الظواهر والمميزات
لقد أدت التطورات الاقتصادية السريعة والمتلاحقة التي يشهدها
عالمنا المعاصر إلى ولادة نظام اقتصادي جديد أكثر تعقيدا، وبروز
منظومة من العلاقات والمصالح الاقتصادية المتشابكة تستلزم ترتيب
الأولويات والآيديولوجيات الاقتصادية للدول إزاء التحولات الكبيرة
ولا سيما في مجالات تطورات الإنتاج وتوزيع الثروات.
حتى أضحى 20% من دول العالم تستحوذ على:
* 85% من النتاج العالمي الإجمالي
* 84% من التجارة الدولية
* 85% من مجموع الادخارات
الأمر الذي يستلزم التوجه نحو تقاسم أفضل للفرص الدولية من أجل
تحقيق النمو ضمن نطاق هذا الخضمّ من الثروات وحالات عدم التكافؤ
حيث أن هناك (80) بلدا ما زالت فيها حصة الفرد من الدخل أقل مما
كانت عليه قبل أكثر من عقدين من الزمن، وذلك نتيجة الاحتكارات في
الأنشطة التجارية والصناعية والمعلوماتية والإعلامية، ذات القدرة
المفزعة التي تحركها آلية سوق المنافسة وما تحمله من تحركات في
الأسعار في ميادين الإنتاج السلعي والخدمي وما يتبعها من ارتباطات
بنمط الإنتاج وشروط تقسيم العمل الدولي وتوزيع الموارد وتخصيصاتها
إلى جانب التطور الهائل في الإدارة وشؤون المبيعات والإعلان
والدعاية، الأمر الذي فسح المجال للقوى الكبرى والشركات العملاقة،
التي لا ترتبط حتى بما يعرف بدولة المقر، من الهيمنة على اقتصاديات
العالم، سواء أكان ذلك من خلال أنشطتها الذاتية الواسعة أو عن طريق
المنظمات العالمية، مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة
التجارة العالمية ونادي باريس، كل هذه الأمور وما رافقها من
التداخل بين الثقافات والأفراد والمجموعات الاجتماعية والشعوب
والإعلام والاتصالات، وعدم التقيد بنطاق الوطنية، جعلت مفاهيم
القرن الماضي المتمثلة بنظرية كينز الاشتراكية الشيوعية والعالم
الثالث، غير ملائمة لمسيرة الوضع الراهن، في حين برزت مفاهيم
ومفردات جديدة تعبر عن مقومات آيديولوجية مختلفة تماما عنوانها
الرفاه، الحرية، آلية السوق، وإحلال الميزة التنافسية (الحديثة)
محل الميزة النسبية (التي كانت سائدة لأكثر من قرن من الزمن) حتى
أصبحت الميزة التنافسية هذه خاضعة لقواعد محددة من قبل مؤسسات
دولية مثل (ISO) منظمة الملكية الغربية (WIPO) ومنظمة التجارة
الدولية، ومن هنا لم يعد النمو الاقتصادي محصورا بعمليات توسع أو
استبدال موقع سوقي في اقتصاديات متقدمة مشيعة، ولكن بإدخال
تكنولوجيات حديثة (وخدمات علمية) تخلق أسواقا جديدة من خلال نشاطات
تتسم بكفاءة أعلى للمنتوجات الخاضعة للتسويق حتى أصبح مقياس التقدم
لأي بلد هو تحقيق أمرين:
الأول: مدى الاعتماد على المعرفة التي تتميز بها المرحلة الحالية
من ازدهار العلم والمعرفة والتقنية الحديثة، في مبادئ الكمبيوتر
والاتصالات ونظم المعلومات وما رافقها من تسارع لوتيرة التطور.
الثاني: زيادة حصة الصناعة والتأكيد على دورها في الناتج المحلي
الإجمالي وتصاعد اتجاهات حركة رؤوس الأموال والشركات عبر الوطنية
كتوجه جديد للتنظيم الاقتصادي والاجتماعي. في ظل استمرار نظم الحكم
السلطوي وسياسات اقتصادية على تكريس أجهزة الدولة لإدارة برامج
الخصخصة والتكييف الهيكلي التي يفرضها صندوق النقد الدولي والبنك
الدولي ومتطلبات تحرير الأسواق على الصعيد العالمي التي تتطلب
بدورها ضرورة اكتساب المؤهلات والمهارات بحدود تعلم علوم الحاسبات
ونظم المعلومات وتنظيم وتصميم البرامج والعمل في شبكة الانترنيت
وإجادة اللغات الغربية فحسب، بل لابد من تكييف الاتجاهات والقناعات
وأنماط التفكير على وفق طرق التفكير التي تفرضها ظروف اللحاق
بالحركة العالمية.
العولمة والخروج من المأزق
برزت ظاهرة العولمة كعنوان بارز وفكرة شائعة على مختلف الأصعدة،
حتى أصبحت شعارا يتغنى به المنظرون للانعتاق من محددات النظرية
الاقتصادية، وحتى السياسية من خلال منظور جديد للاقتصاد العالمي
هذا إلى جانب ظواهر أخرى أدت إلى شيوعها وظهورها على مسرح
المصطلحات السياسية والاقتصادية نذكر منها:
* انهيار نظام (Briton Woods) بريتودز والتوجه نحو محاولات جديدة
في مجال السياسة النقدية والمالية منها اليورو دولار والدولار
النفطي، وأنظمة التسديد كالثعبان وحقوق السحب الخاصة، وسلة
العملات.. الخ.
* انتعاش التعامل ما بين المؤسسات المالية وكبار الصناعيين،
والتعويض عن الخسائر والضغوط التضخمية والبحث عن منافذ الاستثمارات
والأسواق، التجارة الخارجية.
* تدويل أسواق المال، وإلغاء ضوابط تبادل العملات.
* نمو البطالة الطويلة الأمد.
* تعاظم قوى دولية جديدة، اليابان- الصين - ألمانيا.
* نمو الشركات متعددة الجنسية.
* فقدان الأوبك زمام المبادرة واضمحلال القوة التفاوضية في ميدان
النفط.
* انهيار كتلة الدول الاشتراكية وقيام التكتلات الإقليمية.
مما خلق حالة من عدم التوازن حتى أصبحت العولمة حقيقة واضحة، إزاء
هذا الوضع المعقد، وعلى اعتبار العولمة أحد الظواهر الحضارية في
المرحلة الراهنة، لابد من اتخاذ موقف محدد من ذلك ليتسنى وضع
السياسات الكفيلة لتجنب سلبياتها والاستفادة من إيجابياتها
المتمثلة في الانفتاح على الشعوب وتبادل الخبرات، والتكامل
الاقتصادي والمتابعة الفكرية والثقافية، وباعتماد مبدأ كون العولمة
هدف إنساني مثله كمثل الظاهرة السياسية والاقتصادية والاجتماعية
التي مرت بها البشرية (حيث تتحمل درجة معينة من السلبيات
والإيجابيات) ولا طريق إلا بالدخول فيها والانتماء إليها، طالما
أننا نتناول الجوانب التي تعمل على تقييم الخدمات وتهدف للارتقاء
بالمستويات الإنسانية للمجتمعات وتحقيق الرفاه بكافة أوجهه، فلابد
إذن من الدخول في حوار لوضع أسس التكيف ضمن تلك الأوضاع، وعن طريق
التفاهم والتقارب، حيث أن الإنسان هو واحد وله نفس الاحتياجات
والعواطف والمشاعر مهما كانت الاختلافات والصراعات ما بين التيارات
والمذاهب، ولا شك فإن توجهات العقيدة الإسلامية تعتبر القاعدة
الأساس لبلورة مثل هذا السلوك على اعتباره الآيديولوجيا الوحيدة
القادرة على استيعاب وتذويب المتناقضات بما في ذلك الفوارق ما بين
البشر، على اختلاف أصولهم ومعتقداتهم كما تشهد بذلك الأحداث عبر
التاريخ، حين تعايشت الدول الإسلامية والفكر الإسلامي، مع مختلف
الأمم على سطح الكرة الأرضية حيث يعتبر العلاج الوحيد للخروج من
المأزق، باعتماد الفكر الإسلامي الموجه، لما يتمتع به من مرونه
وقابلية على احتواء الأفكار والطروحات وتذويبها ضمن المعتقد
الإسلامي الحنيف.
الحلول والسياسات
إذا كان الإسلام هو المنقذ الوحيد من الظواهر السلبية للتطورات
الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي يشهدها العالم التي جاءت
بمنظورها الجديد وبما يطلق عليه بالعولمة، وذلك من خلال وضع
المناهج والسياسات المبنية على الفكر الإسلامي الموجه من أجل
المعايشة والتكيف انطلاقا من كون الإسلام والعقيدة الإسلامية صالحة
لكل زمان ومكان، فلابد لنا من وضع السياسات والتوجهات في سبيل
تمهيد الطريق لهذا المنحى، والمتمثلة بما يأتي:
1- وضع ستراتيجيات فعالة لتحسين إدارة الاحتياجات والمصلحة الوطنية
في عالم اليوم المتعولم، وهذا يتطلب دون شك حكما وطنيا ديمقراطيا
دستوريا لمجابهة هذا التيار والاستفادة من إيجابياته قدر الإمكان.
2- الاستفادة من الفرص العالمية في مجالات التجارة والتمويل وتشغيل
العاملين عن طريق تطبيق صيغ جديدة في مجالات الاستثمار والإنتاج
والتشغيل والتبادل منها:
أ- إقامة أسواق إقليمية عربية وإسلامية (سوق مالي للأوراق المالية
البورصة).
ب- تشجيع نظام المناطق الحرة والعمل على تطويرها.
ج- ترويج أو إعادة توطين رؤوس الأموال الأجنبية، وبما يخدم مصلحة
الاقتصاد الوطني.
3- اشتراط اعتماد عملة احتياط عالمية للنظام النقدي الدولي تكون
الواسطة الوحيدة لتنظيم المدفوعات وتثبيت أسعار الصرف على أنه لا
يكون لتلك العملة أية علاقة مع العملات الأخرى.
4- إقامة أو وضع رابطة متكافئة بين أسعار صادرات البلدان النامية
وأسعار استيراداتها من البلدان الصناعية الكبرى للسلع المصنعة
والتكنولوجيا والغذاء.
5- العمل على الحصول على معاملة تفضيلية دون المقابلة بالمثل،
وبشكل مستمر ودائم ولكافة السلع الزراعية والصناعية.
6- الحصول على التكنولوجيا المتطورة دون قيود، لفتح إمكانيات للحاق
بمستوى التصنيع في الدول المتقدمة والى الحدود الممكنة (كأن تقول
25% كما جاءت بها المؤتمرات الدولية- مؤتمر ليما - البيرو).
7- تنظيم ومراقبة فعاليات الشركات عبر الوطنية وتأمين كافة
التدفقات النقدية لهذه الشركات.
8- اعتماد قواعد ذات طابع دولي لمعالجة أزمة الديون والتحقيق من
حدة خدمة الديون (أي الأقساط الزائدة).
9- تعزيز دور التجارة وتحريرها وتقديم حوافز للإنتاج الموجه إلى
التصدير، وخاصة إذا ما توفرت إدارة رشيدة للاقتصاد الكلي وبيئة
جيدة وخدمات اجتماعية وحكم قوي ذو إطار مؤسسي.
10- رسم خطة للنمو تتضمن إصلاحات اقتصادية وخاصة ما يتعلق منها
بإعادة توزيع الدخل وخلق فرص العمل والأسعار، مثل التركيز على
الجانبين الزراعي والصناعي، وخاصة في المناطق الريفية- الصناعات
الغذائية.
11- إعادة هيكلية المؤسسات المصرفية والمالية وكافة المؤسسات
الموجهة للسوق.
إن هذه الخطوات تتطلب تهيئة فكر إستراتيجي يعزز من دور الرؤية
الإسلامية وتوجيهاتها وإنشاء آلية منسقة للتعامل مع العولمة، كأن
تكون على شكل فريق عمل أو لجنة أو هيئة أو مؤسسة.. الخ، تشترك فيها
الوزارات وتمنح ظهورا ونفوذا ومرونة فضلا عن الخبرة والفهم
والمعرفة، للتكيف ومعالجة تعقيدات العولمة مع الأخذ بنظر الاعتبار
ما يلي:
أولا: الإقلاع عن سياسات الحماية التقليدية التي غالبا ما تتخذ
شكلا دفاعيا عن القيام بحماية الأسواق الوطنية من الاستيلاء، في
حين أن السياسة الهجومية تعتبر المنشط في سبيل الحصول على نصيب
أكبر ومتزايد من الأسواق، وفرص الاستثمار والتكنولوجيا، التي تتحرك
في المحيط العالمي (الكوكبي) عن طريق تعزيز القدرة التنافسية
النوعية والسعرية وخاصة في مجال الصناعات التحويلية.
ثانيا: تشكل رؤوس الأموال الأجنبية المحور الأساسي في الاقتصاد
العالمي، الأمر الذي يتطلب اجتذابها شريطة أن تتمتع بمحتوى
تكنولوجي مفيد وفرص عمل كبيرة وضمان التعلم عن طريق المشاركة في
ملكية وإدارة المشروعات، بضمان تحقيق الفقرات التكنولوجية ولا سيما
تلك المتعلقة بآليات النقل الحقيقي للتكنولوجيا.
ثالثا: وضع ستراتيجيات نمو وتطور للتنمية البشرية لتحقيق مستويات
للتعليم والصحة وتدريب وتنظيم قوة العمل ورفع مهارتها، وذلك عن
طريق تحفيز أنشطة البحث والتطور التكنولوجي.
رابعا: التوجه نحو إقامة تكتلات تجارية واقتصادية إقليمية وبيئية،
عربية وإسلامية حيث لا يمكن تطبيق ستراتيجية لحفظ المصالح
الاقتصادية دون القيام بذلك.
إن كل ذلك يقتضي الاستفادة من الفرص العالمية للتجارة وتدفقات رؤوس
الأموال والهجرة، وحماية الناس من أوجه الشك وأوجه الضعف التي
تنطوي عليها العولمة فلابد من التكيف ضمن نطاق الحركة العالمية
وتعزيز قدرة بلادنا على الصعيد العالمي من أجل النهوض والتقدم.
_____________________________________________________________________