ردك على هذا الموضوع

كيف نصنع المستقبل؟

الاستاذ سليم فرحان *

 

كلمة المستقبل تشير إلى الخوف والقلق و التساؤل وذلك لأن الإنسان لا يعرف الغيب، فالمستقبل يثير التساؤل عن شيء غير معروف أي العمل من أجل الزمن القادم لذلك تتداخل في دراسته حركة التاريخ والمجتمع وتتشابك في إطارها معادلات الماضي والحاضر والمستقبل، على أساس أن البدايات تلد النهايات، والنهايات تؤشر البدايات، وما بين البدايات والنهايات وجود متحرك قيمته بتكوناته وإبداعاته، وبذلك فان الماضي يشير إلى الزمن الذي انقضى فلم يعد له وجود أما الحاضر زمن يتحقق وهو في طريقه إلى الانتهاء والانقضاء، بينما المستقبل زمن لم يتحقق بعد وما زال يفتقر إلى الوجود، وقبل الولوج في صلب الموضوع المراد بحثه لابد من توضيح بعض النقاط المهمة في فهم المستقبل:

أولاً: المستقبل (النشأة والتطور)

يرجع تاريخ الاهتمام بالمستقبل إلى البدايات الأولى للتطلع البشري إلى المعرفة الشاملة بالكون وإستكناه غوامضه وأسراره، حيث لاحظ الإنسان البدائي ما حوله من مظاهر الطبيعة وغرائبها وتضاريسها وزلازلها وحركة كواكبها، وعجائب الحيوان والنبات، ثم لاحظ ذاته فوجدها فضاء مليئا بالتساؤلات التي تتزاحم وتتراكم، كلما تقدم الزمن وتوغل أكثر في تجاربه مع الطبيعة ومع أخيه الإنسان، وفي لحظات الوعي والتأمل راح يتجه نحو ذاته ليؤلف ويربط بين الأحداث والظواهر المتكررة ليخرج بنتائج جديدة، لكنه بقي في حيرة أمام المستقبل المجهول الذي يشعر بأنه قد يداهمه بالمستجدات، وعندها لا يجد سبيلا للخروج منها، وقد شكل هذا التفكير والمعانات كابوسا خياليا لا ينفك عنه، ورأى انه لابد من التوقف عنده ودراسته، كما تحسب لاحتمال تعرض جهوده وأمجاده وما يؤسسه اليوم للانهيار غدا، وبهذا استنفر قواه الداخلية وعاش حالة من الترقب والحيطة والحذر، ثم اخذ يبحث عن وسائل وخطط لتامين مستقبله.

وعليه فان جميع الدراسات التاريخية والأثرية تشير إلى اهتمام الإنسان بالمستقبل منذ زمن بعيد جدا، والسبب في ذلك هو أن الإنسان الكائن الوحيد الذي يتوافر على إحساس ذاتي بالمستقبل، لكن العلاقات التي ربطت الإنسان بالمستقبل تأثرت بنمط التفكير الذي ساد في كل مرحلة من المراحل المختلفة خلال الأزمنة المنصرمة أولا وتأثر بالموجات الحضارية التي شهدها الإنسان ثانيا، فالتفكير كان تفكيرا غيبيا ثم تحول إلى تفكير ديني بعد ذلك تحول إلى تفكير فلسفي ثم استقر عند التفكير العلمي، أما الموجات الحضارية فالعلم يتحدث عن موجات حضارية ثلاثة هي (الزراعية والصناعية، وما بعد الصناعية - عصر المعلومات -)، وتصنف المجتمعات وفق هذه الموجات إلى المجتمعات الماضية والحاضرة والمستقبلية، الكلام عن أنماط التفكير والموجات الحضارية كثير لا نستطيع حصره في هذه الوريقات القليلة.

وهكذا نجد الاهتمام بالمستقبل أصبح يتطور تدريجيا حتى أصبح علما قائما بذاته في البدايات الأولى للقرن العشرين، وكان من أهم الأمور التي دفعت بعلم المستقبل إلى أمام هي الرصيد المعرفي الهائل والمتراكم من الناحتين الكمية والكيفية- الكمية، حجم المعلومات الذي أصبح يتضاعف بصورة مستمرة وخلال فترات زمنية قصيرة جدا، أما الناحية الكيفية، فيقصد بها طرق معالجة المعلومات التي أصبحت أكثر تطورا نتيجة التطور في المجالات العلمية والتكنولوجية. حيث دخل الكمبيوتر وشبكات الانترنيت والأقمار الصناعية.....الخ، التي أصبح لها الدور البارز في سرعة معالجة المعلومة من ناحية والقدرة على خزن المعلومات وإمكانية استرجاعها في أي وقت وبوقت قصير جدا من ناحية أخرى، وهذا خارج نطاق قدرة الإنسان أصلا.

ثانياً: سمات المستقبل

لعلم المستقبل مجموعة من السمات و الخصائص التي تميزه عن غيره من العلوم الأخرى وبما يلي:

* يعتمد علم المستقبل بصورة أساسية على العقل مقترنا بالخيال والعاطفة والحدس، ومعنى ذلك أن الأرض الأساسية للتفكير المستقبلي هي ارض الوقائع والمعطيات لا ارض الأوهام والتخيلات.

* وعي المشتغلين في هذا العلم وعيا تاما بأهمية الزمن، فهم يدركون إن لمشكلات اليوم جذورا في الماضي وان تلك المشكلات لا تنشا بين يوم وليلة وإنما تتكون تدريجيا وبصورة لا يلحظها غالبا الإنسان العادي.

* إن المستقبل زمن لم يحدث بعد، وانه حادث لا ريب، وانه لا تتوفر بشان طبيعته إلا معلومات ناقصة ولا يمكن لهذه المعلومات إلا أن تكون كذلك.

* إن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يستطيع ممارسة التأثير في تكوينه أو تشكيله.

* إن المستقبل لا يقترن بصورة واحدة وإنما بصور متعددة.

ثالثاً: تقسيمات المستقبل

هناك خمسة تقسيمات للمستقبل مأخوذة حسب الفترة الزمنية التي يتم إشراف المستقبل بشأنها وعلى النحو الأتي:

المستقبل المباشر ويمتد من عام إلى عامين من اللحظة الراهنة.

المستقبل القريب ويمتد من عام إلى خمسة أعوام من اللحظة الراهنة.

المستقبل المتوسط ويمتد من خمسة أعوام إلى عشرين عام من اللحظة الراهنة.

المستقبل البعيد ويمتد من عشرين عاما من الآن إلى خمسين عاما.

المستقبل غير المنظور ويمتد من الآن إلى ما بعد الخمسين عاما وأكثر.

رابعاً: كيف نصنع المستقبل؟

إن الحاجة لبناء المستقبل الذي يكون أفضل من الماضي وأفضل من الحاضر هو حاجة ضرورية، لان الإنسان يتطلع دوما وأبدا إلى المستقبل الأمر الذي دفع الإنسان إلى استقراء المستقبل وصناعته على وفق ما يريد. وبذلك وظفت العلوم الطبيعية والفلسفية لخدمة الأغراض الإنسانية بشكل عام وأغراض السياسة وحماية النخب ونظام الدولة بشكل خاص. وكان علم المستقبل احد تلك الفروع التي طالها التوظيف السياسي لشدة حساسيته، وعلاقته بأغراض الصراع والعمل العسكري والسيطرة على الشعوب الفقيرة- ففي الولايات المتحدة الأمريكية التي تعتبر من أكثر الدول اهتماما بهذا العلم، نجد سنة 1970 إن عدد الهيئات الأمريكية الأساسية المتخصصة بالدراسات المستقبلية قد بلغ (386) هيئة ولم تقتصر هذه العناية الأمريكية بعلم المستقبل على ميدان واحد من ميادين المعرفة، بل شملت جميع العلوم الأخرى، كالسياسة والاجتماع والاقتصاد والإدارة.....الخ، وقد سخرت قواها التكنولوجية والبشرية والمخابراتية لدعم هذا الاختصاص، إن هذا الانهماك المتزايد بالدراسات يكشف حجم المحاولات الرامية إلى استعمار المستقبل والانتقال من استعمار الأرض إلى استعمار الزمن، وهذا ما روج له العديد من الباحثين الأمريكان في كتاباتهم المستقبلية أمثال صاموئيل هانتغنتون في كتابه صدام الحضارات، وفرانسيس فوكوياما في كتابه نهاية التاريخ والإنسان الأخير.

من خلال ما تقدم يتبين لنا أن هناك توظيف سياسي للمستقبل لكن هذا التوظيف لا يتم على أساس تأملات أو تخيلات وإنما ينشـأ علـى أساس واقع موجود، هذا الواقع محكوم بمجموعة من القيود أهمها:

* قيود طبيعية: متمثلة بحجم الموارد المتاحة للمجتمع.

* قيود اجتماعية: متمثلة بالبنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والحضارية السائدة في ذلك المجتمع.

* قيود خارجية: وافدة على المجتمع نتيجة علاقاته المتعددة مع مجتمعات أخرى.

هناك قيود يتعذر تجاوزها في المستقبل المنظور والبعض الأخر من خلال الدراسة من الممكن التوصل إلى تجاوزها.

قيود متعلقة بصانع القرار الذي اتخذه باسم الشعب والمصالح التي يمثلها ودرجة وعيه بها ونتائج قراراته المتشابكة وأثرها على المدى البعيد على الداخل والخارج.

كل هذه الاعتبارات توضح أن المستقبل أصبح يدرج في عداد المباحث العلمية القابلة للتنسيق والتعليل الذين يتصف بها سائر العلوم الأخرى.

وتأسيسا على ما تقدم يمكن القول بأن بلدان العالم الثالث التي تعاني من قصور في ميدان الدراسات المستقبلية لاسيما السياسية منها نتيجة التفرد في اتخاذ القرار وعدم السماح لأي جهة استشارية سواء كانت حكومية أو غير حكومية، أكاديمية أو مؤسساتية إبداء رأيها في أي موضوع الأمر الذي جعل الدراسات المستقبلية تعاني من التأخر والقصور ومن اجل النهوض بمثل هكذا دراسات فنقترح الأتي:

الاستعداد للمستقبل يتوقف على القناعة لدى الإنسان في التخطيط للمستقبل بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وإن البشر نوعان، نوع يرى أن المستقبل مرسوم ومكتوب والإنسان يسير دون تحكم من قبله بالمستقبل، والنوع الثاني من البشر يرى انه من الممكن التحكم به على وفق مما يرى الإنسان، وان هذا الأمر يتوقف على حضارية الإنسان في رؤيته للحياة والثقافة والفكر الذي يمتلكه.

لا يمكن لأي عمل مستقبلي أن ينمو ويتطور وسط الاضطراب وعدم الاستقرار لان الاضطراب وعدم الاستقرار يمثل عامل شلل للخطط المستقبلية، لذلك العمل من اجل المستقبل يتطلب مؤسسات مستقرة تؤمن في الوقت ذاته قيادة حازمة والقبول الديمقراطي للرأي، وعلى هذه المؤسسات أن تسعى لتعليم الجماهير الأمر الذي يخلق نخبة حقيقية مؤمنة بذلك وهذه مسالة ضخمة وحاسمة في النهاية.

يجب التشجيع على فتح مراكز بحوث متخصصة بالدراسات المستقبلية سواء كانت حكومية أو غير حكومية من شانها رفد صانع القرار السياسي ببعض الدراسات المستقبلية التي يمكن الاستفادة منها عند وضع التصور العام للمستقبل.

بناء المستقبل يتطلب اختيار الوسائل الملائمة التي ينبغي اتخاذها في كل مرحلة لتحقيق الأهداف النهائية ولتجنب الاحتمالات التي يخشى الوقوع بها وهذا الأمر يستند على كمية المعلومات المتوفرة، لذلك عند بناء المستقبل لابد من توفير قاعدة عريضة من المعلومات المتراكمة حول البيئة الداخلية والخارجية والماضي والحاضر وتحليلها تحليلا علميا دقيقا وفي ضوء ذلك وضع خطة عامة للمستقبل.

يجب على المتخصصين في صناعة المستقبل أن يكونوا على درجة عالية من التعقل والحكمة وبعد الرؤية.

عند بناء المستقبل يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار مستوى قوة الدولة وحدود امكاناتها، وفي ذلك تصاغ الخطط.

التعامل مع المستقبل يتطلب حذرا شديدا مـن قبل المختصين لما للموضوع من تداخلات وتشعبات كثيرة واحتمالات عديدة، حيث إن بعض الباحثين يصفون المستقبل بحقل ألغام لابد من التعامل معه بدقة عالية.

*رئيس القسم السياسي

مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية