ردك على هذا الموضوع

كتابات الجدران

تحقيق: علاء حميد
 

المنغمس يوميا تحت ضغط أزمة الازدحام، سواء كان سائرا أو راكبا في داخل إحدى وسائط النقل في شوارع مدينة بغداد، تلك الأزمة التي تفترس انسيابية شوارع المدينة وتحجم رغبة التواصل واللقاء سوف تصطدم عيناه، بكثرة الكتابات التي باتت تشغل وتحتل مساحة كبيرة من الجدران والأمكنة العامة، وبالتالي أصبحت تلك الشعارات لوحة إعلانية بالمجان توفر الحضور المستمر الذي يكشف عن وجود فئات اجتماعية تحاول تسليط الضوء عليها وحصر زاوية النظر نحوها ورفع شدة الانتباه إليه من أجل بيان أهميتها وقدرتها على تصنيع الزخم الاجتماعي والسياسي الحامل للإمكانية المشاركة في رفد حركة اندفاع الحراك الاجتماعي، ولكن هناك ثمة نقلة جديدة في محاولة تلك الفئات الاجتماعية المهمشة في حجز مكان حضورها بين الفاعليات السياسية اليومية، وهذه المغايرة المختلفة هي أن الجدران ظلت تحمل صفة المنعة والحفظ والستر والإخفاء، لذلك تطلق الجدران اليوم عملية إبدال وكسر لصورة الواقع الاجتماعي بعيدا عن قيوده وانضباطاته المترسبة نتيجة التدعيم السلطوي السابق من خلال الكتابات الموجودة عليها، بحيث مارس الجدار صفة متحولة توفر للفئات الاجتماعية، آلية الخروج من حالة الإخفاء إلى حالة العلن، أيضاً خلقت (كتابات الجدران) جغرافية للفصل والتنويع على ضوء مضمون المحتوى الكتابي لذا ساهم هذا التنويع الفرز المكاني، في تكوين وإنتاج دليل شعاراتي مكاني، يعرف المنطقة والحي والشارع ويحدد انتماء المكان سياسيا وثقافيا، لذلك يأتي التساؤل عن الحافز المؤثر الذي دفع إلى كثافة نمو هذه الظاهرة كأن هذا التساؤل هو إحالة تأملية تتفحص المرحلة السياسية التي يمر بها البلد ونوعيتها. إننا لانستطيع اٌلإنفلات من ضخامة الترابط والتشابك الفعال بين سلوك السلطة السياسية السابقة وخصوبة تواجد ظاهرة شعارات الجدران.

لقد عملت المؤسسة السياسية السابقة على التخزين والحصر المستمر إزاء تلك الفئات الاجتماعية المحرومة والمبعدة عن الحضور في الدائرة السياسية والاقتصادية الأمر الذي أنتج فعالية تمردية قابلة للازدهار الدائم يعاكس انتظام البناء الاجتماعي العام، إن الوقوف أمام بروز ظاهرة كتابات الجدران، يقوي لدينا احتمالية أن هذه الفئات المعزولة لم تستطيع امتلاك وانجاز قناة إعلامية رسمية لديها القدرة على التحاور والتأثير على السلطة، لهذا جاء الجدار كبديل يعوض العجز والاختلال الحاصل في صياغة خطاب إعلامي يستفز اهتمام السلطة ومؤسساتها بتلك الشرائح المنسية، لقد بينت المضامين الدلاليةلكتابات الجدران خلفية الامتناع الحاصل والنجاح في بناء المطلب الإعلامي المؤثر بالتوقف عند المضامين الكتابية وخاصة الشعارات غير المنتظمة التي ظهرت لتعبر عن عمق رسوخ الثقافة الشعبية كإطار مرجعي يتذوق من خلاله تداعيات المشهد السياسي الراهن.

إن الثقافة الشعبية والجدران يتحالفان في عدم الخضوع للقواعد والقيود المتحكمة في مسألة النشر والكتابة، فالجدار للجميع وساكن مع الجميع ويقرأ من قبل الجميع. لقد فشلت السلطة السياسية السابقة في إيجاد كيفية التعامل وتأهيل الثقافة الشعبية. والعمل على ارتقاء بها عبر النظر إلى مهملات تلك الثقافة وإدخالها في بلورة فكرية ثقافية تقلص مسافة اغتراب الثقافة الشعبية عن المشروع السياسي. لقد جاء الفشل التنموي بسبب اختيارات العملية التنموية لزاوية نظر خاطئة تتعامل بها مع الفرد بالإرتكاز على رؤية السلطة للمواطن وليس بالاقتراب من رؤية المواطن إلى السلطة، ولكن مع قوة وجود تلك الشعارات الجدارية غير متسقة والقريبة من متخيلات المواطن العادي في نفس الوقت، حضرت ظاهرة الكتابات المنتظمة على الجدران من اجل القيام بالتغطية على سعة مساحة الكتابات الشعبية، إننا نلاحظ أن نصوص الكتابات المنتظمة جاءت لكي تشير إلى ثمة مشروع سياسيً وثقافة سياسية تتقاطع مع الثقافة الشعبية في قدرة الانجاز والتواجد والتحقيق. إنها لغة السلطة الجديدة المتكونة عن طريق الإعلام الرسمي والحزبي والسلوك السياسي المبرمج، الذي يحاول استيعاب الثقافة الشعبية وتوظيفها في تثبيت أهدافه السياسية مما يجعل كلمات كتابات الجدران غير المرتبة تصدياً مبعثراً يومئ إلى إنتاج انضباطية جديدة مازالت غير منفكة في ذهنية المواطن العادي عن تاريخ ممارسات الانضباطية السابقة المستبدة، إننا نعيش لحظة التقابل الثقافي بين شعار الهامش المجزء في ثنايا الموقف السياسي الذي تؤسسه تلك الفئات الاجتماعية. الأمر الذي يؤدي إلى عدم مركزة الفعل السياسي الهامشي بينما حين نتقابل مع انجازية المشروع السياسي المنضبط بأولويات المصلحة السياسية، نشعر أن هناك اهتمام بكل جزئيات صياغة الشعار والكتابة على الجدران من اللون والشكل والمضمون والمساحة المشغولة لقد صار الجدار صحيفة للباحثين عن حقهم ضمن أجندة التنمية المشوهة. واللحاق بتسارع انتقال إيقاع العمل الاقتصادي الذي أمسى يفضلهم (من الفضلة) ويدفع بهم إلى أقصى مكان يطرح فيه فائض المصنوع المستهلك. إنهم فضلة بقايا التآلف الاجتماعي والاقتصادي إذن نحن نعيش صراع صمود الثقافة الشعبية المحصورة بين هيمنة الثقافة السياسية وسرعة حركة الثقافة العابرة لكل الخصوصيات المحلية. فاليوم هناك تقليص مندفع لكل الانتماءات الشعبية وصهرها في نموذج يعتمد على الوفرة، الاختصار الذي يهمش العمل اليدوي والحرفي الحاضن الاقتصادي لتلك الفئات الاجتماعية المقصاة ويجعلها تحت سيطرة العرض والطلب نموذج الوفرة والسرعة، مما يضع الجدار كتحدٍ أمام الحاجة التكيف السياسي الموجه نحو تلك المجموعات، والعمل على إدخالهم تحت سيطرة متطلبات أكراه السلطة المؤسسة. هكذا تحدد السلطة ضريبة المشاركة والانتماء من خلال إهمال ازدياد سطوة ظاهرة الفراغ والجوع، لكن تصبح هذه الظاهرة المشغل الذي يستدرج تلك الفئات الاجتماعية ويشتت عليها نقاط الحضور المناسب في حركة المجموعات الاجتماعية الفاعلة، سوف تبقى كتابات الجدران تحمل ثنائية الحضور - الغياب الواقع تحت مستوى أهلية الدولة في استيعاب وتحشيد هذه الفئات المتحفزة في دعم مشروعها الوطني الذي يتذكر دائما أن التنمية كسياق للازدهار يكشف بواسطتها مجتمع ما لنفسه الإمكانيات التي يخفيها ولا يعرف كيف يوظفها في خدمة الصالح العام.

هكذا هي الثقافة الشعبية حائرة إمام ترتيب أولويات المطلب الاجتماعي كما أنها مازالت واقعة تحت مسألة اختفاء المفاهيم المعبرة عن حقيقة الوضع الاجتماعي المتوازن حيث لم تصل بعد للتفريق بين الحاكم والشعب (صدام = الشعب إذا قال صدام قال العراق) إن الحاكم هو الشعب : (الله، الوطن، صدام / الشعب)