ليست بنـا حاجة إلى التعريف بما
جرى مـن عمليات نهب وسلب وفرهود في العـراق وفي بغــداد بشكل خاص،
لحظـة سقوط نظام الحكم في التـاسـع من نيســان 2003. فقد تسابقت
القنوات الفضائية في حينه إلى بث تلك الكارثة الفجيعة، كل بحسب
غرضها، فمنها ما اعتمدت المبدأ الاعلامي الغربي القائم على السعي
وراء الخبــر المثير وتضخيم الاثارة فيــه بالدهشة والتشويق،ومنها
ما اعتمدت صيغة التشفي بما يجب أن يحصل للعراقيين (وحيل وياهم)،
ومنها ما قصدت إلى (أفتضاح حقيقة) العراقيين بأنهم هكذا! واخرى كان
لها موقف آخــر.
ما يعنينا هنــا: تحليل هذه الظاهرة سيكولوجيا، ليس فقط كونها
ظــاهرة ما كان أحــد يتوقع أن تكون بهذا الحجم من بشاعة الاغتصاب
للملكية العامة بــل لأنها تشــكل مشكلة اجتماعيـة وتربويـة
وأخلاقيـة وأمنيـة خطيرة ستواجهها السـلطة التي ستتولى الحكــم في
العــراق.ولأن القائمين بها منتشرون الآن بين الناس وأنهـم أو
معظمهم من فئات معدمـة (حراس، زبالون، لصوص، مجرمون.....) تقع في
قاعدة الهرم الاقتصادي للمجتمع العــراقي، إلى قمته أو قريباً من
القمـة، والكيفية التي يمكن من خلالها أن نحمي المجتمع من سـرطان
أخـلاقي تفشى في نسيجه القيمي الذي أخذ يتهرأ.
وبــدءاً ليس من الصحيح عــزو هذه الظاهرة إلى سـبب أو فئــة من
الأســباب كما حــاول بعض السياسيين والإعلاميين، أنما هــي ناجمة
عن فئــات ســببيه متعددة المصــادر ومتباينة في درجــة حـدتها،
تفاعلت في ما بينها فانفجرت كالقنبلة الموقوتة بزمنها الــذي حانت
لحظتــه.
مدخل لفهم السلوك الجمعي:
يقصد بالسلوك الجمعي، ذلك النوع من السلوك الذي ينشأ تلقائياً أو
عفوياً، ويتصف بأنه غير منظم، ولا توجد له خطة تحكم مساره، وعليه
فإنه يصعب التنبؤ بتطوراته وما ينجم عنها من أحداث.وما يعنينا هنا
هو جموع الحشد crowds والغوغاء Mobs.
ويقصد بالجمع مجموعة من الناس تشترك في الاهتمام بقضية معينة،
ويكون على أنواع من بينها الجموع العرضية (casual groups) وهي جموع
تكون في الغالب غير منظمة وأفرادها لا يعرف بعضهم بعضاً الأ
نادراً، وتظهر لتتجمع في الشارع أو الساحات في الأجواء القلقة
والمتوترة.وقد تنقلب هذه الجموع العرضية إلى جموع فاعلة
وغوغاء.ويعرف أحد علماء النفس الاجتماعي الغوغاء بأنها: (جموع
تستهدف القيام بإعمال عدوانية مثل تخريب الممتلكات أو إشعال النار
فيها أو نهبها، ولا تتجه الغوغاء إلى الإعمال العدوانية عشوائياً
بل أنها تتجه في الغالب نحو هدف محدد).
وهنالك نظريات متعددة حاولت تفسير السلوك الجمعي للغوغاء. ففي
الستينات (1963) عرف (سملر) الشغب بأنه نوع من الاضطراب الشعبي
يتصف بالسلوك الغوغائي العنيف وأن الشغب يمثل انفجارات عدائية
واستياء وتمرداً. فيما تــرى نظريـة (الحثالة) ( (Riffraff theory)
) :
أن المشاركين في حالات الشغب تقتصر على فئة قليلة من المجرمين
والمدمنين على المخدرات وزعماء عصابات المراهقين والمشردين
والخارجين عن القانون،فيما جاءت نظرية بعدها فندت نظرية الحثالة
وأشارت إلى أن الكثير من الذين شاركوا في أعمال الشغب ما كانوا من
الحثالة أنما هم أفراد عاديون لحقت بهم مظالم اجتماعية حقيقية..
وطرح (لوبون) نظرية أسماها مجهولية الاسم (Anonymity) تفيد بأن
نزوع الجماعة إلى القيام بأعمال طائشة يظهر نتيجة لاختفاء هوية
الفرد الشخصية داخل الجماعة. وكلما حال الموقف الاجتماعي دون ظهور
الهوية الفردية زادت أعمال الجماعة تطرفاً. فإذا أدرك الفرد أن
الآخرين معه في الحشد لا يعرفون اسمه، وهو بدوره يجهل أسماءهم فأن
ذلك يدفعه إلى رفع الضوابط السلوكية عن نفسه ويقوم بأعمال كان
يمتنع عن ممارستها في العادة. ويعود السـبب في ذلك إلى أن انعدام
التفرد داخل الجماعة (= مجهولية الاسم والاستقلالية) يزيح
المسؤولية الأدبية والأخلاقية عن كاهل الفرد ويضعها على كاهل
الجماعة..
ويعتقد (لوبون) أن الشخصية الواعية (conscious Personality) تتراجع ويتولى
(اللاوعي الجمعي) توجيه السلوك. ومع أن الكثير من علماء النفس
المعاصرين لا يتفقون مع هذا الرأي. الأ أن (فرويد) قال إن وجودنا
في جمع من الناس يسمح لأنماط من السلوك التي تكبت في العادة
بالانطلاق من عقالها،غير أن هذا الوجود في الجمع بين الناس ينبغي
أن يكون مشروطاً بانتفاء الشعور بالهوية الفردية (= مجهولية الاسم)
التي يفقد فيها المرء جانباً من قدراته على التوجيه الذاتي في
مقدمتها: ضعف الضوابط السلوكية، وتضاؤل الاهتمام بما يقوله الآخرون
عنا، وتقلص القدرة على التفكير العقلاني.
وحاول (براون) أن يفسر الاسباب التي تقلب (الناس العاديين) إلى
نهابين ومخربين ورأى أن الناس يختلفون من حيث الأستعداد للمشاركة
في الشغب، وقال بوجود عتبات متعددة لهذه المشاركة نوجز أهم أنواعها
بالاتي:
1- الخارجون على القانون:
وهم أشخاص مندفعون ذوو ســـجل إجرامي، لا يهتمون كثيراً بنتائج
أعمالهم ولا يكترثون بها.
2- المتقبلون للإيحاء:
وهم الذين يتأثرون بسهولة بالقيادة المندفعة، ولا يحتاجون إلا
لدفعة صغيرة لكي يقتفوا أثر تلك (القدوة)
3- الحذرون:
ويمثلون الفئة الراغبة فعلاً في القيام بالسلوك التخريبي ولكنهم لا
يبادرون إلى ذلك خوفاً من العقوبة القانونية،غير أنهم يسارعون إلى
المشاركة بالافعال التخريبية عندما تنزاح العوائق من أمامهم.
4- المنساقون:
وهم أناس يسهل اقناعهم بأن الجميع يمارسون عملاً ما فينساقون إلى القيام
بمثلهِ، وينخرطون في سلوك معين عندما يجدون عدداً من الناس ينخرط
فيه.
5- المشجعون:
وهولاء لا يمكن أن تسوقها الجموع معها لكنها لا تعارض ما تقوم به هذه الجموع
فهم يفضلون البقاء متفرجين، يقومون بتشجيع على ما ترتكبه الجموع من
أفعال.
ونخلص إلى أيجاز عدد من الافكار التي توصلت اليها النظريات والبحوث الميدانية
في السلوك الجمعي.. مع التسليم بوجود جدل بخصوص بعضٍ منها:
* في السلوك الجمعي الغوغائي، تغيب العقلانية ويسود العقل الشعبي
واللاوعي الجمعي.
* قد يكون الانسان الفرد مثقفاً ومتحضراً، ولكنه وسط الجموع يمكن
أن يصبح بربرياً.
* إن سلوك الحشد ما هو إلا استجابة لا عقلانية لإغراءات الموقف
الذي تجد الجموع نفسها فيه.
* تتفشى الفوضى في الجموع في غياب النظام أو السلطة.
* في السلوك الغوغائي الجمعي يتراجع الوعي الشخصي بالذات ويتولى
اللاوعي الجمعي توجيه السلوك.
* حين لا يعير أعضاء الجماعة الانتباه إلى بعضهم البعض كأفراد فإن
ذلك يؤدي إلى غياب الشعور بالفردية.
* في سلوك الغوغاء الجمعي، يميل الفرد إلى توزيع المسؤولية الناجمة
عن العنف والعدوان على الجمع بكامله، ويعفي نفسه منها، أو يحملها
الجزء البسط من المشاركة.
كانت هذه فكرة موجزة عن السلوك الجمعي لعدد من النظريات والدراسات
الميدانية لأعمال شغب ونهب وعنف حدثت في مجتمعات أجنبية وكان
السؤال المحوري فيها الذي استفز فضول الباحثين هو:
- لماذا يقوم الناس بأفعال تخالف قيمهم ومعاييرهم الخاصة لدى
وجودهم في الجموع؟ غير أن ما حدث في العراق كانت له أسباب
وإيقاعات أخرى …
* بغــداد.. ينهبها أهلها! /
تحليل لسايكولوجية النهب و الفـرهـود
نشير بداية إلى أن بغداد تضم
أكثر من خمسة ملايين نسمة وأنها مدينة مترامية الأطراف.واللافت أن
الأحياء الشعبية الكبيرة تقع على محيط بغداد. فيما تتمركز الاحياء
التي توصف بالراقية في وسط المدينة،يجاورها أو قريب منها احياء
شعبية صغيرة.
وبوصفي شاهد عيان لما حدث، فإن الذي قدح زناد أعمال النهب والفرهود
وأشعل شرارتها افراد انطلقوا من الاحياء الشعبية (الكبيرة على
الأطراف والصغيرة في الوسط) غير أن هذا لا يعني أن جميع الفقراء
شاركوا بأعمال النهب والفرهود فالغالبية منهم لم تشارك،ولا يعني أن
جميع الأغنياء أو المتحضرين لم يشاركوا، فقد شوهد مثقفون وموظفون
محترمون من أحياء راقية قاموا باعمال النهب والفرهود، ولكن بمواقع
منتقاة… هذا يعني أن الظاهرة كانت عامة شملت جميع أو معظم الأحياء
السكنية في بغداد، غير أنها كانت متباينة من حيث حجمها وشدتها.
والسؤال: لماذا كانت ظاهرة النهب والسلب والفرهود في مدينة بغداد
بهذه الشمولية وهذا الحجم من الدمار والتخريب والعنف مقارنة
بالمحافظات الأخرى؟
والجواب،على ما نرى.. أن بغداد لم تتعرض بعد هزيمة جيش النظام في
غزوه الأحمق للكويت عام 1991، إلى أعمال النهب والفرهود التي تعرضت
لها معظم المحافظات لاسيما الجنوبية والوسطى.وأن هذه المحافظات
كانت أفرغت شحناتها الانفعالية فيما ظل الاحتقان النفسي في بغداد
يغلي بداخلها كقدر ضغط. فضلاً عن أنها (المحافظات) خبرت سلبيات هذه
الأعمال وما أحدثته من أضرار مادية واعتبارية.
سنحاول الآن تحليل أسباب ظاهرة النهب والسلب والفرهود التي حدثت
بعد أنهيار نظام الحكم في العراق في ا لتاسع من نيسان 2003، في
فئات من الأسباب:
أولاً: جيلان: ومنظومتان من القيم
نرى نحن المعنيين بتحليل شخصية الإنسان. أنه توجد في داخل كل انسان
منظومة من القيم هي التي تحرك وتوجه سلوك الإنسان. فكما أن
(الداينمو) هو الذي يحرك السيارة، فأن القيم - بتشبيه مبسط - هي
التي تحرك السلوك. فاختلاف سلوك رجل الدين مثلاً عن سلوك شخص منحرف
يعود إلى أن المنظومة القيمية المتشكلة في شخصية رجل الدين تختلف
عنها لدى الشخص المنحرف.
ونعني بالقيمة (Value) معياراً أساسياً (Basic Standard) تعمل
بوصفها موجهاً للسلوك. وتشكل القيم المركزية محور معظم معتقداتنا
واتجاهاتنا وسلوكنا نحو الأشخاص والأحداث والممتلكات، ونفرز في
ضوئها ما هو مرغوب فيه ومرغوب عنه وما هو صحيح وخاطئ.
ومع أختلاف وجهات النظر في تحديد مفهوم (الجيل) فإننا سنقول بوجود
جيلين في المجتمع العراقي لهما منظومتان قيميتان مختلفتان هما:
1- المولودون قبل عام 1970.
2- المولودون بعد عام 1970.
غير أننا سنفرز المولودين في الاعوام 1971،1972،1973 بوصفهم فئة
حدودية بين جيلين ونأخذ بالمولودين في عام 1974 وما بعده من هم
باعمار الثلاثين فما دون ليشكلوا جيلاً يقابل الجيل المولود في عام
1970 وما قبله ومرة أخرى نشير إلى أن تقسيمنا هذا قائم على أساس
معيار القيم فقط.
* الجيل الأول المولودون قبل
عام 1970:
1- الأسرة:
لا يرث الأنسان القيم عبر
(الجينات) أنما يكتسبها من مصادر اجتماعية في مقدمتها الأسرة،
المدرسة، الثقافة الفرعية (الحي السكني)، الأقران، وسائل الإعلام،
الجامع أو الكنيسة. كانت العائلة في المجتمع العراقي، كما هي في
المجتمع العربي آنذاك،نواة التنظيم الاجتماعي والاقتصادي. وكانت هي
المصدر الأول والأهم في زرع البذور للقيم في نفوس الأطفال، وهي
التي تبني الأسس الأخلاقية لشخصية الطفل وتضع اللبنات الأولى في
تحديد مسار سلوكه مستقبلاً.ولهذا كانت الأولوية للقيم العائلية
التي ركزت على الطاعة والامتثال كما تريده الأسرة التي كانت تؤكد
على التعاون والتضحية والالتزام والتماسك الداخلي والبساطة في
العيش والتعفف وتحمل المشاق والحشمة والتعقل. ولأن الأسرة كانت
ملتزمة بالدين فإنها كانت تعلم الناشئة معنى الحرام. وكان يطلق على
السارق في الريف العراقي (حرامي) ولا يعطى زوجة إلا من عائلة سارق
أخر أو من عائلة مفككه أو معدمة. وكانت الأسرة متمسكة بقيم العشيرة
وفي مقدمتها الشرف والكرم والشجاعة. وكان (الديوان) في الريف
العراقي (ونسبته آنذاك أكثر من 60%) يعد مدرسة يتعلم فيها
المراهقون والشباب القيم العربية الأصيلة.
واختصاراً نخلص إلى الآتي:
1- إن الأسرة العراقية في الستينات 1960 وما قبلها كان لها الدور
الأول والأهم في تشكيل المنظومات القيمية لدى أبناء ذلك الجيل
وناشئته..
2- شكلت الاسرة في لاوعي الإنسان من ذلك الجيل رمزاً أو صورة مصغرة
عن السلطة أو الدولة فأضفى عليها لاشعورياً مفاهيم الاحترام
والطاعة.
2- المدرسة:
تعد المدرسة المصدر الثاني في
تشكيل المنظومات القيمية لدى الناشئة.وكانت المدرسة في الستينيات
1960 وما قبلها غير مسيسة بالصيغة التي صارت عليها في الثمانينات
1980 وما بعدها.وكانت المناهج الدراسية غير موظفة لخدمة حزب معين
أو أيديولوجية محددة.وباختصار كانت المدرسة تقوم بتعزيز القيم
الإيجابية التي غرستها الأسرة في ناشئتها، وغرس قيم إيجابية جديدة
لا سيما في الأخلاق والسلوك المهذب.وكان المعلم يحظى بالاحترام من
تلامذته، وينظر إليه بمنظور القدوة والأنموذج، بل كنا -وأنا من
تلاميذ الخمسينات- نخاف من المعلم ونجله أيضاً. وكان الفلاحون
يحسدونه ليس فقط لأنه (أفندي) ومهذب وأنيق بل ولأنه يتمتع بمكانه
اقتصادية مرموقة بنظرهم. هذا يعني أن المدرسة بوصفها مؤسسة تربوية،
والمعلم بوصفه مربياً وأنموذجاً للتقليد،كان كلاهما يحظى بمكانه
اجتماعية واعتبارية محترمة وانهما شكلا مصدراً مؤثراً وفاعلاً في
بناء المنظومات القيمية الإيجابية والمعايير الاجتماعية والأخلاقية
لناشئة الستينات 1960 وما قبله، ينعكس بالضرورة على سلوكهم حين
يصبحون راشدين.
الجيل الثاني (المولودون عام 1974 وما بعدهم) :
1- الاسرة:
بدءاً من الثمانينات 1980، حيث
كان أبناء الجيل الثاني آنذاك بحدود السادسة من العمر، ضعف دور
الأسرة بوصفها المصدر الأول والاهم في تشكيل المنظومات القيمية
للناشئة بعد أن عمل النظام على اختراقها (الأسرة) بوسائلل متعددة
من بينها.. إقناع أو اغراء أو إجبار رب الأسرة على الانضمام إلى
حزب البعث العربي الاشتراكي الذي أنفرد بالسلطة.ونجم عن ذلك أن
صورة (الأب)، ومفهوم الأسرة بالتبعية المتشكلة في أذهان الناشئة،
تغيرت بالموازنة مع مثيلتها لدى ناشئة الجيل الأول. فقد ترتب على
الأب (البعثي) أن يتصرف مع أفراد أسرته في واحد أو أكثر من
الخيارات آلاتية:
أ- التوكيد على تعليمات الحزب ووجوب أن يطيع أفراد الأسرة كافة ما يأمر به
الحزب. وبهذا يكون الأب قد مارس سلطتين على أفراد أسرته فترسخ في
نفوس الناشئة عن الأب صورة (السلطة) التي يجسدها بوصفه بعثياً بزيه
العسكري وسلاحه على حساب صورة الأب الذي يتصف بالرعاية والتوجيه
التربوي. واختمرت هاتان الصورتان في لاوعي الناشئة فنجم عنها
موقفان نفسيان نحو الأب: التوحد بالسلطة وما تبيحه لنفسها من سيطرة
على الآخرين وتخويفهم وممارسة العنف والعدوان إن اقتضى الأمر أو
زيادة الكره نحو الأب. فالمعروف عن الأطفال الذكور بعمر ثلاث إلى
ست سنوات أنهم يضمرون كرهاً مكبوتاً نحو الأب بوصفه سلطة حتى إذا
كان هذا الأب عادياً، فكيف إذا أضاف الأب إلى سلطته الأبوية سلطة
أخرى مستمدة من سلطة الدولة.
ب - طلب الأب من أفراد أسرته مسايرة ما يأمر به الحزب حفاظاً على سلامته
وسلامتهم فنجم عن ذلك أن شكل أفراد هذه الأسرة والناشئة صورة عن
هذا الأب تتصف أما بالشفقة أو التمرد عليه، لأنه أوحى لهم بضعفه.
ومعروف علمياً أن الأسرة التي يكون فيها دور الأب ضعيفاً تتعرض في
الغالب إلى التفكك وأن التفكك يؤدي إلى التمرد.
ج - تكليف الأب (البعثي) أو أحــد أفراد أسرته من البعثيين.. بأن يكون عيناً
على أسرته، أي أن يقوم بمهمة (رجـل الأمن) عليها،فانعدمت الثقة
وساد الشك بين أفراد الأسرة الواحدة واستغلت الخلافات الأسرية
بإلصاق تهم عدم الولاء (للحزب والثورة) أو الإساءة إلى رمـوز
السلطة. وظهرت حالات غريبة على قيم المجتمع العراقي انتهت بفــرار
أو سجن أو إعدام أفراد كثيرين وشى بهم آباؤهم أو أخوتهم أو أزواجهم
أو زوجاتهم.
وإيجازا نخلص إلى استنتاجين:
1- أن دور الاسرة العراقية بوصفها المصدر الاول والاهم في تشكيل
المنظومات القيمية لدى ناشئة الجيل الثاني ضعف بالموازنة مع دورها
بالجيل الاول.
2- أن القيم التي أكدت عليها الاسرة في تشكل المنظومات القيمية لدى
ناشئة الجيل الثاني اختلفت جذرياً عن تك التي أكدت عليها الاسرة في
الجيل الأول.
ففي دراسة أجراها كاتب هذه الأوراق تبين أن القيم التي كانت تؤكد
عليها الأسرة في تربية ناشئتها في زمن الجيل الأول كانت: الترابط
الأسري، الشرف، الكرم، التكافل الاجتماعي، النظام، الاحترام، الصدق
…. وكلها تنتمي إلى صنف القيم الاجتماعية والأخلاقية، فيما كانت
القيم التي يجري التأكيد عليها في زمن الجيل الثاني:ا لتنافس،
الرغبة في الإثراء، الاعتماد على النفس، الأنانية، التقييم على
الأساس المادي … ومعظمها تنتمي إلى صنف القيم الاقتصادية الناجمة
من الحاجة إلى البقاء.
2- المدرسة:
بدءاً من منتصف السبعينات 1970
تم تسييس المدرسة وتوظيف مناهجها ونشاطاتها اللاصفية لخدمة أهـداف
حزب البعث العربي الاشتراكي واعتمدت ما اصطلح على تسميته (تبعيث
التعليم) أي أن يكون المعلمون والمدرسون والطلبة منتمين إلى حزب
البعث العربي الاشتراكي، أو إلى مؤسساته المهنية مثل نقابة
المعلمين والاتحاد الوطني لطلبة العراق.
وبدءاً من الثمانينات 1980 صار التؤكيد في المدارس على قيمتين:
* الولاء للحزب
* تمجيد الرئيس صدام حسين
ثم صارت الأولوية في التأكيد على تعظيم صدام حسين، وإضفاء ألقاب
خاصة عليه مثـل (هبة السماء للامة) أو (القائد الضرورة) … وانتهى
الأمر إلى مساواة صدام حسين بالعراق (صدام حسين هو العراق، والعراق
هو صدام حسين) فضاق مفهوم الوطن ليكون محدداً بشخص واحد ومدينة
واحدة (تكريت) عملت أجهزة اعلام النظام على أن يدخلها في اللاوعي
الجمعي للعراقيين على أنها أفضل مدينة في العراق.
وفي التسعينات 1990 تراجعت هيبة المدرسة وتدنت المكانة الاقتصادية
للمعلم. ففي دراسة لكاتب هذه الأوراق عن المكانة الاقتصادية للمهن
في المجتمع العراقي في زمن الحصار، تبين أن (الحمال) الذي كان في
الستينات 1960 في أسفل الهرم الاقتصادي للمجتمع تقدم على معلم
المدرسة الابتدائية في مكانته الاقتصادية. وأن مصلح (الراديو
والتلفزيون) تقدم في مكانته الاقتصادية على الأستاذ الجامعي الذي
كان في الستينات يتبوأ قمة الهرم الاقتصادي مع الطبيب والمهندس.
وانتهت هيبة المعلم أمام طلبته وفقد احترامه بينهم بعد أن شاع
تعاطي الرشاوى والهدايا من الطلبة إلى المعلمين، وبعد أن أضطر عدد
كبير من المعلمين إلى الاشتغال بأعمال متدنية مثل (سائق تكسي) أو
(بائع سجائر) على قارعة الطريق.
أستنتاج:
لعل أهم استنتاج نخلص اليه هو
أن المدرسة في الستينات 1960 وما قبلها كانت تغذي لدى الناشئة
الشعور بالانتماء إلى الوطن في ما عمدت المدرسة في السبعينات 1970
وما بعدها إلى تغليب تغذية الشعور لدى الناشئة بالانتماء إلى شخص
واحد ممثلاً برئيس النظام، جعلته مساوٍ للوطن والوجود وأنه بانهيار
هذا الشخص ينهار الشعور بالانتماء له، فراحوا ينهبون ما عدوه
يقيناً أو تبريراً بأنه ملكاً لهم، وكانوا في الواقع ينهبون الوطن
الذي كان انتماؤهم له ضعيفاً.
ثانياً: مؤشرات اقتصادية.. بين
خبز النخالة ولحم الغزلان
باستثناء سنوات السبعينات 1970
التي شهدت استثمار جزء كبير من موارد النفط وعاش فيها العراقيون في
بحبوحة اقتصادية، فإن العراقيين وبدءاً من الثمانينات 1980 أخذوا
يفقدون تدريجياً ما حصلوا عليه من مكاسب اقتصادية. فخلال الحرب
العراقية الإيرانية طلب النظام من العراقيين التبرع بالمال والذهب
وساءت الأحوال الاقتصادية للناس باستثناء المتنفذين في السلطة
والحزب وتجار الحروب. وبعد انتهاء حرب النظام على أيران في
8/8/1980، دخل في 2/8/1990 حرباً جديدة بغزوه الأحمق للكويت، وهذه
حالة نادرة في التاريخ أن تخرج دولة من حرب كارثية لتدخل في حرب
كارثية أخرى وأعتقد أنها لم تحصل. وجاء الحصار بسنواته الثلاث عشرة
العجاف فنجم عنه (وعن تراكم أثار حربين) أن انقسم المجتمع إلى
فئتين متمايزتين: فئة الجماهير المعدمة أو المعوزة اقتصاديا (التي
ابتلعت أو سحبت أليها الفئة الوسطى من الموظفين والمثقفين) عانت
الجوع والفقر والعوز القاسي، وفئة الأقلية المحدودة المرفهة
والمترفة اقتصاديا من المتنفذين في السلطة الذين زادهم الحصار غنى
وقوة أيضاً.
وكانت هذه واحدة من الغلطات الكبرى التي أرتكبها النظام بأن أعاد
توزيع الثروة ليس على أساس الكفاءة والحق الذي يكفله القانون، و
(المساواة) بوصفها أهم أهداف الدولة، إنما على أساس المحسوبية
والولاء للسلطة والتفاني في خدمة أهدافها وتنفيذ أساليبها، فخلق
فئتين متضادتين كماً ونوعاً في المعايير كافة تقريباً واحدة محسوبة
على السلطة والأخرى محسوبة على الشعب. وكانت الفجوة الاقتصادية
الحادة التي خلقها النظام بينهم والناس أهم الأسباب التي دفعت
بغالبيتهم إلى قطيعة غير معلنة واعتمال روح من النقمة ضد النظام.
ومع كل هذه الأغلاط الكبيرة مارس النظام (ازدواجية) الموقف
والسلوك. فهو يدعو إلى الاشتراكية فيما هو يعيش عملياً أعلى مراحل
الرأسمالية. وفي الوقت الذي كان فيه أساتذة الجامعات (وهم من نخب
المجتمع) يأكلون في زمن الحصار خبز النخالة المعجون بفضلات
الصراصير، كان المتنفذون في السلطة يأكلون لحم الغزلان.وكان أساتذة
الجامعات، مثلاً، أضطروا إلى بيع سياراتهم (وكثير منهم باع حتى
كتبه) فيما المتنفذون في النظام يملك الواحد منهم أفخر أنواع
السيارات وبعدد أفراد الأسرة. باختصار فإن النظام لم يشارك
انفعاليا وجدان الناس في معاناتهم آلام ومآسي أحداث كانت من صنعه
بل تركهم يتألمون في حالة ينطبق عليها مفهوم (السادية) التي تعني
الشعور باللذة والمتعة من خلال إيقاع الأذى والألم بالآخرين. ولقد
صعق العراقيون من هول الدهشة عندما دخلوا قصور وبيوت رموز
النظام.صحيح انهم كانوا يحملون تصوراً عنها غير أن الواقع كان أكبر
من هذا التصور. بل أن خيالهم ما كان ليستوعب ما فيها. وكان الحق
معهم فما وجدوه كان اكبر مما قرأوه أو سمعوه عن قصور الأباطرة
والقياصرة والملوك والسلاطين. باختصار كان شيئاً خرافياً وفي
لحظتها عملوا. وبخاصة الشباب مقارنات بين ما عليه أبناء المتنفذين
في السلطة من بذخ وترف واستمتاع بحياة خيالية، وما ارتكبوه من
مفاسد واغتصاب الأخلاق … وبين واقعهم المزري والمتواضع، وهجرة آلاف
من زملائهم الشباب بحثاً عن لقمة عيش يضطرهم أحياناً إلى ثني
رقابهم في حالة من الذل هي صعبة على العراقي المعروف (بالانفه).كان
هذا التباين الاقتصادي الحاد قد برر لعدد من الفقراء والجياع
والمحرومين ليس فقط نهب ما في قصور وبيوت النظام، بل ونهب ممتلكات
المؤسسات العامة التي رأوا فيها أنها أوجدها النظام لخدمته.
وكانت تبريرات النهب والفرهود تتعدد لدى هذا النوع من الأفراد من
بينها:
* ثروة هرب سارقوها وتركوها.
* حق عام لا توجد له سلطة تحميه أو توزعه.
* استرداد لحق مسلوب.
* عقوبة لنظام غير عادل وانتقام منه.
* اشفاء لغليل من حيث.
* حاجة أو عوز.
استنتاج:
ان انفراد المسؤولين الكبار في
النظام بالثروة المستحصلة من موارد الملكية العامة وخلقهم لحالة من
التباين مع العامة من الناس، فإنهم (العامة) يندفعون لحظة انهيار
النظام إلى نهب ممتلكات رموزه في سلوك جمعي يمتد ليشمل نهب ممتلكات
المؤسسات العامة للمجتمع التي لها صفة رسمية أو شبه رسمية بالنظام
المنهار.
ثـالثاً: مؤشرات سيكولوجية..
حرية التعبير والاحتقان النفسي
تتصف الأنظمة الشمولية التي
يحكمها حزب واحد بأن المواطن فيها يكون أشبه بحصان العربة، لا يرى
ولا يسمع إلا ما يريد له سائسه أن يرى ويسمع كما أنه يتحكم بحركته
فلا يسرع ولا يبطيء ولا يتوقف إلا بإيعاز صوتي أو إشاري من سائسه
أو يجره لجامه.وما عليه إلا الإذعان لأوامره تجنباً لضربة سوط
وحاجة إلى لقمة عيش. وإزاء هذا الضغط النفسي الحاد والقهر
والاستلاب الذي يعانيه الإنسان في الأنظمة الشموليه فإنه تحصل
دهشتان في لحظة الانفجار:
الأولى: دهشة النظام الشمولي المطمئن إلى أن بنيانه محكم وقائم على
كونكريت والواثق من أن كل الأمور حتى الصغيرة والدقيقة تحت سيطرته
وأن حساباته مضبوطة تماماً وإذا به ينهار في لحظة وكأن حساباته
كانت وهماً أو خداعاً وأن بنيانه كان على رمل.
والثانية: دهشة المواطن نفسه الذي يكاد لا يصدق ما حدث فينطلق في
لحظة الانفجار بصرخة انعتاق محملة بانفعالات عنيفة ومزيجة من الفرح
والبهجة والغضب والالم ومشاعر الاستيقاظ من كابوس مرعب.
ويشكل انهيار النظام في الاتحاد السوفيتي (الذي استمر لاكثر من
سبعين سنة) وانهيار النظام في العراق (الذي استمر لاكثر من ثلاثين
سنة) أنموذجين بهما اختتم القرن العشرون وافتتح القرن الواحد
والعشرين أهم حدثين عن أقوي نظامين شموليين في العالم.
* الترويض الفكري..
معروف أن حزب البعث
العربي الاشتراكي في العراق ما كانت له قبل السبعينات 1970 قاعدة
جماهيرية بفعل ما قام به من أعمال عنف وسجن واغتيال وإعدام بعد
استلامه السلطة في شباط 1963 بدعم من أمريكا لسحق الشيوعيين
وإبادتهم. وعندما عاد إلى استلامها في تموز 1968 كان عدد أعضاء هذا
الحزب معدوداً لا يتجاوز مائة فرد. وبدءاً من منتصف السبعينات 1975
أخذ الحزب يعتمد أساليب الضغط والإجبار والتهديد لانضمام الناس
إليه لاسيما في أوساط الموظفين الذين يعتمدون اقتصادياً على رواتب
يتقاضونها من مؤسسات الدولة التي صارت تحت سيطرة الحزب. وكان أغلب
الذين انتموا للحزب لم يكن انتماؤهم نابعاً عن فهم لفلسفة الحزب
وقناعة بها وإيمان بأهدافه وانما كان طمعاً بوظيفة أو منصب أو سلطة
أو جاه أو بعثه دراسية أو أي إغراء آخر أو انتماء شكلي بحجه أنه
ينفع ولا يضر. ونظراً لأن هذه الأساليب لم تحقق طموحات الحزب في
انتماء أكبر عدد من الناس إليه (وكان يحرص على الانتماء الكمي وليس
النوعي) فإنه انتقل إلى اعتماد أساليب الضغط والإجبار والتهديد.
ولقد عمل النظام على مدى أكثر من ربع قرن على ترويض المواطن
العراقي نفسياً وفكرياً وسلوكياً، ليس فقط على تقبله للنظام بل
وتوليد القناعة لديه بأنه (النظام) قدره الأبدي الذي يجب أن يسلم
له ويفخر به.
ولسايكولوجية الشك المفرط المصابة بها الأنظمة الشمولية للحزب
الواحد الحاكم فإن النظام منع المواطن العراقي من حرية التعبير عن
الرأي، بل وصادر رأيه لصالح ما أسماه (القيادة الحكيمة) التي مارست
عليه اضطهاداً إضافياً بقرارات مصيرية باسمه.
ومنع النظام عن المواطن العراقي كل وسائل الإعلام الخارجية الحرة،
مبرراً بأنها معاديه أو رأسمالية أو مضرة … ورتب على ذلك عقوبات،
أشهرها سجن الذي يضع صحناً (دش لالتقاط القنوات الفضائية) ستة أشهر
ومصادرة الجهاز. وأجبره على أن يقرأ ويسمع ويشاهد، صحف وإذاعة
وتلفزيون مؤسسات النظام، التي أوصلت المواطن إلى حالة من التقيؤ
النفسي للاجترار الفكري. وكانت العقوبات تزداد وتتنوع أفانينها مع
كل أزمة يدخل فيها النظام الذي وضع نفسه في سلسلة من الأزمات
المستعصية، فوصلت إلى بتر اللسان وقطع العنق … وصار المواطن يخشى
أن يقول، مثلاً أمام عائلته، بأن دخولنا الكويت كان خطأ. لأنه كان
سمع بأن ضابطاً أعدم لأنه قال ذلك في جلسة سهر مع أصدقائه. ولأن
النظام أوحى للعراقيين بأن أجهزته وعيونه مزروعة حتى في داخل
الأسرة.
* لسان واحد.. وفكرة واحدة
يتصف الرئيس العراقي السابق
(صدام حسين) بأنه شخصية مؤثرة إعلاميا. فهو متدفق في الكلام، وان
كان معظم مضمون كلامه يتوزع بين بعدين في الزمن: الماضي، بالتغني
بأمجاد الأمة العربية وبالبعد الحضاري للعراق، والمستقبل، بوعود عن
تحقيق أهداف خيالية أو مثالية (تحرير فلسطين من البحر إلى
النهر،مثلا).
ومعروف لدينا، نحن النفسانيين، أن الشخصية التسلطية المؤثرة تمتلك القدرة على
الكلام والقابلية على الإقناع، وأنها تجمع حولها عناصر منتقاة
بأوصاف محددة ومتنوعة، تتدرب تدريجياً على مهمة واحدة هي: تعظيم
الواقع واستشراف المستقبل. ويصل الأمر بهم إلى أنهم إذا وجدوا في
فكرة ما تقولها هذه الشخصية ما يدعوهم إلى الاستيضاح عنها، أو أنها
تبدو لهم خاطئة، فأنهم بدل أن يستوضحوا أو يناقشوا، يعزون الأمر
إلى أن السبب يكمن في نقص فيهم بأنهم أقل وعياً واستيعاباً وفهماً
للأمور من قائدهم، الذين أوحوا للناس بأنهم منحوه هالة قدسية
واعتمد المحيطون به أسلوباً فيه شحنة نفسية مستمدة من الدين
والتراث لها فعل مؤثر في اللاوعي الجمعي للناس، بأنهم يستهلون
كلامهم، أو يكررون خلاله عبارة: (يقول الرئيس القائد حفظه الله
ورعاه) التي هي على نفس الإيقاع النفسي لعبارتين كريمتين عند
المسلمين هما: (يقول الله سبحانه وتعالى) و (يقول النبي عليه أفضل
الصلاة والسلام).
وكان الرئيس صدام حسين والمحيطون به أفضل نموذج لهذه الحالة في
العصر الحديث في فرض اللسان الواحد والفكرة الواحدة على أكثر من
عشرين مليون انسان. وهذا يتعارض مع سيكولوجية الإنسان في العراق.
فالعراقي، من عهد جلجامش الذي تحدى الآلهة، كان محباً للمعرفة،
باحثاً عنها، مجادلاً فيها، مطوراً لها. فهو سليل حضارات متنوعة،
ومدارس فكرية وفقهية متعددة. وكان يتعارك، بالرأي، ليس فقط في
الفلسفة والسياسة والفقه … بل حتى في الشعر أيضاً. وأذا به
(العراقي) يجد نفسه في نظام يخشى حتى من أغنية عاطفية يرى فيها
أنها تحمل معنىً رمزياً قد يعنيه، فيمنع بثها في وسائل أعلامه.
وهكذا وجد العراقي نفسه محجورا على بصره وسمعه ولسانه وعقله في
مجال الفكر والرأي، فتضخم لديه الاحتقان النفسي الذي لاعلاج له إلا
بطريقتين: أما التنفيس عنه، وهذا مالم يحصل، أو الانفجار، وهو الذي
حدث.
الاستنتاج:
في ضوء المؤشر النفسي الموجز، نستنتج الآتي أيضا:
1- تستطيع الأنظمة الشمولية التي يحكمها حزب واحد أن تمارس على
مواطنيها تقييد حرية التعبير، واعتماد أسلوب الترويض الفكري
والقناة المعلوماتية الواحدة، مصحوبة بالترغيب والتهديد المادي
والنفسي. غير أن هذه الأساليب لا تشكل ضمانة لديمومته، لأنه ينجم
عنها احتقان نفسي، مالم يتم التنفيس عنه فإنه ينتهي بالانفجار على
النظام.
2- إن خروج الناس إلى الشوارع والساحات لممارسة حرية التعبير
والبوح بما هو مكبوت، ينجم عنه أمران:
أ- تكوين جموع تخضع بالضرورة إلى (قوانين) السلوك الجمعي في مزاج
الانفعال المنفلت.
ب- استغلال الأفراد غير المنضبطين أخلاقياً واجتماعياً لانفعال
نقمة الجمع (الحشد) ضد النظام بالتوجه نحو نهب ممتلكات المؤسسات
العامة بوصفها تعود في تقديرهم للنظام وليس للدولة أو المجتمع.