ردك على هذا الموضوع

بنية الإعلام العراقي

ناظم عودة

 

المرجعية الغربية

الأحداث الساخنة في الشرق الأوسط، وعلى وجه الخصوص في العراق وفلسطين، باتت تستحوذ على اهتمام طبقات واسعة من الناس في البلدان العربية جميعاً، وصار (الخبر) محور المناقشات الساخنة في البيت، والباص والتاكسي، ومكان العمل، وكذلك عندما تلامس كتفَك أكتافٌ أخرى تتجادل في الشارع حول مدى مصداقية (خبر) معين، والجهة الإعلامية الأكثر لباقة في حبك خبر واحد، أو باقة من الأخبار الطازجة.

طبعاً، الناس يستندون تارة إلى مزاجهم، وتارة إلى نيات مسبقة، أو إلى موقف سياسيّ قبلي. بيد أنّ الشيء المهم، هو أنّ الاختلاف راجع إلى (مرجعية شخصية) مرةً، وإلى (مرجعية عقلانية) تفتش عن المهنية في طرح الخبر مرة أخرى. ويفصح لنا هذا، عن انشغال الناس بمسألة المرجعية، وموقعها في نقل الخبر، وتداوله، ومن ثم الحصول على نسبة من المصداقية. ونظراً لأهمية هذا الانشغال، فإنّ الوكالات والمؤسسات الإعلامية، أخذت تعمل بجدّ على تطوير وسائل نقل الخبر، وأنفقت أموالاً طائلة، لكي يبدو في موضع مقبول لدى عامة الناس. حتى أنّ بعض هذه الوكالات والمؤسسات، صارت تعمد إلى بعض وسائل السينما، وبعض الخدع المعينة، لتحقيق نجاح تصبو إليه جميعاً، وهو حيازة أكبر قدر ممكن من الناس القائلين: إنه الخبر اليقين.

قبل التسعينات، كانت تلك (اليقينية) لا تفلت من قبضة (الإعلام الكولنيالي) الانكليزي والأمريكي على وجه الخصوص، ويشير إدوارد سعيد إلى أنّ (عبارات من مثل: قالت لندن هذا الصباح، هي لازمات مألوفة في الشرق الأوسط، تستخدم دائماً بافتراض أنّ لندن تقول الحقيقة). وهذه الفكرة، لازالت تحظى عندنا في العراق بمزيد من القبول، لأنّ هذا الشعب الذي أجبر على قبول الرأي الواحد، يتفاعل كثيراً مع (الاختلاف) في الرأي الذي تحرص إذاعة الـ BBC على أنْ تقدّمه لمستمعيها. ولكن بعد التسعينات، أخذت المركزية الأسطورية لهذه الإذاعة، تتقوّض شيئاً فشيئاً لصالح الثورة الجديدة في الإعلام، التي تمثّلت بظهور عدد لا يحصى من الإذاعات، والفضائيات، وشبكات الأخبار والمعلومات في الانترنت. ولأول مرة يفلت من مركزية هذه الإذاعة العتيدة، سبق صحفي في نقل أخبار حزّ رؤوس المختطَفين على أيدى متطرفين إسلاميين، فقد صار لهذه الجماعات شبكاتها الخاصة، أو الموالية لها، التي تنقل الخبر أولاً بأول. وهذه الشبكات الإسلامية، كما يعلم القارئ الكريم، لا تتوقف عن مهاجمة الإعلام العربي، الرسمي وغير الرسمي معاً، واتهامه بأنه: يرقص في سرادق العزاء، كما جاء على لسان أحد كتّاب (الشبكة الإسلامية). والحقّ، أنّ هذه الشبكات لا تتوقف أيضاً، عن مهاجمة الثقافة العربية برمتها، لأنها بحسب زعمها ثقافة سائرة في ركاب العلمانية، أو واقعة في أسر المفاهيم الغربية المضلِّلة، كمفاهيم: الحداثة ومابعد الحداثة، البنيوية وما بعد البنيوية، التأويلية وما بعد التأويلية، التفكيكية وما بعد التفكيكية، الكولنيالية وما بعد الكولنيالية، وإلى ما هنالك من مفاهيم متعارضة. وهي من أشدّ المفاهيم احتقاراً لدى عموم الإسلاميين الأصوليين، ولعلّ بعضها كمفهومي الحداثة والعلمانية، من أكثر المفاهيم التي تثير حفيظة المفكر الإسلامي المعاصر.

إنّ الإعلام العربي عموماً هو جزء من تركيبة النظام السياسيّ العربي، ولا يتمتع باستقلالية كما في البلدان الغربية التي تقوم على استقلال عمل المؤسسات الإعلامية. ولذلك فإنّ ما تشدد عليه الاجتماعات الدورية لوزراء الإعلام العرب في كلّ مرة يجتمعون فيها، هو تحقيق ذلك الحلم المستحيل بتوحيد صوت الإعلام العربي. وقد عبّر مستشار وزير الإعلام السوري مأمون البني عن رغبته في تحقق هذه الوحدة، فقال خلال اجتماع اتحاد الإذاعات العربية: نبذل جهوداً مضنية حتى يتحقق حلم وجود إعلام عربي موحد، مشيراً الى أن الأحداث السياسية تفرض ضرورة توحيد كلمة الإعلام العربي.

ويبدو أنّ هذا هو السبب الجوهري في نسف الثقة بمرجعية عربية لـ (الخبر) طيلة السنوات السابقة. فالثقة المهزوزة بشرعية النظام العربي، انتقلت إلى الريبة في شرعية (الخبر العربي). وهذا (الخبر الضعيف)، إذا جاز لنا أن نستعير هذا المصطلح من رجال (علم الحديث)، لا يرقى بكل تأكيد إلى الخبر المرفوع مباشرة إلى إحدى الوكالات الأجنبية. ويبدو أنّ الدولة التي وضعت يد المِلْكية على الإعلام، قد حولتها من مؤسسة تندمج بالنظام العالمي للإعلام، إلى مؤسسة محلية، تعنى بالوقائع الداخلية، وتسعى إلى تعزيز سلطة النظام السياسيّ، وكان ذلك سبباً في عدم مضاهاة الإعلام الأجنبي، الذي تميّز بملاحقة الأحداث أينما وقعت. ومن ناحية ثانية، كان اعتماد المؤسسات الإعلامية في البلدان العربية، على (مرجعية غربية) للخبر؛ صياغته، وتحليله، وخلفيته التاريخية، والنتائج المترتبة عليه، قد زعزع الثقة بقدرة الإعلام العربي على تقديم صورة متجانسة لما يجري في العالم من وقائع، لأنّ الناقل الأصلي للخبر بالمشاهدة العينية، يختلف عن الناقل الثانوي الذي نقل بالواسطة. وهكذا صار الوصول إلى (مصدر الخبر)، أحد الخصائص الكبرى التي تقوي القيمة النوعية للمرجعية، وتميّز مؤسسة عن مؤسسة أخرى. بيد أنّ (احتكار المرجعية)، لم يدم طويلاً بعد عولمة الإعلام، وتوسع شبكات المعلومات، وتنوع وسائل الاتصال عبر الأقمار الاصطناعية، فحرص عدد كبير من مؤسسات الإعلام على الوصول إلى مراكز القرار السياسي، والاقتصادي، والعلمي، والثقافي، والرياضي، وكذلك الوصول إلى مكان الأحداث، وتغطية الوقائع بالصوت والصورة، وشهود العيان.

إننا نتحدث بطبيعة الحال، عن إعلام عراقي يخترق الحدود المحلية للتأثير، ومادام الأمر كذلك، فإنّ استيعاب مستلزمات العمل الإعلامي الرصين، يقتضي المبادرة إلى التوفر على عناصر التفوّق الإعلامي، من كاميرات عملاقة، ومراسلين متميزين بعملهم مع محطات معروفة، ومن استقطاب لإعلاميين وسياسيين ومثقفين يقومون بتشريح الحدث وتحليله خير تشريح وتحليل. ويأتي في مقدمة هذه المستلزمات، الوصول إلى مصدر الخبر أولاً بأول، ونقله بالصوت والصورة والوثيقة الدامغة، عبر تأسيس شبكة واسعة من المراسلين التابعين لها، علاوة على الحرص الدائم على اقتناص سبق صحفي مثير للجدل والنقاش. ولا شكّ في أنّ الإعلام العراقي؛ المقروء والمسموع والمرئي، أخذ يلتفت إلى هذه القضايا الجوهرية في عمله، محاولاً أن يحوز على أكبر عدد من المريدين الواثقين بعمله. وصار من يريد أن يعرف التفاصيل الدقيقة لما يجري في العراق من تحولات اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية، فما عليه إلا أن ينصت إلى ما تتناقله وسائل الإعلام العراقية لكلّ شاردة وواردة. ويعني هذا، أنّ وسائل الإعلام العراقية، صارت مصدراً أساسياً للخبر، بسبب سعة تغطيتها للخبر المحلي، ومتابعتها الدقيقة للأحداث. وعلى الرغم من أنّ بعض هذه الوسائل، تشكو من ضعف مصادر التمويل الداخلية والخارجية، إلا أنها تسعى بخطوات حثيثة لتطوير أدائها الإعلامي. وإذا كانت قد حققت نجاحاً في مرجعية الأخبار العراقية، فإن قسماً كبيراً منها لم يتمكن بعد من تحقيق توازن مع المؤسسات الإعلامية العربية والأجنبية، ذات المساهمة الكبيرة في نادي الإعلام الدولي، والتي تحرص على شراء الخبر الدولي من الوكالات الكبرى، أو الحصول عليه عبر مراسليها، ومكاتبها الخاصة في بلدان القرار الدولي، كواشنطن ولندن وباريس ونيويورك، حيث مجلس الأمن الدولي، والجمعية العامة للأمم المتحدة.

الإعلام العراقي الجديد ومهمة كشف الحقائق التاريخية

واحدة من أخطر القضايا التي ظلت خافية على معظم المحللين السياسيين، هي النجاح الإعلامي في حجب حقيقة المأساة الأسطورية التي تعرّض لها الشعب العراقي على يد أعتى سلطة دكتاتورية في العالم. وكما يعلم الجميع، أنّ هذا النجاح مردّه إلى سخاء العطايا والهبات الممنوحة إلى كثرة كاثرة من (المثقفين والإعلاميين والكتّاب العرب، من الذين يرتزقون من الثقافة)، علاوة على النشاط التعبوي المحموم الذي كانت تؤديه وزارتا (الثقافة، والإعلام)، بجعل كل المنافذ والمؤسسات والأشخاص ضمن بطانتهما السياسية، ينطقون بما تشاء، ويسوّغون كما تشاء، ويغوون النفوس غير المحصنة، للإيمان بأيديولوجيا النظام السياسيّ. وهكذا سقط في تهمة الموالاة عدد واسع من الشعراء، والروائيين، والصحفيين، والمؤرخين، والفنانين التشكيليين، وأساتذة الجامعات، والباحثين في الشؤون السياسية والعسكرية، وعدد من السياسيين العرب الخارجين على التقاعد وحصلوا على راتب مجزٍ من النظام، وشمل الولاء كذلك جمهرة من المغنين والمغنيات، والممثلين والممثلات.

ووسط هذه الموجة من الحناجر التي خُتِم على أفواهها بالضلالة والدجل والزور والبهتان، ظلت القضية العراقية، تُعرَض في الفضائيات العربية بحسب مقتضيات سياسية غير موضوعية. وقد لعبت قناة الجزيرة الواقعة تحت هيمنة نفوذ عدد من العرب المؤيدين للنظام السابق، دوراً كبيراً في تضليل الرأي العام العربي بحقيقة الأوضاع المزرية التي يتعرّض لها الشعب العراقي، وكلنا يتذكر الحلقة الخاصة عن العراق التي قدّمها (أسعد طه) في برنامجه (نقطة ساخنة)، وفيها أراد أن يترك انطباعاً لدى المشاهد العربي بأنّ المأساة المريعة التي يتعرض لها المجتمع، إنما المسؤول المباشر عنها هو السياسة الأمريكية التي تكيل بمكيالين؛ واحد لإسرائيل، وواحد للعرب. ولم تجرؤ هذه القناة التي تدّعي أنّ (أحكامها مبنية على الاستنتاجات) كما يصرّح القيّمون عليها، أنْ توجه أصابع الاتهام ولو بالإشارة إلى النظام السابق، وتحمله مسؤولية ما يجري. ومن المؤسف، أنّ أسعد طه نفسه، قد عاد إلى العراق بعد سقوط النظام، مستغلاً الفوضى الأمنية، وعدم الرقابة، فقدّم حلقة خاصة حول العراق بعد الاحتلال الأمريكي في 9/4، اتُّهِمَ فيها بعدم حياديته في عرض القضية، علاوة على نظرته الطائفية الضيقة.

وبإزاء هذا، كنا نفتقر إلى مؤسسة إعلامية عراقية، تحسن عرض المأساة بصورة مقنعة لملايين المشاهدين الذين يجهلون تماماً ماذا يجري في العراق من قتل جماعي منظم، بسبب الأبواق الإعلامية المنتشرة في مختلف البلدان العربية، والتي تُجازى على ذلك من عائدات النفط العراقي، كما هو موثّق في وثائق رسمية، تمّ كشفها مؤخراً أمام القاصي والداني.

لكنّ الناظر اليوم، إلى أداء عدد واسع من العراقيين، من مثقفين، وسياسيين، وكتّاب، وإعلاميين، وشخصيات عامة وخاصة، سوف يشعر بالارتياح لتحملهم المسؤولية في كشف المستور. وقد حققت الصحافة العراقية قفزة نوعية، بعد تحقيق قسم منها سبقاً صحفياً مثيراً للجدل، كالسبق الذي حققته جريدة (المدى) في نشر فضائح كوبونات النفط. أو في التغطية الميدانية للخبر، ونقل الرؤية الاجتماعية لتطور الأحداث السياسية كما هي. ومن ناحية ثانية، شهدت الأشهر التي تلت سقوط النظام السابق، ولادة عدد من الفضائيات العراقية، التي تحرص على تغطية (الأخبار المحلية العراقية) بكل تفاصيلها، لأنها أحداث ساخنة، ومحطّ أنظار العالم، ولأنها تشبع حاجة المشاهد العراقي المتابع لأحداث بلده.

إنّ ما يُقَدَّم الآن من وثائق ودراسات واعترافات وشهادات في أجهزة الإعلام العراقية، إنما هو مقدمة صالحة لمن يريد أن يؤرخ لهذه المرحلة من تاريخ العراق. وإذا أردنا أن نقدِّم تاريخاً مثيراً حقاً، فيتعيّن علينا أن نكتب تاريخاً شاملاً للثقافة والمجتمع والاقتصاد والسلطة، برؤية منهجية تجعل من كلّ ذلك حدثاً متجانساً. وبذلك، نتجاوز إحدى هفوات المؤرخين الذين انشغلوا سابقاً بالأحداث، والتغيرات السياسية، دون غيرها من التطورات الخاصة بالثقافة والمجتمع والاقتصاد.

قبل أيام استمعت إلى عدد من البرامج السياسية التي يعدها عراقيون، وكان ضيوفها من العرب والعراقيين، ومن ينظر إلى هذه البرامج نظرة فيها قليل من الحلم، سوف يلاحظ رجحان التحليل العقلاني للضيوف العراقيين، فيما وقع خصومهم في ارتباك وعدم دقة في معالجة بعض المسائل السياسية، بل كانت حجة بعضهم ساذجة. طبعاً، إحدى العوامل التي ساعدت العراقيين على بيان حجتهم، هي زوال الخوف الحقيقي والرمزي اللذين سيطرا على مخيال الإنسان العراقي لعقود طويلة.