بين الحماسة التي أبداها الشيعة
حول الانتخابات التي أجريت في العراق، والارتباك الذي ساد أوساط
السنة، تتجلى خلفية تناقض سياسي وتنافس اجتماعي يخفي أزمة صراع
حاد، يكمن هذا الصراع خلف الصورة العراقية التي أراد النظام السابق
باستغلاله لها أن يسوّق زيف تصوراته المنبثقة عن عقيدته القومية،
من أجل صرف الأنظار عن حقيقة ما يجري في العراق من صراع طبقي
ارتهنت بمصيره قوى اقتصادية نشأت في مسخ من رأسمالية أضيفت إلى
سلبيات رأسمالية الدولة في العالم الثالث، الذي لم يتجاوز مرحلته..
رأسمالية فردية افتقرت إلى منطقية تاريخية في النشأة، وبانحراف
ظاهر في أداء وظائف المال وفق قانون التطور ومفهوم التحضر، أدى إلى
استحكام الاستبداد في هوية الدولة وإدارة الاقتصاد معا وأنتجت خرقا
واضحا في لحمة النسيج المجتمعي في العراق، بإفراز أغلبية حرمت من
ثروات الأرض وخيرات العراق وعاشت تحت مستوى خط الفقر في شمال وجنوب
العراق، وإذا كان الفقر يعرف بوصفه (عدم القدرة على الموائمة بين
الدخل والإنفاق).
(1) وهو يفترض
وجود دخل طبيعي وإن أتصف بالقصور، وقد عجزت نسبة كبيرة من
العراقيين عن تأمينه فاتخذت من أكوام القمامة حول المدن مصدر دخل
يسهم في تأمين إنفاق دون مستوى التواضع، وهذا يقود إلى تعريف
(الفقر المطلق يقاس بالدخل)
(2) الذي يكاد أن
ينعدم في دولة عملت على زعزعة علاقة المواطن بهيكلية النظام ومن ثم
بمفهوم الدولة ذاته، الذي رآه طرفا لم يتم التعاقد معه بقنوات
شرعية تمنحه دستورية الإدارة وتهبه صلاحية الحكم، لأنه لم يصدر عن
إرادته السياسية وخياراته التاريخية في عقود مضت على فترة التأسيس
منذ عام 1933م سنة دخول العراق إلى عصبة الأمم المتحدة ونيله
الاستقلال، إذ تم بناء جهاز دولة وفق إرادة المحتل البريطاني
وانسجمت مع مصلحة سياسية ضيقة في عراق الأمس، ورسمت مسار سياسة هذه
الدولة في العقود اللاحقة بعد أن أغلقت صناديق الاقتراع أمام إرادة
الشعب وآراء قياداته السياسية الفاعلة آنذاك بتزوير العملية
الانتخابية، وقد صرح الملك فيصل الأول بمرارة هذه الحقيقة في
برنامجه لإدارة العراق حول أغلبية تشعر بالاضطهاد وأن عليها دفع
الضرائب فحسب ولغيرها المناصب بالحصر، لأنها نجمت عن إقصاء هذه
الأغلبية بإقصاء العملية الانتخابية في تحقيق وإقامة دولة دستورية
بانتخابات صورية فقدت نزاهة التعبير وحرية الرأي.
وفي عهد جمهوري كان بمثابة حلم استيقظت عليه جياع الشعب بعد أن
عجزت عن حراسته آلهة الطعام،
(3) وتطلعت فيه
جموع الأغلبية إلى عصر من الدستورية حملته مصطلحات مثل الجمهورية
والثورة والتحرر من نير الاستعمار، وقد قضي على هذا العصر قبل أن
يولد بسبب عقم الرحم الذي أنجبه، لأنه رحم آخر غير صندوق الاقتراع
الذي تم تضييعه في مجاهل التغييب أبان تكوين هذه الدولة، وتمزق
الحجب عن هشاشة هذه المؤسسة التي اختزلت بقول فرد إذا قال قالت
الدولة بلا فاصل. وباستفهام حائر؟ امتلكت الأغلبية المضطهدة في
تاريخ العراق السياسي حق الإجابة عليه وبامتياز لا تنتهي المزايدة
عليه من خارج حدوده، هذه الأغلبية التي استوعبت كل حدود المكان في
العراق وقد عرفت بعد تجارب مريرة كادت أن تستنزف كل مقومات وجود
العراق.. إن شقَّ الجهة العليا من صندوق الاقتراع ينشق عن فجر دولة
امتثلت شروط التعاقد وتوفرت على امتياز صحة العقد، وتكون بهذا أسست
ضمانة انتماء هذه الدولة لإرادة الناخب ورهنت سياسة الدولة بمصلحة
هذه الأمة، وبذلك أخضعت مصدرية التأسيس إلى شرعية اجتماعية قبل أن
تكون سياسية في تواصل حيوي بين المجتمع المعني بالقضية وهذه
المؤسسة ذات الاستجابة الكاملة لمسيرة الحراك الاجتماعي، في أعقاب
تطورات الأوضاع السياسية في العراق.. وعلى مدى أكثر من ثمانية عقود
في تاريخ العراق الحديث والمعاصر غذيت بحوادث السياسة ورهان الواقع
موقف الحماسة عند الفئات المضطهدة في العراق، وليس الشيعة حسب،
مزايدات امتهنت حملة تغييب الإجماع العراقي.
في موقفه الرافض للاحتلال، والمطالب بسلطة شرعية تمر عبر صناديق
الاقتراع المغلقة بوجه منطق الاستقواء باستحقاق تاريخي مزعوم عفا
الدهر عنه، وانجرحت عنه رؤية تستبعد إرادة الجماهير في فرض مطالب
وطنية لأنها تتحرك على أساس مسلَّمة عدم إمكانية رحيل المحتل وفق
حالة الإحباط التي تسيطر على الحس السياسي العربي، هذا السياسي
الذي هو بطبيعته رسمي لا يعبر عن مصالح الشعوب ويدخل في إطار جملة
التغييب.
الاستشهاد بمواقف حركات سياسية منفصلة عن أجواء العراق السياسية،
وذات سجل يختص بواقع له خصوصية لا تمثل واقع العراق منها إلا مسمى
الاحتلال، وبخلاف جوهرية المشكلة العراقية ذات التعددية في التأزم
التي تتخطى مشكلة الاحتلال.
إن من أهم ما يطمح إليه الأكراد نظام الفدرالية، وأهم ما يصبو إليه
الشيعة وكل العراقيين في حماسة الانتخاب، هو تأمين حصانة دستورية
ومنعة سياسية أمام محاولات تهميش الإنسان العراقي بلا اعتبار
لكرامته الإلهية، في مخطط عنصري استهدف عراقية الكردي وعروبية
الشيعي، وروجت له أقلام لم تحسن قراءة المجتمع العراقي في تاريخه
الاجتماعي فحصرت أرض العراق بالعربية وحصرت العروبة بالسنة
(4)
وأقصيت الشيعة عن أصول العرب، وقد انقسمت عشائر العراق ذاتها في
الوسط والجنوب إلى سنة وشيعة، وهي تتفرع عن مشجر واحد في لغة
الأنساب ومشجرات النسب. ولكن الغالب عليها هو التشيع مثلما هو حال
قبائل زبيد وشمر والعزة وتميم وطي والجبور والجنابي، وتطول القائمة
بكل أسماء عشائر العراق.. وقد أكدت دراسات تاريخية وعلمية انتهجت
موضوعية البحث وأبعدت مصلحة الأنا السياسي عن مدار البحث، مثل
دراسات حنا بطاطو في كتابه عن العراق، النقاش في شيعة العراق،
والوردي في لمحاته، ومن قبل أهم وثيقة تاريخية في هذا الموضوع
وأسندت إليه الدراسات المتقدمة هو كتاب (مطالع السعود) لمؤلفه
عثمان بن سند البصري، في نسخته المصرية التي صدرت بتحقيق أمين
الحلواني سنة (1951-1952) وقد حذفت أقلام الثقافة السلطوية في عصر
الاستبداد معلومات في هذا الشأن العراقي، إذ ظهرت ذات المخطوطة
وبتحقيق بعض من أساتذة التأريخ في العراق سنة 1991، ولكن تم حذف
السطور المتعلقة بأصول العشائر العربية التي تشعبت في القرن الثامن
عشر والقرن التاسع عشر الميلادي في العراق، وهذا يعكس إرادة سياسية
مسبقة انتهجت أسلوب المسخ للذات العراقية، التي دأبت عليها أقلام
الحماسة القوموية وهي تشهد على حالة نكوص، تمر به الجماعة العربية
في الانتقام من الذات التي لازمت الهزيمة في عصر التحدي الكبير
الذي نعيشه بثقل احتزازات النفس الأمارة بالانقسام في معارض ارتباك
دعاوى الوحدة والانتصار.