ردك على هذا الموضوع |
حول التشدد الديني |
د. عقيد العزاوي |
تعاني مجتمعاتنا العربية الإسلامية من موجات التشدد التي تختلف قوة من مجتمع إلى آخر، وتتخذ مظاهر مختلفة، وتتصدى هذه المجتمعات لمشاكل التشدد عن طريق وضع حلول عدة لها، وهذه محاولة لإلقاء الضوء على مظاهر التشدد الديني وبيان أسبابه وطرق معالجته. والمقصود هنا المبالغة والغلو في غير موضعه وفرض الرأي على الآخر وإساءة الظن به وتأثيمه، وقد يصل الأمر إلى تكفيره. ومنهج الإسلام الذي يقوم على اليسر ورفع الحرج والبعد عن التعسير يرفض التشدد. ونصوص القرآن والسنة و تؤكد أن المرونة واليسر من العناصر الأساسية في المنهج الإسلامي وذلك لعدة اعتبارات: 1- كون النصوص التشريعية محدودة، والمستجدات الحياتية محدودة، والمسكوت عنه من الأحكام أكثر بكثير من الأحكام المنصوص عليها. 2- كون معظم النصوص ظنية الدلالة، قابلة لتعدد الآراء وحمالة لأوجه من الفهم والاجتهاد. 3- كون الإسلام صالح لكل زمان ومكان، والمقصود هنا الأصول والثوابت. 4- كون الرسول (ص) جاء لرفع القيود والأغلال عن الأمة لإسراف من قبلنا في التشدد والابتداع في الدين. كل هذه الاعتبارات تحتم المرونة والتيسير وإلا وقعت الأمة في حرج شديد، ووقع الفرد المسلم في تأزم نفسي بين تكاليف دينه ومتطلبات حياته وعصره. ثم إن التشدد مخالف للفطرة الإنسانية ومناقض لقاعدة أساسية في الإسلام وهي أن الأصل في الأشياء والأفعال والتصرفات الإباحة، بينما التشدد ينطلق من قاعدة الأصل في الأشياء الحظر والحرمة. والملاحظ في أمر التشدد مظاهر أربعة هي: 1- إن التشدد آفة المجتمعات الإسلامية قديما متمثلا في الخوارج وفهمهم المغلوط للدين، وحديثا في الجماعات المتشددة، غير أن تأثير التشدد قديما كان محدودا والفتنة كانت محصورة، بعكس ما هو ظاهر الآن من انتشار موجات التطرف في المجتمعات الإسلامية وبخاصة بين الشباب، حتى ليصل في بعض المجتمعات إلى صدام دموي بين الجماعات نفسها، وكذلك بينها وبين الأنظمة. 2- إن التشدد لو كان محصورا على ثوابت الدين وأحكامه الأساسية وقضايا المجتمع الرئيسية في الحرية والعدالة والشورى، وفي التنمية والتحرر، لكان أمرا محمودا ومطلوبا، أما أن يكون التشدد في الفرعيات والخلافيات والتوسع في الحظر والتحريم وشغل الناس بأمور جانبية وإثارة المعارك حول الخلافيات العقيمة كفرض النقاب، وتقصير الثياب، وحرمة التصوير، وعمل المرأة في المجتمع ووضعها الاجتماعي والاختلاط، فهذا غير مقبول في الإسلام، لأنه يصرف الجهود في قضايا فرعية بدلا من توجيهها لبناء المجتمع القوي المنتج. 3- إن التشدد ولو كان مقصورا على أهله دون أن يتجاوز ذلك إلى فرضه على الآخرين لما كان الأمر مثارا للاعتراض، بل قد يُحمل في بعض الحالات على باب الورع، وأما أن يستخدم أهل التشدد سلطتهم ونفوذهم لفرض رأيهم دون اعتبار للآخرين، بل يتجاوزون إلى التشكيك في عقائد المخالفين لهم والتفتيش في ضمائرهم، فهذا خروج عن المنهج الحق. 4- وكذلك يلاحظ في أمر المتشددين أن الأقوال تناقض السلوكيات والأفعال، مخالفة لتعاليم الإسلام، فتجد الغلظة والصلافة والتجهم في تعاملهم مع الآخرين، وتجدهم في مواطن الإنتاج والعمل وحقوق الناس متساهلين مفرطين. وللتشدد أسباب وعوامل مساعدة هي: 1- مع أن معظم المتشددين عاطفتهم الدينية طاغية، فإن وعيهم محدود وثقافتهم الدينية ضحلة، هي ثقافة قشرية ومظهرية، فلا فقه صحيحا لهم في أمور الدين، ومعظمهم لم يدرس دراسة شرعية نظامية، وزادهم العلمي الثقافي مستمد من كتيبات وأشرطة تُروج في بقالات ومحلات وعلى أرصفة، ووضعها أناس غير متخصصين، ومعظمها لا قيمة علمية لها، ومشكلة هؤلاء ليست في قلة الدين، ولكن في قلة الفهم والعقل كما يقول الكاتب الإسلامي فهمي هويدي. 2- أن من بين هؤلاء من يتخذ من التشدد وسيلة للبروز الاجتماعي وطلبا للشهرة والزعامة وتحقيقا لمصالح عاجلة، وهو غير مؤهل علميا وثقافيا. 3- عدم كفاية التحصين الديني والفكري والثقافي في البيت والمجتمع والمدرسة والجامعة، وهذا يدعونا إلى إعادة النظر في مناهج التعليم والتربية والبرامج الإعلامية. إن التنشئة الاجتماعية الأولى عندنا لا تعطي الحرية الكافية للطفل للحوار، ولا تربيه على احترام الرأي الآخر. 4- وجود الفراغ الثقافي والسياسي والاجتماعي في أوساط الشباب نتيجة عدم تنشيط وتشجيع الحوار الحر، وتوجيه الشباب نحو الانشغال بقضايا البناء والتنمية. 5- قصور إسهامات الكفاءات العلمية والفكرية والثقافية في ملءالساحة العريضة وانسحابها من الميدان لأسباب عدة لا مجال لذكرها الآن، وهي معروفة على كل حال. 6- ضعف مستوى بعض الدعاة نتيجة لضعف الحصيلة الثقافية والعلمية التي تم تزويدهم بها، فلا تسمع منهم إلا حديثا مكررا بعيدا عن اهتمامات الناس وهمومهم. 7- أمراض نفسية هي إفرازات مجتمعاتنا المحبطة والمقهورة سياسيا وثقافيا واجتماعيا، تشكل نوعا من الهوس الديني، وتمثل نوعا من ردود الفعل المرضية تجاه المتغيرات المعاصرة. 8- تعصب الحركات المتشددة لمذاهب معينة، ولأشخاص معينين يتخذونهم أئمة وأمراء يأتمرون بأمرهم وآرائهم لا يحيدون عنها. واعرض فيما يلي تصوري لحلول ومقترحات قد تخفف من حدة المشكلة: 1- منها ما يتصل بمسؤولية السلطات في إبعاد المتشددين عن مراكز القيادة والتوجيه والتربية والتعليم والإعلام. 2- ومنها ما يتصل بواجب العلماء وأهل الفكر والثقافة في التصدي لمقولات المتشددين لبيان تفاهتها حتى لا يغتر بها بعض الشباب، وكذلك لإرشاد هؤلاء المتشددين وتوجيههم إلى المفاهيم السليمة وهدايتهم إلى النهج العدل وإصلاحهم بالحوار والتناصح والإقناع. 3- ومنها ما يتصل بمسؤولية الإعلام من زيادة الجرعات الدينية والثقافية الممثلة لتعاليم الإسلام ومبادئه وقيمه، والقائمة على العدل والوسطية دون غلو أهل التشدد ولا تفريط غيرهم. 4- ومنها ما يتصل بمسؤولية البيت والمدرسة والجامعة من الاهتمام بالتحصيل الديني والفكري والثقافي للشباب بتشجيع الحوار والمناقشة واحترام الرأي الآخر والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، وإشاعة الروح العقلانية بهدف تكوين العقلية الواعية الناقدة. 5- ومنها ما يتصل بضرورة وضع خطة أو إستراتيجية للتنمية الثقافية والدينية على مستوى الدولة، تساهم فيها الجهات المختلفة في المجتمع. |
|