ردك على هذا الموضوع

سيكولوجيا التعامل

بين الإنسان والزمن

حسن الهاشمي

 

الزمن طبيعة سيالة متحركة، وهي أنات متصرمة تقاس بالثواني والدقائق والساعات والأيام والشهور والسنوات، وتختلف الأمم في اتخاذ انطلاقاتها الحسابية الآتية في فترات متباينة تبعاً لاختلاف المناسبات والأعياد والتواريخ المهمة في حياتها، وكل أمة تقتطع حقبة زمنية من هذه الطبيعة السيالة، وتجعلها منطلقاً لبداية تاريخها.

ولأهمية الزمن في تحديد مصير الإنسان، أقسم الله (سبحانه وتعالى) به في أوقات عديدة ورد ذكرها في القرآن الكريم كالفجر والصبح والضحى والليل والنهار، أما في سورة (العصر) التي ذكر المفسرون لها تفاسير متعددة، أنسبها هو ان (والعصر) قسم بالزمان وتاريخ البشرية، ولعل هذا التفسير يتماشى مع خسران الإنسان في الحياة إلا في موارد الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والصبر، وكل هذه الأمور ناتجة عن تقدم عمر الإنسان وتفاعله مع تلك الطبيعة السيالة سلباً أو ايجاباً.

ما هي المراحل التي يمر بها الإنسان للوصول إلى شاطئ الأمان؟

هل فكرت يوماً ان ترتقي سلم النجاح والعز والشرف والكرامة؟

كيف ومن أين تبدأ لإرساء صفحة الخلود في تعاطيك مع حياتك ودقائق عمرك؟

إذا أردت أن تبلغ الكمال وتنال التوفيق، فما عليك سوى ان تنفض عنك غبار الترهل والكسل، وترتشف من معنى الشريعة النابض، بنفس واثقة، وقلب مطمئن، ويقين صادق، لا يعتوره الشك ولا يظنيه اللغو. فالذي ينظر إلى الأمور بجدية وواقعية يرى ان الأيام تنجلي وتحلي معها أشياء كثيرة، كما أن الشمس عندما تغيب فأنها تغيب معها أشياء عديدة، وحينما تشرق على الأشياء، فإنها تشرق في زمن محدد، والأشياء تبعاً لذلك تنقسم من تفاعلها مع الشمس إلى ثلاثة أقسام، قسم يتأثر بها إيجاباً، فينمو وينتعش ويصلب عوده كالحيوان والنبات، وقسم يتأثر بها سلباً، فيبلى ويندثر وتذروه الرياح كالجماد والميتة، وقسم لا يتأثر بها لا سلبياً ولا إيجاباً كالاجرام السماوية الأخرى.

وهكذا الإنسان في تفاعله مع الزمن، فالبعض يتأثر به إيجاباً كالموفقين، والبعض سلباً كالمجرمين، والبعض لا إيجاباً ولا سلباً كالمتقاعسين، وما دام الإنسان يعيش على هذا الكوكب فلا بد من انتخاب أحد هذه المسارات الثلاثة بحركته القطعية، التي لها بالغ الاثر في تحديد مصيره في الحركة التوسطية.

ومن البديهي في القول ان اليوم الذي انصرم قد انصرمت معه كل الفرص التي تولدت على ضفافه، ولا يمكن إرجاع عقارب الساعة إلى الوراء لاستغلال الفرص الضائعة التي قد لا تعود إليه من جديد، وعلى الإنسان ان يوائم نفسه لاقتناص الفرص الجديدة الكامنة في حاضرهُ ومستقبلهُ، والاستفادة من تجارب الآخرين وعبر الماضين، لاستشراق المستقبل بكل وعي وصلابة واستبصار (الفرصة تمر مر السحاب، فانتهزوا فرص الخير) وسائل الشيعة ج16 ص84.

إذن فالزمن سنة الله سبحانه، التي بطبيعتها تغير أمرين: الظروف والأفراد، والذي يرنو إلى السعادة، ذلك الذي يتعامل مع الزمن ويتأثر به إيجاباً لا سلباً، ذلك الذي يتناول الحالة التغييرية في الزمن دونما إفراط أو تفريط، بل حسبما تقتضيه الحالة من ظروف محيطة، وأفراد في أطوار مختلفة وأزمان متعددة.

فمن الطبيعي ان تتعامل مع طفلك عندما كان صغيراً بكل لطف ورعاية وأبوة، ولكن كما ان الزمن يتغير، فان الطفل أيضاً يتغير ، وهل من المعقول، ان تعامل طفلك وهو في التاسعة من عمره كما كنت تعامله أبان طفولته؟ لا يجوز ان تعامله كذلك، بل عليك ان تحاسبه على تصرفاته الخاطئة، وترسم له آفاق المستقبل، وتبني له كل ما هو صالح ليتبعه، وكل ما هو طالح ليجتنبه، فكما ان الزمن يتغير فان الطفل أيضاً يتغير، ولكن حالات التغير في الطفل قد تكون للاحسن، وقد تكون للاسوأ تبعاً للتربية التي يتلقاها من الأبوين، وتبعاً للظروف المحيطة به، التي تتأثر بدورها تأثراً بالغاً بالزمن.

وطالما ان عجلة الزمن تتغير من جيل لأخر فأن الحقيقة التي لا غبار عليها ولا مناص منها، ان يكتشف الانسان التغيير الحاصل في نفسه أو في الاشياء ويكابد الاجندة المتمخضة عنها في مدياتها المتنوعة، ومن دون عملية الاكتشاف هذه، فأن السقوط سيكون حليفه والفشل سينتظره في نهاية المطاف، ولعله يدرك ان لكل زمن متطلباته، فالحياة تستبدل رجالها في كل زمان، ولكيلا يقف احدنا عائقاً امام تيار الزمن، عليه ان يتماشى معه ويتعاطى مع متطلباته، وإلا سوف يجرفه التيار من دون رجعة، فيكون في خانة المتقاعسين إن لم نقل في خانة أولئك الذين اعطوا لعقولهم اجازة مفتوحة تمتد إلى نهاية أعمارهم. والذي يدرك أن عوامل السعادة حاضرة في كل زمان ومكان، فأنه يقتنصها أينما حلت وارتحلت، يستغلها، يستثمرها، يتماشى معها، فالله (سبحانه وتعالى) خلق الحياة لسعادة بني البشر، ولكن كيف يتم ذلك؟. يتم كل ما ذكر بتنشيط وتفصيل العامل السيكولوجي المرشد للانسان في مديات نشوءه وتطوره وتقلبه في طوارق الاحداث وتقلبات العصر، فالحالة النفسية لدى الإنسان التي بدورها تتأثر بمجموعة من الحالات التربوية والاقتصادية والبيئية، لها بالغ الاثر في تحديد مسيرته أثناء تفاعله مع آليات الزمن المتحركة، فيمكن ان يوصلها إلى الاوج أو ان يلقي بها في الحضيض، ولا تتحقق موجبات العظمة إلا بعد استغلال الإنسان وقته استغلالاً حقيقياً في الامور النافعة، ويكون حريصاً على وقته كحرصه على درهمه وديناره.

لاسيما اذا عرف ان الوقت سلاح ذو حدّين ان لم يقطعه قطعه. وبما ان الدنيا مزرعة الآخرة، وبما ان الحياة حياة جدٍّ لا هزل، وبما انها عقيدة وجهاد وتطور وكدح وعمل، وبما انها حلبة تنافس وصراع وتكامل؛ فان الحكيم يسعى لكي يكون يومه الذي فيه افضل من امسه الذي انعدم، ومن تساوى يوماه فهو مغبون، فاغتنام الفرصة المثمرة، وتسخير الزمن السيّال في خدمة القيم والاخلاق والتطور والحضارة، هي بحق اهداف نبيلة لا يتوخّاها إلاّ ذو حظ عظيم.

ومادام الانسان في مقتبل عمره، باستطاعته ان يبني شخصيته، لانه منفتح وهو في اوج النشاط والحيوية، وليس أكثر انفتاحاً قلبه سوى صفحة بيضاء تتقبل العلوم من الآخرين بكل تواضع وشغف، اما اذا هرم فانه وبالاضافة الى الاندراس في جسده وفكره، يأبى غروره باقتباس المعارف من احد، ويبقى الى آخر عمره في مرتع الجهل والضياع (اغتنم خمساً قبل خمس… شبابك قبل هرمك) وسائل الشيعة ج1، ص114.

إن علاقة المرء بمفردات الحياة ليست علاقة مجردة بقدر ما هي علاقة خير أو شر، وبما ان الخير عادة والشر عادة، فالشاب الطموح مطالب بأن يعودّ نفسه على عادات الخير، وعندما يقحم نفسه على حالة ايجابية، فانه وبمرور الزمن تنطبع في شخصيته الحالة الايجابية وان لم تكن البداية ايجابية، فالعادة جاءت بتراكم العمل بمرور الزمن، وتركها يأتي بتراكم العمل ايضاً. والعظمة لا تتأتى للمرء إلاّ بعد ان يكابد مشاق الحياة ويتغلب عليها، كما قال الشاعر:-

ومن يتهيّب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر

فالمصلح والمفكر يعيش الصراع بين العطاء الفكري، الذي يتطلب الجهد والمتابعة والتقصّي، وبين الدعة والتسويف واللاأبالية التي تتوخاها النفس التي بين جنبيه، ونتيجة هذا الصراع بين الفكر والدعة، فان الانسان يبرز على الساحة ويتدفق عطاءه ايجاباً او سلباً بقدر تفاعله مع احدى هاتين الخصلتين، فاذا اتخذت ازاء محاربة النفس وهو ما يتطلب ارادة قوية، لانه الجهاد الاكبر بعينه كما وصفه الاسلام، فأنه يتسامى علمياً واخلاقياً على من سواه من بني البشر ، اما إذا ما انساق وراء لذائذ الحياة ودعتها، فانه يولد ويموت وكأنه لم يكن شيئاً مذكوراً.

وما أحلى تعبير الامام الهادي (ع) عندما شبّه الدنيا بسوق تجارة بقوله (الدنيا سوق ربح فيها قوم وخسر آخرون) تحف العقول ص361. فالخاسر ليس هو الانسان المطلق، بل الانسان المجرد عن الصفات الانسانية، وطريق النجاة من هذه الخسران المبين ما ذكرته الآية الثالثة من سورة العصر (إلاّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر).

فمادام عمر الانسان رأسماله في الحياة، ومادام نفسه- بفتح الفاء- خطاه الى اجله كما صرّح بذلك الامام علي (ع) في النهج الشريف، ومادامت ضربات قلبه تقرّبه من الموت والحساب، فحري به ان يستثمر رأسماله في مصانع الخير والموفقية والنجاح والسعادة، ليحصل على منفعة كبيرة وربح عظيم يفوق بكثير ما فقده من رأسمال محدود، اما اذا ما أتلف راسماله في اللغو واللهو وتوافه الامور، فذلك هو الخسران بعينه، وتلك هي الطامة الكبرى.

فالناس طائفتان لا ثالث لهما، هناك من ينفق رأسمال عمره مقابل الحصول على مال قليل أو كثير، على بيت صغير أو كبير، على أرصدة ضخمة من البنوك على سبائك ذهبية وأسهم في الشركات ، على قصور فخمة على سيارات فارهة، على منتجعات مطلة على البحر والغابات، ويكون همّه الأكبر في الحياة هذه الأمور لا غير، وهناك من ينفق رأسماله من أجل الوصول إلى منصب أو مقام حتى لو شيّد على جماجم الأبرياء وأشلاء البسطاء، وهناك من ينفقه في سبيل أهوائه وملذاته في أحياء الليالي الحمراء والغوص في متاهات الرذيلة والثمالة، واتخاذ عباد الله خولاً وأموالهم دولاً، والعبث بالمقدرات والقيم والنواميس، كما هو ديدن الطغاة على مر العصور والازمان، كفرعون ونمرود وقارون، وابو سفيان ومعاوية ويزيد، وهتلر وستالين وصدام، ومن لف لَفهُم ومن هو على شاكلتهم، وهناك من ينفقه على البرامج التافهة المخلّة بالاداب والحشمة والوقار، فيبدد دقائق عمره الغالية على الافلام المستهجنة والبرامج السقيمة التي لا تغني ولا تسمن من جوع تبثها معظم الفضائيات والكثير من شبكات الانترنيت.

ومما لاشك فيه ليست تلك الامور مجتمعة أو منفردة مؤهلة لأن تكون ثمناً لثروة العمر العظيمة، لكنها بحق خسران وارتكاس واندثار، بل ان الثمن الوحيد لثروة العمر رضا الله سبحانه (عز وجل) ومقام قربه لا غير، ولطالما دوّى صوت العدالة الانسانية من فم الامام علي (ع) ملفتاً انتباه البشرية قاطبة (أنه ليس لأنفسكم ثمن إلاّ الجنة، فلا تبيعوها إلاّ بها) نهج البلاغة- الكلمات القصار.

إنه لتنظيم رائع في علاقة العبد بربه،يتيح له الاستفادة الصحيحة من النعم الالهية التي تجلب السعادة الحقيقية للانسان في الدنيا والآخرة، والاستفادة الصحيحة للمسكن والمأكل والمنكح والملبس والترفيه والتكنولوجية السمعية والبصرية.. الخ شريطة ان لا تضر بالجسم والدين، ولا تكون على حساب الآخرين. ولا تنزل الحيف والضرر بهم، طبقاً لقاعدة (لا ضرر ولا ضرار في الاسلام).

وفي هذا الاطار، فإن الله (سبحانه وتعالى) يبارك في عمر الانسان، ويجعل له مخرجاً في كل اموره، ويرزقه من حيث يحتسب ومن حيث لا يحتسب، ومن جهة اخرى يشتري رأسمال عمر الانسان اذا ما صرف في سبل الخير، حتى لو كان ذلك الراسمال قليلاً (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره) الزلزلة7، ويدفع مقابل ذلك ثمناً عظيماً يبلغ أحياناً عشرة اضعاف واحياناً سبعمائة ضعف واحياناً أكثر، تبعاً لنية العبد واخلاصه في عمله (مثل الذين ينفقون اموالهم في سبيل الله كمثل حبة انبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء) البقرة: 261 ومن جهة ثالثة فان كل رؤوس اموال الإنسان وثرواته قد وهبها الله أيّاه، والله سبحانه بفضله ومنّه ولطفه يعود ليشتري هذه الثروات نفسها بأغلى الاثمان (ان الله اشترى من المؤمنين انفسهم واموالهم بان لهم الجنة) التوبة: 111.

نخلص في ذلك كله إلى أن انفاس عمر الانسان اذا ما صرفت في عبادة الله وخدمة الخلق، سيؤول ذلك الى صقل الروح لتناغم مع مقررات الحياة بكل حكمة واطمئنان وبصيرة، يؤدي إلى صفائها وسموها في مدارج العلو والكمال والفضيلة، أما إذا ما أهدرت تلك الانفاس الثمينة في الرذائل السفسطة والخواء، فان الانسان وبمرور الزمن سيتحول الى حيوان كاسر او ضال ومضل مثله كظمآن يلهث وراء السراب ظناً منه انه يطلب الماء وما هو بطالبه.

والملاحظة الجديرة بالنظر والاتباع ان نفهم انفسنا وموقعنا في تلك الطبيعة السيّالة في حياتنا، ومن ثم نسعى جاهدين باصابة سهم الزمان كبد التطور والتقدم والازدهار والسعادة ولا يتم ذلك الا بعد أن يحدث الزمن انقلاباً حقيقياً في أنفسنا والأشياء والافراد.