ اهتمام الناس إلى التجارة واستثمار الصناعات
اليدوية والفنون الشعبية وازدهارها على حساب نتاجات الحركة
الثقافية المعاصرة. يروق للسياح هنا الهدوء وطيبة البرتغاليين
المسالمين التسامحيين ومراكب نهر التاجه الممتد كلسان للمحيط
الأطلسي في لشبونة يغذيها بنسائم ثقافات العالم الأخرى وهي تفتح له
ذراعيها مُرحِبة. البرتغال اليوم ينظر ويتطلع إلى المستقبل ولا
يكتفي بالانطواء على أمجاد ماضيه، وإنما ينتقي ما هو إيجابي في
تاريخه وتراثه، ويستثمر كل ما يخدمه ثقافياً واقتصادياً في هذا
العصر، كما يحتضن الشعب البرتغالي خليطه العرقي بتجانس وبلا تمييز
عنصري بين سود وبيض وأصليين وغير أصليين، فهو يساوي تماماً بين
أهله الأصليين وبين الذين قدموا إليها من مستعمراته القديمة، فصار
الشعب بذلك نسيجاً غنياً وثرياً بتنويعاته العرقية والثقافية،
ولهذا الأمر أيضاً تأثيره في أن أصبح الشعب البرتغالي الآن أقل
الشعوب الغربية عنصرية تجاه الأجانب والمهاجرين.. هذا إذا لم نقل
بأن العنصرية تكاد تنعدم فيه تماماً.