ردك على هذا الموضوع

ثقافة الطالب والأستاذ الجامعي

بعد مرور عام على سقوط النظام السابق

تحقيق: أزهار محمد عمران

 

تحاول هذه الدراسة إثارة جملة من التساؤلات المتعلقة بالثقافة الجامعية، (ثقافة الطالب والأستاذ الجامعي)، ومدى تأثرها بسلسلة المتغيرات السياسية والاجتماعية والثقافية التي حدثت وتحدث في العراق بعد مرور عام على سقوط نظام (صدام حسين)؟، وهل كان تأثير تلك المتغيرات عليها سلباً أم أيجاباًً؟ والى أي مدى بالإمكان توظيفها مستقبلا في بناء كوادر وطنية مثقفة وواعية قادرة على القيام بمهام مسؤولياتها تجاه وطنها؟

كل هذه التساؤلات سيتم الإجابة عليها في الاستبانة… لكن قبل ذلك لا بد من التعرض للثقافة في مدلولها العام، وماهيتها، وما هي المعارف التي تشملها، فهل هي متخصصة بعلم معين، أم أنها شاملة لجميع معارف الإنسان الأخرى؟

ولكي يتسنى لنا الوصول لإجابة واضحة لابد من القول ان الثقافة- بشكلها هي مدلولها العام- في عملية فكرية تعبر عن شعور وأدراك جوانب متعددة من الأحوال المادية، والسلوكية، والفكرية المتفاعلة بمقادير متباينة ومتطورة تبعاً لنسبة مكوناتها، وقوة فاعليتها، لأنها تأخذ من كل علم.

إذن الثقافة تشمل جميع معارف الإنسان في مختلف المجالات، وعلى مختلف المستويات لذلك فهي تعني الفكر بكل ما تنطوي عليه هذه الكلمة من معنى، لان الفكر كما هو معروف لا يقتصر على جانب دون آخر، فكل ما يتناوله الإنسان هو في عداد الفكر، سواء أكان ذلك في هذا المجال أم ذاك، وسواءاً كان مما يهتم به المثقفون أم يتداوله عامة الناس منهم.

لقد اتسع مفهوم الثقافة والمثقف بشكل خاص في فرنسا عام 1894 ليشمل (جميع الذين يشتغلون بالثقافة، إبداعاً، وتوزيعاً، وتنشيطا)، إذ عدت الثقافة عالماً من الرموز يشمل الفن والعلم والدين، وبذلك يكون المثقفون أولئك الذين يمكن أن تميزهم من خلال النواة التي تكوّن المبدعين والمنتجين من علماء وفنانين وفلاسفة وكتاب وبعض الصحفيين.

فالمثقف بهذا المعنى الشامل لا يتحدد وضعه بنوع علاقته بالفكر والثقافة، ولابكونه يكسب عيشه بالعمل بفكرةً دون يده، بل يتحدد وضعه بالدور الذي يقوم به في المجتمع كمشرع ومعترض ومبشر بمشروع على الأقل أو صاحب رأي وقضية، وهذا الدور يبين لنا خطورة المهمة الملقاة على عاتق هؤلاء المثقفين في بناء المجتمعات.

بعد هذه المقدمة المطولة قليلاً عن الثقافة والمثقف، لا بد من التذكير بأن روافد الثقافة في كل مجتمع هي اثنان :

1- التعلم الرسمي.

2- التعلم غير الرسمي.

فالنوع الأول من التعلم هو الذي تضطلع بمهامه الدولة أو النظام السياسي الحاكم لبلد ما. وهذا ما يتضح جليا في النظام التعليمي الرسمي في الوطن العربي الذي هو من مهام الدولة كما ذكرنا.

أما النوع الثاني من التعليم (غير الرسمي) فهو ما تضطلع بمهامه جهات غير حكومية أو رسمية.

ويجب أن لا يغرب عن البال، أن التعليمي في أي بلد من بلدان العالم، لا يكون نطاقاً قائماً بذاته، يعمل بمفرده، مجردا عن النظام السائد في البيئة التي ينتسب إليها، أنما يكون جزءا من مجموعة النظم الاجتماعية الخاصة بتلك البيئة، فهو يعمل معها، ويؤثر فيها، ويتأثر منها على الدوام، لذلك لا بد من القول أن تأثر الناشئة من النظم التعليمية يختلط عادة مع تأثرها بالنظم الأدبية والسياسية والاجتماعية التي ترافق النظام السائد، وتشاركه في التأثير، وكذلك تتأثر بتلك النظم نفسها بعد تغير النظام السائد، وهذا ما ستحاول الاستبانة توضيحه، إذ يعد النظام التعليمي أهم روافد الثقافة في المجتمع، لذا أُخذت عينتين من المثقفين، العينة الأولى كانت تضم (50) طالباً جامعياً، متقاربين في الأعمار والمستويات العلمية، إما العينة الثانية فقد كانت تضم (50) أستاذا جامعيا، أيضاً متقاربين من الناحية العمرية والفكرية، وأشرنا إلى الفئة الأولى بفئة (أ)، والثانية (ب) لسهولة البحث والاستبيان، وقمنا بطرح جملة من التساؤلات عليهم تتعلق بثقافة الطالب والأستاذ الجامعي بعد مرور عام على سقوط النظام السابق فكانت الإجابات متباينة من فئة لأخرى، وكذلك متباينة أحيانا داخل الفئة الواحدة وهذا ما سنحاول عرضه، مع بعض التعليقات المهمة التي نضعها بعد إجابة العينات على كل تساؤل.

التساؤل الأول: حاول هذا التساؤل البحث في الكيفية التي ينظر من خلالها إلى ثقافة الطالب والأستاذ الجامعي طوال أكثر من ثلاثة عقود؟

كانت إجابة الفئة أ- أجاب على هذا التساؤل 45 من أصل 50 طالب- ، أنها ثقافة هامشية وسطحية بالنسبة للطلبة والأساتذة.

أما الفئة (ب) فقد كانت إجاباتهم تصب في اتجاهين:

الاتجاه الأول: أشار إلى أن ثقافة الأساتذة الذين حصلوا على شهاداتهم في الظروف اللاعلمية التي أوجدها النظام السابق- ثقافة هامشية وسطحية، في ظل انقلاب الضوابط العلمية في منح الشهادات العليا.

الاتجاه الثاني: ثقافة عميقة وجادة للأساتذة الذين حصلوا على شهاداتهم في ظل الظروف العلمية التي كانت سائدة قبل ثلاثة عقود أو ممن حصلوا عليها خلال البعثات العلمية إلى أوربا.

ومع ذلك فإن كلا الفئتين كانوا منزوعي الرغبة والإرادة في التدريس خاضعين لإرادة النظام السابق الذي جعلهم معوزين مادياً واجتماعيا، ولم يقدر مكانتهم العلمية.

وهذا يؤكد لنا ما للثقافة من دور مهم في الإطار السياسي للمجتمع، فهي من أهم العوامل التي تؤثر في طبيعة النظام التربوي والتعليمي من حيث البنى والأهداف والمحتوى، كما أنها سلاح فعال في تجسيد الأهداف السياسية للسلطة لواقع عملي وممارسات فعلية.

وتفاعلاً مع العوامل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تسود في النظام الأكاديمي لأي مجتمع، والتي بطبعها التقلب وعدم الاستقرار، فأنه ومن البديهي أن يسعى أرباب السلطة والنفوذ في ذلك المجتمع إلى تعزيز سلطاتهم ونفوذهم فيه، والزيادة فيه في سبيل تطويع المثقفين لهم في مجتمعاتهم تلك، خدمة لمصالحهم السياسية.

وهذا يوصلنا إلى أن ثقافة الطالب والأستاذ الجامعي في عهد النظام السابق، كانت تحت تأثير جذب متغيرين أساسيين، كلٌ كان يشد في اتجاه معاكس للاتجاه الآخر تماما طوال العقود الثلاثة السابقة.

فأما الأول فهو ثقافة المجتمع باعتباره مجتمعاً عربياً عراقياً مسلماً بوجه عام له سماته التي تميزه عن غيره من المجتمعات، وأما الثاني فهو الثقافة التي عمل النظام السياسي السابق على تكريسها في المجتمع والتي كانت تركز على الولاء له، وقد أدى الضغط الشديد لشد كل منهما إلى تدهور الأولى وتعثر الثانية، وان بدت هي السائدة لسبب اضطرار الغالبية العظمى للتظاهر بها لتجنب الاصطدام بالنظام، فكانت النتيجة النهائية لذلك الشد عدم الالتزام بثقافة المجتمع عند حصول التغير، ورفض ثقافة النظام بزوال سلطته.

2- التساؤل الثاني: يسلط الضوء على الكيفية التي يمكن من خلالها قياس وعي الطالب والأستاذ الجامعي بالمتغيرات السياسية التي حدثت وتحدث في العراق، وهل هنالك قدرة لدى أولئك على المواكبة، والتحليل والاستنتاج وبالتالي النقد لمجمل هذه المتغيرات؟

كانت إجابة الفئة (أ) جميعها بأن هنالك وعي وسعي حثيث على المواكبة وإن كان ليس بالمستوى المطلوب.

أما إجابة الفئة (ب) التي اقتصرت على (40) أستاذاً جامعياً فقط، بعد أن رفض (10) من العينة الإجابة على هذا التساؤل- قد أكدت أن قياس وعي الطالب والأستاذ الجامعي بهذه المتغيرات السياسية، يكون من خلال تفاعله معها، وقد انقسمت هذه الفئة إلى مجموعتين:

الأولى: أكدت أن هذا التفاعل لم يأخذ مداه بعد، معللة ذلك لعدم استقرار الأوضاع بعد، أو بسبب حالة الاغتراب التي خلقتها سياسات النظام السابق، التي أفضت إلى ضعف واضح أو مشوه في أحسن الأحوال، ما خلا بعض الاستثناءات القليلة، على المواكبة والتحليل والاستنتاج، ومن ثم النقد الموضوعي لمجمل المتغيرات.

الثانية: أكدت أن هذا التفاعل أخذ مداه بعد سقوط النظام من خلال المساحة الواسعة للحرية التي بدأ كل من الطالب والأستاذ الجامعي التحرك فيها بعد سنوات من الكبت الطويل.

التساؤل الثالث: حاول هذا التساؤل معرفة مدى ثقافة الطالب والأستاذ الجامعي (كقيم سلوكية وليس وعي) بالمفاهيم التي يتم تداولها في وسائل الإعلام مثل (الديمقراطية، الانتخابات، الفيدرالية، الدستور، المجتمع المدني، التعددي، الإضراب، الاعتصام)؟

بالنسبة للفئة (أ) فقد أجاب 14 طالباً منهم بأنها ثقافة هامشية، و24 طالباً تحفظوا في الإجابة، أما الـ 12 الباقين فقد أشاروا إلى أنها جيدة إلى حد ما، وستكون أفضل مستقبلا.

أما فئة (ب) الخاصة بأساتذة الجامعة، فقد أشارت إلى أن هذه الثقافة كقيم سلوكية ضعيفة، ولا ترتقي حتى الآن للمستوى المطلوب أي مستوى الأحداث/ بشكل عام، أو التعامل مع تلك الطروحات بالشكل الذي يمكن أن يفضي إلى بناء مجتمع جديد، أو حياة سياسية صحية عبر المشاركة، في العملية السياسية.

وهنا يتبادر إلى الذهن تساؤل مهم جدا، هو إلى أي مدى كانت مشاركتهم في العملية السياسية سابقا، في ظل النظام السابق؟

إن الإجابة على هذا التساؤل تقودنا إلى استعراض آراء بعض الفلاسفة والمفكرين الغربيين المتعلقة بوظيفة التدريس والمثقف.

إذ يرى الكثير من المفكرين أن وظيفة التدريس تتمثل في بعدين: بعد في نوعيتها، وبعد متأصل فيها، إذ يرى مانهايم- Mannheim- في تحليله دور المثقف، أن على هذا الأخير أن يتعالى عن القوى السياسية المتصارعة، وعن المصالح المتضاربة، وان يضع نفسه من موقع محايد غير منتم بحفظه على نزاهته العلمية التي يستخدمها في تحليل الظواهر الاجتماعية وافتقادها دون تحيز لهذه القوة أو تلك.

وهنالك منظور آخر مخالف لهذا، كالذي نجده في نظرية غرامشي -Gramsei- الذي يرى أن على المثقف أن يضع نفسه ومعرفته رهن الصالح العام، بحيث تعبأ كل قدراته الفكرية وإبداعاته ومهاراته من اجل توعية الجماهير، وبذلك ينحاز انحيازاً عضويا لهؤلاء كطبقة.

ورغم الاختلاف الموجود بين هذين المنظورين في محتواهما وغاياتهما، فأنهما معا محددان أيضا بعوامل سياسية وأيديولوجية، وتمثل الجامعة والعاملون فيها تاريخيا، مجالاً محورياً في المجتمع، فهي لا تزال من المراكز الأكثر تسيساً وحساسية في هذا المجال (المجال السياسي). لذلك أصبح المثقف والأكاديمي بهذا المعنى غرضاً في عهد النظام السابق أو سلاحاً بيد السلطة السياسية التي كانت تنشر فيه مفاهيمها، وتفرضها عليه، بالشكل الذي جعله ينقاد وراءها دون أن يكون له حق الاختيار، وإذا ما أخذنا مسألة تعامل المثقف والأكاديمي مع المفاهيم التي يجري تداولها في وسائل الإعلام مثل (الديمقراطية والانتخابات، والفيدرالية، والدستور، والمجتمع المدني، والتعددية، والإضراب، والاعتصام) من منظور علمي- أكاديمي، سنجد أن السياسة السابقة للنظام البائد قد خلفت لنا طبقة من هؤلاء الذين عجزوا عن التعامل معها.

وفي هذا المجال لا بد أن نستذكر مقولة المفكر كوزر- Coser- حينما أكد بقوله (عندما يجري المثقف وراء السلطة ويوثق في عربتها، يفقد إحدى الخاصيات الأساسية والضرورية فيه، ويصبح مجرد تابع لها، وهذا ما يصيبه بالعجز…..).

ولأن الأستاذ الجامعي أصبح كغيره من المثقفين مجرد تابع للسلطة الحاكمة السابقة في العراق، فقد عجز اليوم عن التفاعل مع الكثير من هذه المفاهيم التي جرى ذكرها، حتى ان البعض منهم وصل به الحال إلى العجز عن معرفة مدلول المجتمع المدني، والفيدرالية.

التساؤل الرابع: يطرح لنا مدى قدرة الطالب والأستاذ الجامعي على التعامل مع وسائل الاتصال الحديثة، التي دخلت العراق بعد سقوط النظام، وأصبح الطالب والأستاذ أمامها وجها لوجه لأول مرة في حياته؟

حينما تم طرح هذا التساؤل على فئة- (أ) انقسموا أيضا إلى قسمين:

الأول: أكد على أن أغلبهم عاجزين على التعامل مع تلك الوسائل، كونهم لم يروها أو يسمعوا بها من قبل، وهي أن وجدت سابقا- فأنها كانت محصورة على طبقة من علية القوم، وبذلك لم تستغل بالمستوى المطلوب.

أما القسم الثاني: فقد تحمس للتعامل مع هذه الوسائط، مع استعداد كبير لتعلم كيفية استخدامها.

أما فئة (ب) فقد أنكرت وجود مشكلة حقيقية تعترض قدرة الطالب أو الأستاذ الجامعي على التعامل مع وسائل الاتصال الحديثة تلك. لان المجتمع العراقي- حسب رأي أصحاب هذه الفئة- معروف بكونه واحدا من أرقى مجتمعات المنطقة، وأكثرها قدرة على استيعاب التطورات الحديثة في مختلف المجالات والتكيف معها، ومن ثم التعامل معها.

ولا بد من القول أن وسائط الاتصال التي يشهدها عالمنا اليوم، ذات طبيعة متباينة، لذلك تلعب الأساليب والوسائل التربوية- باعتبار أن التربية أهم روافد الثقافة- دوراً مهماً في جعل تعامل الطالب والأستاذ الجامعي تعاملاً فاعلاً وعلمياً، يصب في خدمة الأهداف التربوية والثقافية في مؤسسة الجامعة، إذا ما تم توظيف تلك الوسائط في خدمة تلك الأهداف، وتعميقها في الوسط الجامعي.

فالتساؤل المطروح هنا، هو هل ستلعب هذه الوسائط دورها الفاعل في تغيير المجتمع، وتحريره من النظم التي كان مقيدا بها لأكثر من ثلاثة عقود من خلال المعالجة الجذرية والفعالة لكثير من المشكلات التي تعترض إصلاح المجتمع ثقافيا واجتماعيا، والبدء من مؤسسة الجامعة؟

فإذا ما تحقق ذلك يمكن القول إن فاعلية هذه الوسائط لن يكون باستخدامها فحسب، بل في توظيفها لخدمة الأهداف السابقة الذكر.

التساؤل الخامس: طرح هذا التساؤل ماهية آليات البناء الثقافي داخل الوسط الجامعي (كوعي وقيمة)، بعد عملية الهدم والتغير للأسس والمرتكزات السابقة؟

انقسمت فئة (ب) الخاصة بالطلبة إلى قسمين، الأولى: أكد أن وضع آليات للبناء الثقافي قد بدأت بالفعل، لكنها تسير بخطى بطيئة جدا، دون أن يذكروا شيئا عن تلك الآليات.

أما القسم الثاني من نفس المجموعة فقد قدم مجموعة من التصورات التي اعتبروا تنفيذها على ارض الواقع، سيسهم في تحقيق بناء ثقافي رصين داخل الوسط الجامعي، بعد عملية الهدم والتغيير للأسس والمرتكزات السابقة، وهذه التصورات كانت كالآتي:

1- القضاء على كافة الأفكار والمعتقدات التي كانت سائدة في عهد النظام السابق، وغرس أفكار وأيديولوجيات تربوية وثقافية جديدة.

2- الاعتماد على المعطيات الموجودة في الداخل، وترك الآليات المستوردة التي قد لا تتلاءم مع معطيات وظروف واقعنا العراقي، مع التأكيد على الاستفادة من تجارب الأمم والشعوب في هذا المجال.

3- التعريف بما هو متداول حالياً ثقافياً، من خلال تطوير ثقافة الفرد لكي يعي ما يدور ويجري حوله من متغيرات.

أما فئة (ب) فقد اجمعت على أن الآلية الرئيسة التي ينبغي أن ينصب عليها جهد المجتمع وقواه المثقفة والواعية بشكل خاص، في إيجاد ثقافة وطنية عامة شاملة لكل الثقافات الثانوية التي يزخر بها المجتمع العراقي بسبب تركيبته العرقية والقومية والاثنية المتنوعة، والنظر إليها على اعتبارها عناصر أساسية رافدة للثقافة الوطنية كقيمة ووعي وسلوك، التي ينبغي ان تقوم على أساس الولاء للوطن، واحترام حقوق وحريات المواطنين على حد سواء.

ولا بد من القول ان التغيرات الاجتماعية المتسارعة التي بدأت تتسع وتزداد في العالم، والتي أخذت تنال من المؤسسات الثقافية والاجتماعية على اختلاف أشكالها، والقيم والأخلاق والأيديولوجيات الأخرى، وسائر أنماط السلوك المادية والمعنوية السائدة في مجتمعاتنا العربية، ومجتمعنا العراقي، جعل الثقافة بالمعنى الأنثروبولوجي الواسع للكلمة- تتعرض أكثر فأكثر لهزات كبرى.

ففي العراق مثلا، أصبحت الثقافة عرضة للتآكل والامحاء، بعد سيطرة نمط واحد من الثقافة الطاغية طيلة أكثر من ثلاثة عقود، مما جعل المثقف العراقي بعد زوال النظام السابق يقف حائرا، أمام هذا التغير المتسارع الذي حدث في ثقافات العالم، بعد أن كان يعيش في عزلة مفروضة عليه.

لذا كان لزاما على المثقف العربي أن يتخذ مواقف دقيقة وصعبة حيال هذه التطورات، هدفها تحقيق إمكانية التكيف معها، وان يمسك بزمامها في آن واحد، بحيث يستوعبها، ويضبطها وفق حاجاته ومستلزمات تطوره، وبنية ثقافته الأصلية، كما أن للتربية الشأن الأكبر في هذا المجال، ولعل أهم ما يمليه هذا التغير الاجتماعي السريع هو أعداد الأفراد القادرين على سرعة التكيف، المالكين لروح المبادرة، القادرين دوما على تجاوز ذواتهم، وعلى الإبقاء على جوهرها في آن واحد.

كما يجب تحقيق جملة من الأمور الأخرى في هذا السياق:

1- الاهتمام بالثقافة الدائمة والمستمرة وطول العمر، من خلال التأكيد على انه لم يعد هنالك تعليم يتم مرة واحدة في العمر، والى الأبد، أو في سنين معينة، بل أحد التعليم- على حد قول عمرو بن العلاء- هو الحياة، ومثل هذا المطلب يفرض نفسه في عالم متغير فيه بنية المهنة والأعمال تغير سريعاً، فلا بد أن يقابل ذلك إعداد مستمر وتجديد مستمر للثقافات في شتى المراحل.

2- جعل التعليم الذاتي أساس الثقافة وجوهرها، ولا سيما بعد ذيوع التقنيات الإلكترونية الحديثة- أجيالها المتوالدة، بحيث أصبح في مقدور أي إنسان ومن واجبه أن يعلم نفسه بنفسه بشتى الوسائل.

3- الاهتمام الخاص بتكوين المواقف والاتجاهات الملائمة لعصر العلم والثقافة، مثل القدرة على التعامل مع التقنية الحديثة، وامتلاك روح الخلق والإبداع، وامتلاك روح التنظيم والتخطيط والقدرة على التعامل مع المواقف الجديدة، والقدرة على التعامل مع الآخرين، وامتلاك القيم الملائمة لعصر الثقافة، مثل روح الحوار وروح المسؤولية اللتين يشير إليهما المفكران الألمانيان هابرماس- Habermas- وهانس جوناس- Hance jonass.

4- إقامة نظام تربوي مرن، من خلال الانطلاق من حقيقة مهمة وهي أن النظام التربوي الثابت والجامد، قد مات والى الأبد في عصر التغير السريع، الذي شمل كل نواحي الحياة الثقافية والاجتماعية والعلمية.

التساؤل السادس: كيف ينظر الطالب والأستاذ الجامعي إلى ما حصل من تغير؟ خصوصا أمام هذا الانفتاح الواسع أمام وسائل الاتصال (أطباق لاقطة، نقال، مطبوعات).

كانت إجابة الفئة (أ) على هذا التساؤل أن الطالب والأستاذ الجامعي كانوا متلقين فقط لوسائل الاتصال، وفي النية أن يتحولوا في المستقبل القريب لمتفاعل ومنتج وبالتدريج.

أما الفئة (ب) فقد أشارت أنه إذا كان المعني بذلك طالباً أحداً أو أستاذا فإن المواصفات الواجب توفرها في كل منهم كونهم أكثر شرائح المجتمع وعيا وثقافة، أو هكذا يفترض أن يكونا فلا يمكن الجزم بان اهتمام الاثنين (الطالب والأستاذ) يتجاوز حدود الاستفادة من مصادر جديدة للمعلومات لتوسيع قاعدة المعارف بشكل عام، وتوظيفها من أجل رقي وتقدم المجتمع والوطن.

التساؤل السابع والأخير: يحاول هذا التساؤل معرفة الأثر الذي أحدثته تلك الوسائل في ثقافة الأستاذ الجامعي والطلبة وما الذي إضافته له في الوقت نفسه.

الفئة (أ) لم تجب على هذا التساؤل، بل اكتفت بالتعليق ان من المبكر الان طرح هكذا تساؤل، لعدم إتقان اكثر هؤلاء استخدام تلك الوسائل او التعامل بها، وفضلوا طرحه في المستقبل القريب.

أما الفئة (ب) فقد أجاب اغلب عناصرها- (49) شخص- على ان استخدامهم لتلك الوسائل قد أضاف لهم آفاقاً ارحب للاطلاع على ثقافة وعلوم وآداب الأمم والمجتمعات الاخرى، وقيمها وتجاربها، وهذه بحد ذاتها أمور هامة ومفيدة لإشاعة أجواء الحوار والتفاعل الحضاري بين الثقافات المختلفة، والذي يمكن ان يؤدي الى إشاعة السلام.

أما أثرها فيتوقف على درجة وعي الطالب والأستاذ وتربيته ونشأته ومقدار نضجه الثقافي والحضاري بشكل عام.

واستكمالا للنقطة السادسة، بوسعنا ان نوجز الآثار غير المباشرة لهذه الوسائل (أطباق لاقطة، نقال، مطبوعات).

تضع هذه التقنيات العلمية الحديثة الإنسان أمام كم هائل من المعلومات الغزيرة، ذات الطبيعة المتباينة، جعلت الإنسان في حيرة وتراخ واضطراب، وقد ينجم عن ذلك فقدان الثقة في كل منها.

هذه الغزارة في المعلومات التي تطرحها تلك التقنيات لا يمكن أن تكون ذات اثر إيجابي فقط، بل يتبلور انعكاسها السلبي على الفرد حينما تشكل عقبة أساسية في تكوين الشخصية، وبناء الثقافة الحقيقة بالتالي، فكل يوم، بل كل ساعة أخذت الحياة العادية تطرح (بما فيها من راديو وتلفزيون واسطوانات وصحف ومجلات ومطبوعات وانترنيت) أمام العقل البشري طائفة من المعلومات. هي أكثر مما يستطيع إن يستوعب ويعالج. وهذا طبعا يؤدي إلى زوال التأمل الذي هو أساس كل ثقافة حقيقية، بل ضمور التفكير الذي هو أساس كل نقد، ونضوب القدرة الإبداعية التي يملكها الإنسان بحكم تكوينه.

لذلك فان ثقافة اليوم، تلك الثقافة التي تتناقلها تلك التقنيات ثقافة يسيطر عليها، الاضطراب والشك، والموجهة في معظمها نحو التسلية والمتعة، ثقافة بعيدة عن أن يكون العلم أساسها ومنطقها.

وسيكون أثرها السلبي مضاعفاً على المثقف العراقي (الطالب والأستاذ الجامعي)، الذي خرج من عزلة طويلة، ليجد أمامه هذه الغزارة المعلوماتية التي عليه أن يقطع أشواطاً وأشواطاً ليلحق بها، مثله كمثل الشخص الذي كان محبوساً في غرفة مظلمة، وفتح بابها فجأة، فكانت شدة الضوء جدّ مؤثرةً في عينيه.