ردك على هذا الموضوع

الثقافة العراقية

بين إشكالية التكوين وإشكالية الأنا

د. باسم علي خريسان

 

عراق اليوم وثقافته، يمران بمرحلة تحول كبيرة، تفرض تحديات جمة، تتطلب العقل والفكر النير للتعامل معها، صحيح إن النظام المستبد قد زال، لكن الثقافة التي عمد طوال اكثر من ثلاثة عقود على ترسيخها، لم تزل، بل نجدها تعمل الان بديلاً عنه في تشكيل جملة من التحديات أمام الحركة المجتمعية العراقية، لكون العقل المعتاد على ثقافة أللون والطعم الواحد، وعلى الاطلاقية في التعامل مع مجريات الحياة، ليس من السهل عليه ولوج هذه المرحلة الجديدة التي تتسم بالتنوع وبطيف واسع من الأفكار والأيديولوجيات والرؤى بعقل تطبّع على فكر شمولي يفكر له، ويمارس ضده أبشع أنواع الإقصاء، مما جعل العقل العراقي، عقلاً معطلاً عن الفعل، ولا يستطيع الحركة ألا في إطار تلك القوالب الجاهزة التي عمد النظام المهزوم على قولبته فيها، مما جعل العقل العراقي يعيش حالة التفكير خارج التاريخ، لكن يجب أن لا يفهم من ذلك بأن العقل المفكر والمبدع غير موجود في الساحة الثقافية والفكرية والعراقية، بل على العكس له وجود لكن وجوده ليس أساسياً في ثقافة العقل العراقي الجمعي، لكون الاطلاقية والسوداوية التي تحكم العقل العراقي الجمعي تسهم في اسقاط تلك الطروحات العقلانية التي لو ترك لها الأمر لاستطاعت أن تجتاز بالعراق هذه المرحلة المعقدة، التي هي اليوم مليئة بالتناقضات والجدليات التي تتطلب أدراكاً واسعاً وعملاً واعياً ومخططاً للتعامل معها، وهنا سوف نعمد إلى تقديم قراءة لبعض تلك الاشكاليات التي تكمن في الثقافة العراقية الحالية سعياً وراء إدراكها وإدراك طرق التعامل معها.

الثقافة العراقية: إشكالية التكوين

إذا فهمت الثقافة بصورتها المبسطة بأنها طريق وأسلوب في الحياة، وإذا فهمت بأنها تعبر عن نمط حياتي لمجموعة إنسانية، برزت إشكالية التكوين في الثقافة العراقية، حيث يعرف الشعب العراقي بأنه يمتاز بالتنوع الثقافي الذي يعكس في إحدى صوره حالة من حالات الرقي الحضاري، ولكن المشكلة الكامنة في التغييب الذي عاشته الثقافة العراقية المتنوعة وغابت معه امكانية الدخول في عمليات تكامل ثقافي، حيث عمد النظام المهزوم إلى السعي من أجل قولبة الثقافات العراقية في قالب واحد يعبر عن توجهاته، مما عرض الثقافة العراقية إلى حالة من المسخ الحضاري، حيث غيبت وتم تضييع بعض الثقافات الفرعية التي تصب في الثقافة المشركة، وأسهم ذلك من جهة أخرى في ولادة جيل لم يستطع أن يعي ويعيش حالة التمازج الحضاري، من هنا يكون التحدي المطروح أمام الشعب العراقي هو العمل على تفعيل آليات التفاعل الثقافي والعمل في ذات الاتجاه على أيجاد مشتركات عامة لمجمل الثقافات الفرعية بالشكل الذي يسهم في تكوين ثقافة عراقية تعكس هوية المواطن العراقي المعبر عن أمة العراق.

وإذا جاء التساؤل عن أبرز تلك الآليات والميكانزميات الثقافية التي ينبغي التوافر عليها لتحقيق ذلك!

نجدها تتعدد وتتنوع وفقاً للمرحلة والجهة التي تتصدى لتحقيق ذلك، وهنا نجد التعليم آلية بارزة كان النظام المهزوم قد وظفها بالشكل المقلوب لتشويه الثقافة العراقية، لكون التعليم يسهم في بناء العقل المعرفي للإنسان والذي عليه تقع القيادة، أي أن سلوك المنهج التعليمي والتربوي كآلية سوف يسهم في تكوين ثقافة معرفية عراقية مشتركة، هذا مع التأكيد أن تكون هذه آلية قد انطلقت من احترام التنوع الثقافي العراقي وسعت لتحقيق ثقافة تعبر عن تلك الثقافات الفرعية أي الوصول إلى ثقافة مشتركة تعبر عن الجميع.

أما الآلية الأخرى في هذا الإطار فيجب أن تتمثل في التأكيد على نسبية الحقيقة، وجعل النسبية أساساً في تكوين تلك الثقافة المشتركة، لكون الاطلاقية في امتلاك الحقيقة سوف لا تسهم في تحقيق ما نصبو إليه، وهنا يجب أن تقيد النسبة بالمشركات العامة، بهذا سوف نستطيع الجمع بين نسبية الحقيقة التي تعبر عنها كل ثقافة وبين نسبية الحقيقة التي تعبر عنها الثقافة العامة، بحيث نصل إلى حالة من التكامل والاندماج.

أما بالنسبة للآلية الثالثة فهي العمل على فسح المجال لكل ثقافة أن تعبر عن نفسها بحرية من خلال وسائل الاعلام وكذلك توفير الدعم للحفاظ على ثقافتها الفرعية والدفع بها لكي تصب في المجرى الرئيسي لنهر الثقافة المشتركة، بحيث نصل إلى حالة من التكامل النسبي بينهما.

هذه بعض من الآليات العديدة التي يمكن أن تسهم في إعادة بناء ثقافة عراقية متكاملة.

الثقافة العراقية: إشكالية الأنا

إذا كانت الثقافة العراقية تشكو التكوين فإنها تشكو الأنا العالية التي ترفض الآخر وتسعى إلى مصادرة حقه في الوجود، وهذه الإشكالية في الثقافة العراقية الحديثة نابعة من ممارسات النظام المهزوم الذي كرس هذه الثقافة لتتمكن من العمل على تشتيت المجتمع الواحد مقابل تكتل النظام حول أنا واحدة التي يمثلها، فيصبح هنالك نظام يمثل رأي واحد وثقافة واحدة وعرق واحد ومذهب واحد وعشيرة واحدة…الخ مما جعل العلاقة بين الموجودات الثقافية العراقية علاقة صراع وتسقيط متبادل لكل منهما، وهذا ما نجده الآن مطروحاً في الساحة العراقية حيث تعيش أطرافه في حالة من عدم الثقة المتبادلة بينها وسعي كل منها إلى جني مصالحه الجهوية على حساب المصلحة العامة، مما ادخل البلاد في حالة من عدم الاستقرار، هذا ما يجعل تحدي تجاوز هذه الإشكالية كبير يتطلب من نخبه المفكرة التصدي لها، والعمل على توعية مؤسسات المجتمع الرسمية وغير الرسمية بالشكل الذي يعزز المصلحة العامة مع التأكيد على مصالح كل جهة بالشكل الذي يسهم في تحقيق توازن بين المصلحة الخاصة والعامة.

من خلال هذا العرض المبسط والسريع لإثنين من إشكاليات الثقافة العراقية يتبين لنا أهمية الاهتمام الفعلي والعميق بدراسة الثقافة العراقية وأبرز التحديات الكامنة فيها أو الطارئة عليها التي تعيق حركتها بالشكل الذي يمكنها من أن تكون الاطار الضامن للتحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي يمر بها المجتمع العراقي بعد عودته إلى حركة التاريخ.