مما لاشك فيه إن سلوك
المسالمة واللاعنف هو بحد ذاته تأصيل للرحمة بين الناس، وخلق أسس
عريضة ثابتة بين هؤلاء البشر ومن ابرز سماتها المودة، التقارب،
الألفة، أما في السلوك الآخر والنقيض المتمثل في العنف والقسوة
والاعتداء، فنرى جميعنا نحن البشر النرجسية الواضحة عند الشخص
العدواني مع وضوح تام لموت العلاقة الاجتماعية مع الناس الآخرين،
أي فناء الآخر على المستوى اللاشعوري، رغم استمرار العلاقة بين
الشخص العنيف والآخر بصيغتها الشكلية، ليس إلا، وهنا تكون سمات
العنف الدائمة، الكراهية، البغض، الحقد على الآخر، الحنق، الحسد،
النميمة، سوء الظن الدائم بالآخر مهما كان نوع الآخر أو جنسه أو
دينه أو مذهبه أو فكره أو انتماءه، حتى تعتمل النزعات العدوانية
داخل الشخص العنيف وتتراكم لحد التدمير، ويصل الأمر به في لحظات
الغليان إلى أن تتكون الرغبة في فناء الآخر حتى وان كان أخيه، الذي
سلك مسلكاً فكرياً مخالفاً له أو اعتنق اتجاهاً خالف فيه شقيقه...
في لغة العنف تسود لغة التدمير وفيه تتمثل غريزة الموت، وهنا نتوقف
قليلا لكي نرى سيكولوجياً أين هو التوافق؟ التوافق مع الذات أولاً،
والتوافق مع الآخر ثانياً؟
يطرح علماء النفس مفهوم التوافق النفسي على انه توافق الفرد مع
ذاته، وتوافقه مع الوسط المحيط به، وكلا المستويين لا ينفصل عن
الآخر وإنما يؤثر فيه ويتأثر به، فالفرد المتوافق ذاتياً هو
المتوافق اجتماعياً، ويضيف علماء النفس بقولهم: التوافق الذاتي هي
قدرة الفرد على التوفيق بين دوافعه وبين أدواره الاجتماعية
المتصارعة مع هذه الدوافع بحيث لا يكون هناك صراع داخلي.
أما التوافق الاجتماعي أو التوافق مع البيئة الاجتماعية أو الوسط
المحيط فيعني قدرة الفرد على التكيف مع البيئة الخارجية - المادية
والاجتماعية - والمقصود بالبيئة المادية، كل ما يحيط بالفرد من
عوامل وظروف طبيعية ومادية مثل الطقس، الجبال، الوديان، الأبنية،
وسائل المواصلات، الأجهزة والآلات..الخ. أما البيئة الاجتماعية
فتشمل العلاقات بالآخرين في إطار التعامل الإنساني، الألفة،
الثقافة، التبادل الفكري، المعايير الاجتماعية، القيم والعادات،
الشعائر والطقوس، الأهداف العامة والمصالح الإنسانية المشتركة..
الخ.
هذه المتغيرات الفردية الشخصية والاجتماعية العامة تضطرب تماماً
عند الشخص العدواني الذي يؤمن بالعنف والقسوة والخشونة كأسلوب
للتعامل وحل النزاعات الفردية والجمعية، ونقيضه التام الذي يتمثل
في سلوك التسامح والمسالمة وهو الذي يؤمن بمبدأ اللاعنف كسبيل
لإقامة أسمى العلاقات مع النفس أولا ومع الآخر ثانياً.
فالشخص العنيف فقد التوافق الذاتي الداخلي واختلت لديه بنفس الوقت
العلاقة مع الآخر، حتى انفصمت تلك الجدلية بينه وبين ذاته، وبينه
وبين الآخر، بينما اللاعنف هو قمة التوافق النفسي مع الذات ومع
الآخر.
إن البيئة الاجتماعية ذات طبيعة متغيرة، وهي تتطلب من الفرد أن
يعدل سلوكه حتى يمكنه التكيف معها بسبل مشروعة تجعله راضياً عن
نفسه، بعيداً عن مراجعة العقل وتأنيب الضمير، وينعكس هذا على
مجتمعه الذي يتعامل معه وحينها يكون راضياً عنه، سعيداً به، ولكن
لا يعني هذا إطلاقا أن يستسلم المتسامح أو المسالم أو اللاعنيف
للبيئة الفاسدة تحت مسمى التكيف الاجتماعي وإنما عليه أن يسعى
لتعديلها بالأساليب والوسائل المقبولة بعيداً عن التعصب وضيق الأفق
واللجوء إلى القسوة، بل إلى الحوار وتعديل السلوك قدر المستطاع، إن
نجاح الفرد في التكيف الاجتماعي يعتمد على قدرته في تكوين علاقات
اجتماعية صحية مُرضية له وللآخرين في وقت واحد، تقوم أساسا على
المحبة والتسامح والمودة وافتراض حسن النية في المقابل، علاقة لا
يشوبها الشك أو العدوان أو الاعتداء على الآخرين أو عدم الاهتمام
بمشاعرهم.
تطرح نظرية اللاعنف بعض أساليب التوافق النفسي - الاجتماعي من خلال
سلوكيات معينة تتجسد في التآلف والتقارب واجتماع الكلمة وتمتين
روابط المودة مع الآخر، وإنبات بذور الرحمة بين الناس، ويعتقد معظم
العقلاء من الناس، انه جانب طبيعي وأساس لنمو العلاقات بين الناس،
غرباء أو أقرباء، متزوجين أو غير متزوجين، رجال أو نساء، أطفال أو
مراهقين، وعند اللجوء إلى بعض هذه الآليات التي هي بحد ذاتها جزء
صغير من الأسس العامة لتربية اللاعنف وتنشئة التكيف النفسي
والاجتماعي القائم على المسالمة، تهدف هذه الآليات إلى تحقيق
التوفيق والموائمة والانسجام بين البشر، وتقوم على أسس التكيف
والتحمل والتضحية، حيث يضحي أحيانا الطبيب من اجل إنقاذ شخص لا
يعرفه وربما لا تربطه صلة به، أو لا يتقارب معه في الدين أو المذهب
أو الاتجاه أو حتى الانتماء الوطني، ولكن يتقبل إبداء المساعدة،
ويكون سبباً في حياة هذا الشخص.. أنها صلة إنسانية فحسب، لا تحكمها
المنفعة أو الجاه الاجتماعي أو المجد الذي سيحققه..
إن من آليات اللاعنف.. أن يتنازل الإنسان الواعي عن جزء من حريته
للآخر أو لصالح الطرف الآخر من اجل أن تستمر الحياة بدون عنف
وتصفيات وتجنباً لكل المضاعفات اللاحقة والترسبات التي ربما تشعل
حريقاً مدمراً بين الناس وتسمى هذه الآلية (طلب الإسناد
الاجتماعي). ولكي تتحقق هذه الآليات بصورتها السهلة لابد من أن
تقوم على أسس التوافق النفسي من منطلق نظرية اللاعنف من خلال:
- الجودة في العلاقة
- القدرة في العلاقة
لا يخفى على الجميع أن الإنسان المسالم المتسامح يتمتع بصحة نفسية
عالية ولديه قدرة متفوقة في التقييم ويدرك مدى سلوكه وانعكاسه على
الآخرين، وبه من صفات التفاعل والأداء بحيث ترضي الآخرين من الناس
حتى باتت سمة الجودة في أداء العلاقات هي السمة الثابتة نسبياً
والغالبة على سلوكه، رغم انه يتعرض للكثير من الضغوط الخارجية لغرض
الإثارة أو محاولة إبعاده عن مساره الإنساني في التعامل مع مشكلات
الحياة بهدوء، لكن مصادر الجذب والتأثير لا تأخذ مفعولها به
إطلاقا، فلديه درجة عالية من الرضا عن أسلوب الحياة الذي يمارسه،
ولديه من الثقة بالنفس بحيث يدركها الآخرون دون عناء، ولديه قناعة
كاملة بالاكتفاء الذاتي النفسي وبدوره يكون هذا الاكتفاء منعكساً
في العلاقة مع الآخرين.
أما القدرة العالية في العلاقات الاجتماعية فتنبع من فاعلية
الاتصال مع الآخرين بحيث لا يوصف من قبل الآخرين، كأنه مجامل أو
منافق أو لا سمح الله بأنه كاذب أو متملق أو مداح، وإنما يمتلك
الإشباع النفسي الذاتي الشخصي الذي يمنحه احترام الآخرين دون
مراءاة لهم. فهو يعرض المساندة للآخرين ويمنح القدرة العالية في
تعزيز أداءات الآخرين دون إشعارهم بالضعف أو التفوق. إن سلوك
المسالم، المتسامح يعد بحد ذاته مكافآت نفسية اجتماعية ناتجة عن
قناعة تامة بالقدرة على المنح والعطاء، انه يستطيع الاندماج في
علاقات وثيقة صادقة مع الآخرين حتى كادت هذه القدرة أن تصبح سمة
ثابتة من الدرجات النفسية في الجودة والاستقرار.
إن سلوك اللاعنف هو سلوك التكيف والتوافق النفسي والاجتماعي الأمثل
في كل المواقف حتى أن آثار هذا السلوك تظهر في:
- الجودة المرتفعة مع الاستقرار الدائم في العلاقات مع الآخرين.
- الجودة المرتفعة مع الاستقرار الدائم مع النفس - الذات.
- الجودة المرتفعة مع الأسرة والأبناء.
- الجودة المرتفعة والرضا عن الذات بالمعتقد والأيمان بالله
وبالقدر المحتوم.
- الأداءات المنخفضة في التفكير في إيذاء الآخر أو إيقاع الضرر به
مهما كانت الأسباب الداعية إلى ذلك لاي كائن بشري مهما كان جنسه أو
دينه أو انتماؤه أو اتجاهه أو معتقده.
هكذا هي سلوكيات المسالمين، المؤمنين باللاعنف كطريق إنساني يحقق
الأهداف على مختلف توجهاتها، أنها رؤية واسعة متعددة الأبعاد من
منظار واحد، هي رؤية اللاعنف لكل البشر دون استثناء، وهي الرؤية
التي تلاقي الاستحسان الاجتماعي من الجميع.
يعاني معظم الناس في أحيان كثيرة من حالات نفسية مؤلمة منشأها صديق
أو زوجة أو زوج أو زميل في العمل أو ابن أو ابنة، هذه الحالة تترك
في النفس مؤشرات سلبية وربما بثور عميقة تجاه الشخص الذي احدث
الألم. فنحن بشر والبشر خطاؤون وجل من لا يخطأ، وجل من لا ينسى،
فكلنا معرضون للخطأ والنسيان والأدهى من ذلك أننا معرضون أيضا إلى
تفسير الأشياء لا بحقيقتها النقية الصافية بل بأفكارها المتداخلة
بالسوء مع مشاعرنا المقيدة بصور الماضي، فنحن نبني داخل أنفسنا
بناءً ندري حق المعرفة بأنه خطأ وبالي وقديم، إلا أننا نتمسك به
كستار نستند إليه في تعاملنا رغم انه يخفي في داخلنا وجع مؤلم، لكن
نرجسيتنا تمنعنا الاعتراف بالواقع، لان الواقع مؤلم، وكل ما هو
مؤلم مزعج، وهو ما يسميه علماء النفس المرضي الميل إلى الاضطرابات
العصابية دون أن ندري. إن قدرتنا على معرفة الشيء بحقيقته مع معرفة
المشاعر التي تغلفها، هو الطريق الأقصر للوصول إلى حالة الصحة
النفسية، وحينما نعرف بإمكاننا أن نقدر الوصول إلى الحل. فالمعرفة
بالشيء تؤدي إلى اتساع طاقة التحمل حتى ولو كانت المعرفة من الزوجة
أو الزوج أو الابن أو الابنة أو الصديق مرّة وقاسية ومؤلمة، حينئذ
تتسع قدرتنا وطاقتنا على التحمل وبذلك تكون أحكامنا ليست سريعة
ومستعجلة، بل متأنية نابعة من قرار حكيم ومعرفة كاملة للحدث. إن الشواهد في حياتنا اليومية كثيرة وتفاعلنا مع الآخرين داخل
أسرنا أكثر ومع الآخرين في العمل أو في الشارع أو في النادي أو
المنتدى ربما تفوق ذلك لأننا نتحرك لكي نبقى أحياء، نتفاعل لكي
نترك لأفكارنا الانطلاق ولأدمغتنا الاشتغال بالنحو الذي يحرك
الإدراك الواسع والتذكر المنتظم والانتباه الشديد والاستدعاء
الأمثل والتعرف الناجح وربط البعيد بالقريب من الأفكار في تشغيل
المعلومات في لحظة زمنية بذاتها، فعندما نلتقي بالناس تكون جميع
قدراتنا المعرفية مهيأة للعمل ونشطة وإزاء ذلك فأن من يخطأ معنا
نذهب بعيدا بالتفكير معه فأن اتسعت قدرتنا على تحمله، استطعنا
الصفح عنه والعفو عما صدر منه. إننا نعرف اليوم أن العفو والصفح والتسامح قد يكون في عقول البعض
من الناس هو غطاء عن الضعف أو الوهن أو الهزيمة، ولكن في الحقيقة
انه قد يكون ممتزجاً بقدر عظيم من الحكمة والتعقل، وتكفي الإشارة
إلى أن هذا لا يحدث إلا إذا كان الإنسان يستشعر قدراً من المحبة
الأصيلة لنفسه ولأسرته ولأصدقائه وللبشرية جميعها ولا يحمل أية روح
عدوانية تجاه الغير مهما كان جنسه أو دينه أو مذهبه، وإلا لما تكلف
عناء اصطناع المزيد من طلب العفو والصفح والتسامح، بل توغل عمقاً
في الكراهية وسلوك العدوان ورد الفعل العنيف وفكر برد الصاع صاعين
كما يفعل البعض من المتعصبين أو الجناة الجدد من المتدينين. فالعفو
والصفح والتسامح العظيم عندئذ رحمة بالنفس ورفقاً بالآخرين وسداً
يقي الإنسان من فيضان الشك والريبة وتفسير السلوك الخاطئ بالسيئ
الموغل بالكراهية وتدلنا الدراسات النفسية على أن العفو والصفح
والتسامح والمودة في هذه الحالات تصدر من بواعث النفس الإنسانية
الحقة بتكوينها الإنساني لا الحيواني المتمثل في الافتراس والقتل
والعنف. يقوم الدليل اليوم على أن الحاجة إلى العطف والمحبة والتسامح ونبذ
العنف تنم عن شعور عظيم باحترام الذات وقدرة عالية على الامتلاء
النفسي الذي لا يجعل شعور العجز والنقص والإحساس بالتفاهة سلوكاً
لأي منا، فالعفو والصفح هو قدرة الإنسان على العطاء الدائم، إما
العنف والكراهية وسلوك القتل والعدوان وخطف الناس ينم عن النقص
وقلة الرضا عن النفس، ومن اجل ذلك كانت الحاجة إلى العطف والصفح
والتسامح ونبذ العنف مطلب حيوي يرمي إلى بلوغ الطمأنينة والظفر
بالرضا عن النفس.
التسامح يقي من الأمراض النفسجسمية (السيكوسوماتيك)
كلنا نتعرض لمواقف صعبة وبعضها ربما أدى إلى أزمة أو صدمة نفسية
تترك آثارا داخلية لدينا، هذه الآثار لا تبدو للوهلة الأولى واضحة
إلا بعد مضي أسابيع ومن هذه الأعراض المرضية هي مرض السكري الشائع
الانتشار أو ارتفاع ضغط الدم أو قرحة المعدة أو التهاب القصبات
الرئوي أو الطفح الجلدي أو أمراض القلب، كل هذه الأعراض تسمى
الأمراض النفسية -الجسمية وتعني أنها نفسية المنشأ في أسبابها
وجسمية الأعراض في نتائجها. قد تؤدي أحيانا إلى أمراض مزمنة تنتهي
إلى الموت المحتم لذا فأن دعوتنا ترى أن من أساء إليك لا تواجهه
بالعنف أو الاعتداء أو العدوانية المبررة أو غير المبررة أنما
بالتسامح ونبذ الكراهية، فالكراهية كما يصفها علماء النفس الإنساني
بأنها ورم خبيث في دواخلنا، فما أن يكبت الشخص غضبه، أدى ذلك إلى
أمراض عديدة ومتنوعة. أما لغة التسامح، فهي لغة الحوار واحتواء الغضب، لغة كف العدوان
وقمعه، فما أن يلجأ إليها الانسان العاقل ابعد نفسه عن التعرض
للأمراض وبذلك فهي وقاية من مرض أكيد. أظهرت الدراسات النفسية أن
الأشخاص الأكثر قدرة على السيطرة على أنفسهم والتحكم في حياتهم هم
الأكثر إنتاجية والأكثر سعادة ورضا بحياتهم. إن التسامح يزيل سرطان الكراهية من نفوس الناس ويقدم لهم الدليل
أيضا على أن العظماء من الأنبياء والمصلحين والمؤمنين ذاقوا المر
من اجل التسامح، ودعوا إلى نبذ التعصب والعنف الذي يعمي العقول قبل
العيون ويولد المشاعر السلبية تجاه أبناء البشرية عموماً ثم ينتهي
إلى نبذ الآخر ولو كان من نفس الدين وان اختلف معه في المذهب،
وعلينا نحن البشر إن نتحلى بروح التسامح لا بروح التغاضي أو
النسيان أو التصالح مع الأحقاد الدفينة، فالتسامح هو فعل من مجني
عليه تجاه المسيء وأساسه التحول من موقف سلبي إلى موقف ايجابي. أن البشرية اليوم تموج تحت وطأة الكراهية وتعميق السلبيات الناجمة
عنها، فالبعض منا يكره أخيه المسلم من المذهب الآخر لا لأنه كفر أو
ارتد بل لأنه اختلف معه، والحال نفسه مع أصحاب الأديان الأخرى،
فعلينا إزالة السلبيات من خلال فحص أفكارنا ودوافعنا ومشاعرنا ثم
بعدها نبدي تعاطفنا مع من سبب لنا الألم قبل أن نبدأ في تعلم كيفية
التسامح معه ونتحرر من أفكار الماضي، وليعلم الناس جميعاً أن
التسامح مهارة من الممكن تعلمها مع شيء من التدريب وصقل هذه
المهارة بدون تكلفة مادية وإنما بالابتسامة الصادقة وبذلك نتفق مع
قائل هذا المثل: انه في أفضل الحالات يتم اختيار رؤية أخرى للحياة.
_______________________________________________________________________
* السويد - أستاذ جامعي عراقي
وباحث نفسي
elemara_32@hotmail.com
|