ردك على هذا الموضوع

التسامح في المجتمع العراقي

ثقافة جديدة لعراق جديد

ندوة: بيت الحوار العراقي**

 

انطلاقاً من مسؤولية الهم المعاش في محاولة بناء ثقافة عراقية جديدة لعراق جديد، تأسس (بيت الحوار العراقي)، وهو يصبو إلى الانضمام إلى تلك الحركة (لبناء ثقافة مغايرة ومغيَّرة)، لعله يوسع من دائرة الحوار والنقاش المستمر، الكاشف لاتجاهات وتوجهات تأخذ بيد الثقافة العراقية إلى مضامين معاصرة وآفاق أكثر رحابة تستوعب وجود الآخر المختلف...

يؤمن (بيت الحوار العراقي) بالعمل خطوة - خطوة دون القفز على المراحل والاستعجال والاصطدام بمتبقيات الثقافة العراقية السابقة، لهذا رفع شعار (بداية صحيحة، نتائج مضمونة)..

كانت البدايات الأولى متناسبة مع حجم البناء، حيث نجح (البيت) إلى حد ما في إكمال حواراته حول (التسامح في المجتمع العراقي) من خلال عدة جلسات عقدت كل أثنين من كل أسبوع وكانت الأوراق المقدمة إلى (بيت الحوار العراقي) للجلسات السابقة هي كالآتي: -

1- التسامح ثقافة/ د. متعب مناف / أستاذ في علم اجتماع المعرفة /كلية الآداب جامعة بغداد

2- التسامح والفن / كاظم الجيزاني /ناقد وفنان تشكيلي / مشرف تربوي

3- التسامح والدين / علاء حميد / مسؤول العلاقات العامة وعضو هيئة تحرير (مجلة النبأ)

4- التسامح والسلطة / حكمت البخاتي/ مثقف مستقل.

5- مستقبل التسامح / حيدر الجراح / نائب رئيس تحرير (مجلة النبأ).

تقديم الجلسة الأولى:

حيدر الجراح: تسامحتم فحضرتم، التسامح فعل تساهل وحضور.. التسامح فعل حماسة واندفاع نحو الآخر... إنه احتضان.. والتسامح انسجام مع الذات والآخر... والمسامحة فعل اقتراب مما لا يمكن الاقتراب منه والتفاعل معه. أسامح على الخطأ والإساءة من الآخرين... أسامح نفسي على أخطائها.. فعل غفران وهو زمن أفقي متحرك... زمن التسامح لا يجري إلا مع الآخر ومن خلاله.. لدى الغرب حوار (ديالوج) وهو حركة باتجاه الآخر. العرب والمسلمون لديهم مونولوج. وهو حركة باتجاه الداخل.. أو باتجاه الله.. إنه فعل توبة أو دعاء.. وهو فعل صعود عمودي.. ويمكن وصف هذه المتوالية بالشكل الآتي: - التسامح -فعل جماعي التوبة - فعل فردي التسامح اجتماعي بطبعه = إنسان...

التسامح فعل احتضان. احتضان = إنسان ذراعان مفتوحان لاحتضان الآخر... بأتساع المدى... بأتساع السماء شكراً لدفء أحضانكم..

الجلسة الأولى. التسامح ثقافة سوسيولوجيا التسامح سلوكيا وسياسيا

د. متعب مناف

إن الغاية من التسامح ليس أن يسامح طرف الآخر، فالكل قد احترق بلا تسامح مؤسسة الفساد التي استعرنا بنارها ثلاثة عقود ونصف العقد تلتها فترة زمهرير قاتلة. لذا فليس من حق أي مكون أو طيف عراقي بشرا أو أديانا أكثريات/ أقليات/ قواميات/ إثنيات أو أطيافا وطوائف أو نحليات أن يدعي، أو يحتكر لنفسه الظلم، فيجير العذاب له ولمصلحته، مطالبا بالثمن.

لقد توزعت النيران على الكل، وعمت الحرائق الجميع،بيوتا وقرى ومدن ومراكز وحافات وأطراف، خيم الحزن والليل على العراق وساكنيه إذ مزقتهم الشظايا والجمر وسلطة الخاكي. لعنة الموت هذه صاحبتها وساندتها ما يمكن أن نسميه (ثقافة الاستعلاء) التي جمعت بين التجهيل والإملاء، يرفدها زبانية همهم الأساس غمس ريش أقلامهم في الآتون للكتابة على الجلود المحترقة والمهترئة إلى الحد الذي سمى فيه هؤلاء من سدنة الجحيم/ الحرب بأنها (الخراب الجميل)!

وهو تعبير عاهر، أريد منه تغطية الآلام التي غمرت الأرض والإنسان والماء والهواء، التي نزّ بالألم منها الشارع العراقي، دموعا ودما وأمواتا وأشلاء وأرامل ومشردين ومعوقين وقاصرين، إحصائيا في العراق وبعد 1980 وحتى انحسار مؤسسة الفساد السابقة، يوجد خمسة ملايين (قاصر) دون سن البلوغ لا يعرفون آباءهم، تتحكم فيهم مؤسسة قاصرة اسمها (مديرية أموال القاصرين) التي لم تقدم بعد كشفا بحساباتها لنعرف ما للقاصرين وما حل بمالهم دون تحويل المليارات التي تجمعت إلى مصرف يمكن أن يضمن الحق المادي لهؤلاء مستقبلا.

ماذا يمكن أن يكون مستقبل العراق إذا تولت توجيهه بعض من هذه الملايين الخمسة القاصرة؟ بالطبع فإن المستقبل قاصر دون دفع التشاؤم إلى أقصاه فهناك ضياء وإذا كان العديد من هؤلاء القاصرين- وبفعل غياب الأب في مجتمع أبواني، وعائلة يصعب تبادل الأدوار بين أعضائها، أو ما يسمى بديمقراطية السلوك العائلي- فما هو المعول عليه في الراهن، وهل هناك راهن أقسى من الاحتلال. وهو البديل لإدارة الفساد ؟ والمجتمع الذي تربى على صور المعركة وعفونة موت البارود وأكداس ممن لحقهم العوق وفقرات البطاقة التموينية والثقافات المعارضة التي تعقد الندوات والمنتديات الشعرية وتصدر الأعداد الخاصة عن الايروتيكية (الايروسية).

علينا ألا نَتَّهم أو نُتَهم، أهل الداخل من الأنصار الذين ناصروا الهم ،اقتاتوا على الظلم والحرمان، والمهاجرين الذين نظروا للمعارضة والتقوا بعشاء أخيراً، ثم أنكر بعضهم بعضا عندما دكت قنابل جيوش الاحتلال الذكية الوطن وهتكت استارة وستائره واغتصبت ذاكرته وكنوز آثاره ونهبت نفطه وغيبت حاضره.

علينا ألا نَتَّهم أو نُتَهم وألا يصح علينا قول السيد المسيح (ع) من كان بلا خطيئة فليرمها بحجر، وإلا رجمنا ذواتنا التي يمكن أن تكون بالفعل خرابا جميلا.

ثقافة التسامح إذاً ليس أن يسامح الشيعي السني أو الكردي العربي أو التركماني والمسيحي والصابئي واليزيدي، فالكل عاش (الخراب الجميل) إلاّ من غادر هذا الخراب، ولكن هؤلاء المغادرين، حملوا الخراب الجميل معهم لأنه تحول إلى قضية.

المهم أن الباقين (ثقافة الداخل) والمغادرين (ثقافة الخارج) لم يستطيعوا التخلص من أسر التعبير وسطوته، إذ كيف يكون خرابا وانهيارا، وماذا بقي فيه وله كي يكون جميلا؟

ولكن التعبئة القدرية والتسليمية التي وقع تحت ثقلها العقل العراقي قد شلته تماما، فعاش مأزوماً.

علينا أن نبني ثقافة لا تسمح بتكرار أن يكون الخراب جميلا، والموت عنفوانا وبارود العقل عطرا.

ثقافة التسامح لا تَتَهِم ولا تُتَهم، لا تستعلي ولا تستخذي، وإنما هي ثقافة تنوير في عصر ساده الموت والتنانير؟

يبقى أن العراقي يقبل على الحياة ويقدرها ولا يريد للألم أن يخترقها على عكس المصري الذي يتذكر الألم وهو في عز انبساطه فيعمد إلى إحضار موميائه وهذه هي الفسحة التي نزرع فيها بذرة ثقافة التسامح.

في العراق الشارع ديني أو متدين سياسيا؛ لذا فإن الاتجاه الديني في العراق هو الذي يحاول أن يستوعب الفعاليات السياسية ليؤمن لها شرعية الشارع، أو على الأقل شعبيته. مثل هذه الأسئلة والتساؤلات يمكن أن تثار؛ لأنها بالفعل بحاجة إلى إجابات، والقاسم المشترك بينها إطلاق ثقافة التسامح (Culture of Tolerance) التي يجب أن يتجاوز مفهومها قبول الآخر إلى العمل معه لبناء المجتمع والدولة في العراق، فهل يمكن أن تؤمن مثل هذه الثقافة السياسية الجديدة (التسامح) من خلال مؤسسة سياسية فاعلة على صعيد الحكم، أم أنها تبقى حكرا على (المعارضة الديمقراطية) في مثل هذا الظرف الذي يلوح فيه بفرض حالة الطوارئ؟ لماذا كانت ثقافة التسامح إشكالية (Polemie) ألأن عالمنا: عراقي/ عربي/ مسلم/ شرقي لم يصل بعد إلى حد القبول بالتسامح كممارسة وما يقال عن ثقافة التسامح هو لمجرد التأثير وليس التغيير.

كيف نبني ثقافة تسامح في العراق ونحن في فترة ضعف، على الأقل على صعيد الدولة التي فقدت كل بناها الارتكازية هل يمكن تقسيم العراق- لغرض الدراسة- إلى أقسام يمكن أن نتتبع في كل منها كيف نبني ثقافة تسامح اجتماعية/ سياسية (الشمال، الجنوب، الوسط، الشرق، الغرب) أو أن نختار مدناً كالنجف والموصل وبغداد والبصرة والكوت والعمارة والناصرية وأربيل والسليمانية وبعقوبة وكركوك، والرمادي والفلوجة، وكربلاء، والكوفة، نحاول أن نحرك هذه الثقافة التسامحية فيها ومن خلالها، ثم نقوم بالكشف عن العقبات والنجاحات التي يمكن أن تجمع كحصائل لإطلاق مثل هذه الثقافة التي تعمل مع الآخر، ولا تصادره كما جاء في سورة يونس/ 99 (ولو شاء ربك لأمن من في الأرض كلّهم جميعا، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) . ولما كانت ثقافة التسامح معني بها عراقنا في الراهن، فإن فهم شخصية العراقي، ومدى قبوله للتسامح أو ربطه بين الضعف والتسامح، وإن القوي هو الذي يسامح وإن العفة لا تكون إلا عند المغنم!

الجلسة الثانية. التسامح والفن

كاظم الجيزاني

لا يمكن القول إن المجتمع العراقي يختلف عن العالم المحيط به فهو شعب يميل إلى العنف في حل أغلب نزاعاته ولهذه الظاهرة أسباب منها أن الشعب العراقي خضع لحكم الطواغيت منذ فجر التأريخ حتى حكم المسلمين كان فيه نوع من أنواع الاستبداد إضافة إلى ذلك الطبيعة الجغرافية والمناخية والتي تلعب دوراً مهماً في ميول العراقي إلى العنف والتعصب ولا يمكن القول إن العملية الإبداعية تلعب دوراً مهماً في خلق التسامح لدى الشعب العراقي الذي تربى على العنف والتعصب في أغلب خصوماته ونزاعاته على كافة الأصعدة منها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدينية. وكما هو معروف وواضح أن الفنان إنسان متسامح سهل الطبع يقبل التحاور والتناظر وسبب هذه الصفة لدى الفنانين كون العملية الفنية(أو الإبداعية)هي عملية إسقاطيه تعويضية يستطيع الفنان من خلالها نقل انفعالاته وأحاسيسه إلى العمل الفني سواء كان لوحة أو قطعة أدبية أو ما شابه ذلك. وبما أن عدد الفنانين والعاملين في الحقل الإبداعي قليل نسبياً إلى عامة الناس فهل نستطيع أن نخلق شعباً متسامحاً عن طريق العملية الفنية أو الإبداعية... حقيقة نقول أن هذا غير ممكن إلا من خلال خلق إنسان متذوق للعملية الفنية والإبداعية، إذ يجب أن نعمل على تفعيل نظرية التطهير التي أكد عليها الإغريق القدامى من خلال جعل المشاهد أو المتلقي يتفاعل مع العمل الفني بكل أصنافه وأشكاله بحيث يتمكن الإنسان العادي أن يسقط كل مشاعره العدوانية لا إراديا من خلال التفاعل مع العمل الفني.

ولا يمكن تحقيق هذا الطرح إلا من خلال النقاط الآتية:

1.يجب أن يبتعد الفن بكل أصنافه عن السياسة وأدلجتها المقيتة، وأن لا يكون الفن وسيلة لتحقيق مصالح السياسة والسياسيين.

2.يجب أن تكون العملية الفنية نابعة من هموم الجماهير وتطلعاتها.

3.يجب خلق إنسان متذوق للعملية الإبداعية والفنية ويمكن أن تلعب المدرسة دوراً مهماً في تفعيل هذه القضية.

4.على الفنانين بكل صنوفهم النزول من بروجهم العاجية والتفاعل مع المجتمع والابتعاد عن الرموز والتشفيرات التي لا يستطيع الإنسان البسيط أدراك معناها.

الجلسة الثالثة: التسامح والدين

علاء حميد

ان محاولة استبصار، العلاقة بين الدين والتسامح، سوف يدفعنا الى التأمل. في مسألة الدين، وأثره على الفعل الاجتماعي وحركة المجموعات الاجتماعية إن الدين منذ نشأته وتكوينه حاول ضبط فردانية الإنسان، والفردانية هنا علاقة وسلوك الإنسان مع الحياة ما تمثله من مكان وطبيعة وفعاليات متنوعة سواء كانت اقتصادية أواجتماعية أوسياسية، لذا تداخل مفهوم الضبط الديني والكيفية التي نتصور بها غاية الدين وموقعه في حياتنا اليومية، إننا حينما نركز على نوعية العلاقة بين الدين والتسامح لا يغيب عن بالنا المرور ولو بشكل سريع على حركة وتأريخ الأديان الثلاثة الكبرى، اليهودية والمسيحية والإسلام، لقد انصهرت اليهودية في المطلب القومي وأصبح الدين اليهودي المظلة الشرعية التي تؤمن إنضاج الهوية القومية. لهذا نظر الدين اليهودي لمفهوم التسامح من نافذة القومية أما الديانة المسيحية فأنها تعاملت مع مبدأ التسامح على ضوء مركزية الخلاص الذي قام به السيد المسيح(ع) من خلال الفداء والتضحية وبالتالي رفع كاهل ثقل الخطيئة الأولى، إذن التسامح يشتغل طالما هناك من ضمن حمل وزر الخطيئة، ولكن على شرط دخول الدائرة المسيحية!... يبقى الدين الإسلامي، إن الإسلام مثل تقدماً تاريخيا على مكتسبات تلك الأديان السابقة ولهذا جاء مستوعباً لما مرت به (الاديان السابقة) حيث نلاحظ فيه أنه سعى الى ملء المسافة المتحركة بينه وبين المطلب الإنساني، ولذلك نكتشف أن هناك علاقة ثلاثية تدعم وجود الفعل الديني وهي (الدين، التأريخ، السياسة).لذا علينا أن نكثف انتباهنا، أن مفردة التسامح لم تأخذ الحضور الموسع ضمن الأدبيات الدينية، ولكنها انضوت تحت مفردات متعددة منها(الرفق، احمل أخاك سبعين محملاً، وخير ما في الدين أن تلقى أخاك بوجه طليق، أدفع بالتي هي أحسن وكأن الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم). لذا يظهر لدينا نص إسلامي يمارس دفعا معنويا وأخلاقيا من أجل ممارسة القبول والتسامح. ولكن فيما ننزل إلى الأرض(والأرض هنا هي الواقع) ماذا نجد؟إننا نصطدم بأن الفهم الذي يصنع منه التصور الديني المذكور سابقاً(الدين، التأريخ، السياسة) هي التي شكلت خلفية النظر والتعامل، وخاصة في العراق، حيث أرى أن الثقافة الطائفية هي التي ما زالت الكامن المتحرك والمانع في نفس الوقت لبناء ثقافة مذهبية، تعيد دوزنة ثلاثية صنع التصور الديني في العراق... مارست السياسة تحايلاً تاريخيا بالإسناد إلى تهم التأريخ واستحقاقاته. إن تأريخ الفعل الديني العراقي، كان ذا تلاق سياسي وليس ذا توجه يأخذ بنظر الاعتبار إن إلى الله، بعدد أنفاس الخلائق. والخلائق متنوعة متباينة مختلفة تجمعهم فطرة الله التي فطر الناس عليها، أعتقد أن أمكانية تأسيس ثقافة التسامح، لا يصبح قريب النيل الا بتعميق حالة التعايش الحاصلة بين مجموعات الشعب العراقي، كذلك أن التسامح لا يلتقي مع الطائفة. بل يتأخر مع المذهبية التي تطرح نفسها بوصفها مشروعاً تضامنياً واجتماعياً قبل كل شيء. يستند إلى شعار الأمام علي أبن أبي طالب (عليه السلام) (الناس اثنان أما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق).

الجلسة الرابعة: التسامح والسياسة

حكمت البخاتي

تحيل قضية التسامح الى إشكالية السلطة(سياسية-دينية-اجتماعية) وبما أن هذه التكوينات التنظيمية تشترط طرفاً آخر، فأن التسامح ضمن علاقة تنبعث عن تلك التنظيمات، يستبطن مفهوم القوة شرط السلطة في تأسيس علاقة مع الآخر. هذا الآخر كان أقلية في أكثر مراحل تأريخ الإنسان، وليس بالضرورة أن تكون هناك أكثرية تلعب دوراً رئيسياً وتوجيهياً في تنظيم هذه العلاقة كما يتبادر إلى الذهن في حالة مجتمعات نشأت لديها مشكلة الأقلية المضطهدة،إذ أن هناك أكثرية مضطهدة في عالمنا العربي والإسلامي، مما جعل العلاقة مع الآخر تأخذ منحى خاصا بها في هذا العالم ذات الخصوصية في مشاكلها السياسية والاجتماعية.نبعت من فضاءات ثقافية خاصة القت بظلالها على جوانب حياته المختلفة وطبعت كل أفرازاتها بقدسية النص وقيمة العرف كأبعاد متوازية أسست وأنتجت هذا الفضاء الثقافي العربي الإسلامي.

النص والعرف

كانت سلطة النص تؤسس بناء العلاقة مع الآخر على ضوء تأويلات مفاهيمية لمظاهر النص وكان هذا الظاهر للنص هو السائد في أغلب الأحيان وخصوصاً فيما يتعلق بأهل الذمة. هذا الغالب في الفهم العربي والإسلامي يتسع لإحتواء مفهوم التسامح إلى أقصى حدوده الممكنة. وينحدر أحياناً إلى ضيق التعصب إذا أقتضت ضرورات السياسة، وجاهزية المصلحة ودائماً تنبعث أنبعاث سوء من سلطات حاكمة أسست دوماً في تأريخ العرب والمسلمين لمظاهر العنف والتعصب. ثم الأرهاب لاحقاً. كان هذا السلوك قبلياً معززاً سلطة العرف بشقيه الإيجابي أولا وكثيراً من خلال عرف قيمي يعلي من شأن حسن الجوار وذمة المجير وهو سلوك ينم عن قناعة بدائية بقيمة التسامح يدخل كعنصر في تركيبة الحياة الاجتماعية العربية ومن ثم الإسلامية. ثم هناك شقه السلبي في نفي هذه القيمة/الجوار تبعاً لمقتضى منفعة سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية. وبهذا يكون للعرف دورساندودائم في تحديد العلاقة مع الآخر. لقد كان العرف يمثل سلطة مثلما كان النص ولا زال يشكلان هوية الدولة السياسية ذات الطبيعة الملوكية في تأريخ العرب ماضياً وحاضراً. ولأن المجتمع الشعبي كان خاضعاً وبقناعة ذاتية لكلتا السلطتين حيث التماهي التام بين الحاكم والمحكوم وبين سلطة سياسية تقوم على أبوية، روحية شرعية ونسبية قبلية وبين مجتمع وجد نفسه محكوماً بولاء الطاعة شرعاً وهو ما يشكل سلطة النص ومحكوما ً أيضا بولاء القبيلةإنتماء وهو ما يمثل سلطة العرف ولذا كان الاجتماعي لهذا المجتمع في علاقته مع الآخر موضع اتفاق بين قمة الهرم الاجتماعي وقاعدته الشعبية- وهي تمثل ثقافته السياسية العامة. لقد كانت السياسة بالنسبة إليه تندرج في حقل ثقافي عام يتداخل فيه السياسي مع الأخلاقي والاجتماعي والمقدس الشرعي كحامل لهذه الثقافة التي رسمت ملامح جوهرية أسست فضاء عاما تبلورت من خلاله معان وجودية أسهمت في تحديد سلوكه اتجاه الآخر وتنظيم علاقته به.

الآخر والعصر

بعد ظهور الدولة الحديثة بمفهوم قانوني وسياسي حديث لم تألفه مجتمعات أخرى في تأريخها. تأثرت هذه المرجعيات الثقافية ذات البعد السياسي لدى العالم العربي في أنتاج ما يواكب العصر بخصوص العلاقة مع الآخر وتسببت في أرباك هذه العلاقة كثيراً. لقد دخلنا عصراً يتحرك فيه السياسي بسيطرة كلية على أبعاد حياتنا بمختلف الصور. وخرجنا من عصر العرف وسيطرة نموذج أخلاقي ذا بعد سلطوي مما تسبب في إحداث قطيعة كبرى مع العالم المعاصر جعلتنا في زمن غير الزمن الذي نحيا. ظهرت واضحة في رفض عدد من الدول العربية لإعلان حقوق الإنسان لأنه لا ينسجم مع تراثنا ومرجعياتنا التي عملت على تغييب مجال السياسي الذي أشار أليه الجابري(نقلاً عن كتاب الدولتان السلطة والمجتمع في بلاد العرب وبلاد الإسلام لمؤلفه برتران بادي أحد أساتذة علم الاجتماع الفرنسيين المعاصرين وأعتمد عليه في نظريته التحليلية للعقل السياسي العربي.

نتيجة سلطة مقدسة للنص وتبين دلالة هذا النص بتأويله توظيفياً ليسير ضمن خط سلطة العرف التي أرتكنت إليها كثيراً، بل هي الإطار العام للسياسة الملوكية في تأريخ الإسلام مما يؤشر إلى موقع القبيلة الأساسي في توجيه تلك السياسة ومن ثم أقترانها بديهياً بقواعد تأسيس الدولة العربية الحديثة. فلا زال الخنجر رمزاً لرؤساء عرب ولا زال ابن الرئيس هو ولي أرث القبيلة. وكان صدام نتاج التأسيس السلبي لهذه الدولة يتحدث بأمثال تنم عن عقلية عشائرية وشخصية قبلية أنسجمت مع وضع سياسي خاطيء لا يمكن أن يعيش بغير مناخ صحراوي. إنها دولة تفتقد إلى حداثة الفكر وتحديث العقلية التي تشترط التخصص في كل مجال، الفصل بين جوانب الحياة الحديثة بما فيها السياسي. هذا الفصل لم تستوعبه ثقافة العرب و المسلمين السياسية لأنها نتجت في ظرف آخر وقدمت من زمن ثان.

ولقد كان فصل المجال السياسي أمراً أساسياً في بناء الدولة الحديثة حاولت دول إسلامية أن تقوم بهذه المهمة-التجربة بألتزام مبدأ علمانية الدولة وفصل الدين عن السياسة وابعاد هذه الثقافة من الدولة والسياسة. بذلك يتم فصل السياسي عن الثقافي ولكنها فشلت ضمن مشروع فشل الدولة الحديثة لأنها فرضت تأريخياً على مجتمعاتنا من غير حاضن تأريخي وثقافي يحضن هذه الدولةوتنشأ فيه طبيعياً مما أدى إلى أن تفقد هذه الدولة صفة التحديثية كما يرى غليون.وتضطرب في الأستناد إلى مرجعية شرعية تأرجحت بين ثقافة تراث سياسي بركنيه: النص والعرف، وبين متطلبات الحداثة وسياسة العصر. ومن هنا نشأ الشرخ الكبير في علاقة إنساننا العربي والمسلم بهذا الواقع السياسي، ومن ثم هذه الدولة. إذ لم يتبلور فيها مفهوم المواطنة (المواطنة منظور أليها كأطار عام ينظم العلاقة مع الآخر) بشكل واضح ومؤثر في مجريات التعامل اجتماعياً وسياسياً. وهو ما يعد قناة دخول دولتنا إلى عصر يستجيب لمتطلباته وينسجم مع قواعده. إضافة إلى مشكلة غياب فعل الزمن لآلية أنتاج التسامح في تراثنا منظوراً إليه من زاوية وظيفته في تنظيم العلاقة مع الآخر.

وتعمقت أزمة هذه العلاقة لتمتد إلى علاقة هذا الكيان بالأنا العربي والإسلامي وكانت مشكلة الآخر أشد وطأة وأكثر سلبية، هذا الآخر صار عربياً ومسلماً أيضا وانحياز هذا الكيان إلى الطرف الذي أرتبط به دينياً وقومياً ومذهبياً. إن ارتباطه بواسطة هذه العلائق الثقافية التي ارتبطت بمفهوم سياسي آيدولوجيته تهميش الآخر وتفريغ العلاقة به من مفهوم وسلوك التسامح الذي يعد أرثاً ثقافياً يشكل جوهر تلك العلاقة.. وقد وصل التهميش إلى حد الإلغاء بالغاً أقصى تردياته في الدولة العراقية التي صارت نموذجاً للفشل السياسي لأنها تشكلت على أساس أنتماء قومي آيديولوجي ومذهبي توظيفي استمدت منه شرعية السلطة وفق صكوك اعتبار الأهلية القومية والأحقية المذهبية، وأقصت مفهوم المواطنة عن الممارسة السياسية مما جعل غياب التسامح أمراً مشروعاً عقائدياً بعد أن رفعته إلى مستوى التنظير مبدئياً. وكذلك مبرراً سياسياً،ليتجاوز إلغاء الآخر إلى دفنه في غياهب مقابر جماعية. وهكذا بعد إلغاء الآخر وتهميشه ثم دفنه أمعاناً في تطبيق سياسة دكتاتورية جوهرها اللاتسامح وفعلها دفن الأحياء.

المواطن معادل التسامح

إذا كان اللاتسامح قرين ونتاج الدكتاتورية، فإن المواطنة حاضن التسامح تستلهم روحيته لأنها تصدر من مبدأ قبول الآخر وتنطلق من ذات الأصل الذي ينطلق منه التسامح وهو نزوع الإنسان نحو اجتماعه. مع فارق زمني يرتبط بتطور طبيعي وتقني يستمد شرعيته من أصول نظرية معتبرة.. خلاف ثقافة التسامح، إذ هي نتاج مشاعر إنسانية وأحاسيس نبيلة وأن المواطنة تشكل المعادل الموضوعي في هذا العصر لأخلاقية التسامح في نظام العلاقة مع الآخر وتنبذ كل علاقة عمودية تأتي عن طريق سلطة ممنوحة بفعل القوة.. فالناس صنفان أما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق، وهي إشارة واضحة إلى أفقية العلاقة مع الآخر، لأن النظير يكون على خط مستقيم واحد. وشمول الناس كان بهذا التكافؤ في التناظر يظهر جلياً في معنى المساواة طبيعياً وقانونياً وهو ما أعتمدته دساتير الأمم المتحضرة في تشريع حق المواطن لتنظيم علاقة الإنسان بالآخر، وبذلك يفسح المجال واسعاً أمام غاية التسامح النبيلة لتؤدي دوراً إنسانياً رائداً.. لا شك أن النص والعرف يلون خلفية هذا النص مرسوماً بريشة المواطن... فالناس لآدم وآدم من تراب ومن كان التراب أصل خلقته لا يرفع أنفه أستعلاءاً بل يرفعه لينظر إلى آفاق السماء الرحبة التي تدعوه إلى ملكوت التسامح لأنه دوماً في محيط الآخر والوطن مهاده.

الجلسة الخامسة: مستقبل التسامح

حيدر الجراح

يكتب اريك فروم في كتابه (الإنسان بين الجوهر والمظهر).

تقوم دعوة المفكر الاقتصادي شوماخر بتغيير جذري في الشخصية الإنسانية على فكرتين :أن نظامنا الاجتماعي الراهن يجعل منا كائنات مريضة وأننا مندفعون نحو كارثة اقتصادية ما لم نغير نظامنا الاجتماعي تغييراً جذريا ( إن الحاجة لتغيير إنساني عميق لا تنبع من كونها مطلبا أخلاقيا ودينياٍ فحسب كما أنها ليست مجرد مطلب سيكولوجي منشوءه الطبيعة الممرضة لنظامنا الاجتماعي ولكنها - بالإضافة الى كل هذا - شرط لمجرد بقاء الجنس البشري-لم تعد الحياة الخيرة مجرد استجابة للمتطلبات الأخلاقية والدينية لأنه-لأول مرة في التأريخ-أصبح مجرد البقاء المادي للجنس البشري يتوقف على إحداث تغيير جذري في وجدان الإنسان وقلبه وضميره ) الى هنا ينتهي كلام اريك فروم..

ونحن نتساءل بدورنا: هل هناك إنسان في المستقبل ليكون ثمة تسامح؟هل نمتلك كعرب ومسلمين- حاضراً ليكون لنا مستقبل ؟ وهل المستقبل هو ما نسعى إليه بكدنا وجهودنا.. ام ما نريده أن يسعى إلينا ونحن في جلسات كسلنا واسترخائنا..وغيبوبتنا؟ ثمة فرق بكل تأكيد..

الكثير من الأسئلة تنفتح على بوابات الجحيم وعلى مساحات الخراب الجميل بقسوة عهره في التسامح ثقافة..أو على فوهات التنانير(جمع تنور)منضج رغيف الخبز الذي نتشارك والملايين بأكله.. هل يكون لنا مستقبل قبل أن نفتح لنا في عقولنا ثقبا ينهمر منه الضوء في قلوبنا ؟ ام أن هذا المستقبل نريده انغلاقاً علينا ونفيا للأخر فينا وأمامنا ؟

الآخر هذا الجحيم المرابط حولنا ... والمحيط بنا كالسوار في المعصم.. الآخر الملعون دائما ًوالمشدودة إليه أبصارنا .. الآخر المطعون.. المخترق لذواتنا وذاكرتنا ووعينا.. وحتى أسرّتنا وأواني مطبخنا .. لأحد شعراء آسيا الصفراء(كوان تاوشنج)خذ قطعة طين، بللها، ربت عليها اصنع تمثالاً لك، وتمثالا لي .. ثم حطمهما.. أضف بعض الماء واعجنهما معا .. شكلهما، تمثالا لك وتمثالا لي .. إن لفيّ أجزاء منك.. ومني أجزاء فيك.. ولا شيء بإمكانه التفريق بيننا.. هل ثمة إنسان.. وهل ثمة مستقبل.. وبالتالي هل ثمة تسامح؟

نعود الى مائدة العشاء الأخير التي فرشها لنا د.متعب في تسامح ثقافته، وجمع تلك المائدة في طبق واحد .. لا نََتهم أو نُتَهم.. وختمها بثمالة كأس عصيره ... امتلاك الحال هو الخلاص..

في هوياته القاتلة يحيل امين معلوف الصراعات والحروب الجارية الى ارتباطها بمسألة الهوية.. ترى هل نحن مطالبين بإعادة اكتشاف- بناء- تشكيل هوياتنا؟ لنتعايش ونتسالم وبالتالي نتسامح مع هويات الآخرين؟

السياسة مارست فعل اغتصابها للتعايش والتسامح على امتداد التأريخ العربي الإسلامي وعلى مرأى من التدين وليس الدين، وغالباً بمباركته.

نطمح إلى مستقبل يسوده التسامح وقبول الآخر والتعايش معه.. مستقبل نعمل مجتمعين على بناء لبناته الأولى من خلال ثقافة سياسة وثقافة اجتماع وثقافة تعدد لا تفرد.. مع الاحتفاظ بالتمايز والتميز.