ردك على هذا الموضوع

الاستعلائية والعدوانية تجاه الآخر

في الخطاب الثقافي الأمريكي

وليد خالد أحمد حسن

 

بداية، يطرح الموضوع علينا أكثر من سؤال يتصل بالخطاب الثقافي الغربي والخطاب الثقافي الأمريكي بوجه خاص، بما لهما من جذور. فهل أن هذا الخطاب خطاب ثقافي بالمعنى الذي نفهم فيه الثقافة ونقدر دورها الإنساني في الارتقاء بالبشرية؟ وما التوجهات التي يتبناها هذا الخطاب؟ هل هي توجهات ثقافية خالصة؟ أم أنه يتخذ من الثقافة وسيلة لغاية بشعة إنسانياً، هي استعمار عقل الآخر غير الغربي، وتنميط فاعليته وحصرها بما يخدم المشروع الغربي، ليس غير؟

ثم، من أين تنبع نزعة الروح العدوانية في الخطاب الثقافي الأمريكي، تحديداً هذا الخطاب الساعي إلى وضع الإنسانية جمعاء في خدمة المشروع الرأسمالي للولايات المتحدة الأمريكية؟ وفي السياق ذاته، ماذا يشكل العرب، وأين هم في هذا الخطاب، تاريخاً وثقافة وحضارة إنسانية الطابع، إنسانية المعطيات؟ نظر العديد من الباحثين والمفكرين، عرباً وغير عرب، إلى الغرب في موقفه من غير الغربي، فوجوده يتحرك من خلال علاقة طرفية تقوم على الأخذ لا العطاء، والسلب والاستلاب لا التفاعل والحوار. كما وجدوا الخطاب الثقافي الغربي خطاباً محكوماً بالتوجه ذاته، المبني والقائم على نظرة استعلائية والممثل لنزعة استعمارية مطلقة الأهداف والغايات والحدود، فهو خطاب ينطلق من ثلاثة عناصر تشكل مكوناته الأساسية:

- يتشكل العنصر الأول في معطيات هذا الخطاب في ماله من روح عدوانية، من نزعة عنصرية واضحة، أساسها التمركز على الذات التي تدفع بها وتغذيها نزعة متأصلة في النفس والخطاب الغربيين، إلى الهيمنة على الآخر غير الغربي وتطويع وعيه، وانتزاع إرادته، وتهميشه ثقافياً وحضارياً، في محاولة لدفعه إلى خارج التأريخ.

- ويتشكل العنصر الثاني من دوافع المركزية الغربية التي يغذيها الشعور بأن الثقافة الغربية ثقافة غالبة، ولذلك لابد أن تكون ثقافة متغلبة، تعتمد على إضعاف الثقافات القومية في البلاد المستعمرة وتهميشها وطرح نفسها بديلاً تاريخياً عن كل ما كان في الأصل.

- ويقوم العنصر الثالث على ما يحمله هذا الأخر / الغربي من وهم اخذ صيغة اليقين التاريخي عنده، ويتمثل في إيمان الغرب بالهوية المطلقة لذاته الاستعلائية، وريثة التاريخ الاستعماري.

فالصورة بابعادها الواقعة هذه، صورة عدو وليست خصم. والعدو محدد هنا، انه يتحرك بثوابت عدوانية مستمرة نشأت معه وجوداً ونمت تاريخاً وتواصلت في تشكيل خطابه الجديد الذي ينهض من خلال تجربتين:

- هناك التجربة الفكرية لهذا الأخر / الغربي بكل ما رسم فيها لنفسه من صور التوجه، وأكثرها بشاعة صورته مستعمراً.

- التجربة العلمية، بفعلها التدميري، الذي يستهدف الإنسانية والواقع معاً، وجوداً، وثقافة، وحضارة، تحركه في نزوعه العدواني هذا، مصالحه المادية التي لها ما يغنيها تاريخياً.

لنأخذ عدوانية الفكر الأمريكي، مفهوماً وطرح، مثلاً على ذلك:

العدو، بحسب مفاهيم علم الاجتماع هو حالة خاصة من الأخر، وهو يطرح مفهوم الصراع كما يقدم أسبابه. وهو لا يقوم فقط على الاختلاف الجذري مع عدوه، وإنما يتضمن مفهوم الإنهاء أو الإبادة له. فالعدو، كما يخلص علماء إلى توصيفه يمثل الموت. وأمريكا كل تاريخها، تتوجه في حروبها توجهاً يستقي من النزعة الدينية بعض مصطلحاتها مع انحراف واضح في توظيفها، فهي تصور أعداءها بصورة أشرار، والشرير هو النقيض الفعلي للخير.. لذلك، وبحسب هذا المنطق يجب استئصال العدو من على وجه الأرض حتى يكون آلهنا آمناً.

فأدبياته تقول: نحن رواد العالم وطلائعه، اختارنا الرب.. الإنسانية تنظر من جنسنا الكثير.. بات لزاماً على أكثر الأمم أن تحتل المؤخرة.. نحن الطليعة تنطلق إلى البرية لنقدم ما لم يقدمه الأوائل.. الدول الصغيرة شيء من تراث الماضي عفى عليه الزمن ولا مستقبل لها.. أمركة العالم هي مصير أمتنا وقدرها.. الحق يملكه الشعب القادر على قهر الشعوب الأخرى.

وتأسيساً على ما تقدم.. انه إذا كان لابد من إيجاد تفسير للسلوك الأمريكي العدواني على الحضارات والثقافات التاريخية والتوجه إلى إعدام إنسانها، فلابد من تقريب صورة الغرب واقعاً وتاريخاً، وثقافة. فنشوء الولايات المتحدة وقيامها يمثل تجربة فريدة فذة تتعلق بنشأة أمة جديدة، وصياغة ثقافة وليدة.. فهذه التجربة تكشف عن التفاعل الاجتماعي بين عناصر عديدة تضافرت وانصهرت داخل بوتقة النشاط الإنساني والاجتماعي في سبيل صياغة الأمة وثقافتها. إلا أنها تكويناً يجمع أخلاطاً من البشر من مشارب شتى حفزتهم دوافع متباينة لا تجمعهم رابطة التناقض أو التنافس.. أو قل وحدة المتناقضات أن جاز التعبير، وهو واقع، إذ الكل تدفعه المصلحة إلى المغامرة وركوب المخاطر وتحدي المجهول، وارض الميعاد واسعة شاسعة لم تضق بعد بأطماع الوافدين، وأن اغتالت هدوء أهل البلاد الأصليين وأذلتهم بضعفهم. الكل يريد أن يفوز بالغنم الأكبر دون سواه أو قبله، أو على جثته أن ضاقت به السبل، تراكمات بشرية عديدة متوالية صنعت مجتمعاً بغير تاريخ.

تضاف إلى هذه الصورة تفاصيل أخرى لها ذات أهمية في سياق هذه النظرة. فكل إنسان وافد وطئت أقدامه العالم الجديد أو عالم المجهول، إنسان فرد، وعالم بذاته مستقل حر، حسب ما تترأى له الحرية وحسب ما تصادفه من عوائق تسد السبل، تصارعه فيصرعها أو تصرعه. تجمع بشري لا يعرف غير اثنتين :- الإرادة والغاية. اما الإرادة فلأنه بدونها يفقد مبرر وجوده وسلوكه. وأما الغاية فهي المحرك الذي يرى من خلال الوجود، وهي غذاؤه، وإذا كانت الإرادة هي مبرر الوجود، فأن الغاية هي عين الوجود، تكسبه معناه، وتضفي عليه قيمته، وتحقق الغاية هو تحقق للوجود الذاتي. وهكذا تغدو الذات مصلحة أو مشروعاً قابلاً للتحقيق بفعل الإرادة، وبدونه ينتفي الوجود.

ولابد هنا من السؤال عن الكيفية التي تفكر فيها أمريكا لنفسها من جانب، ولما تدعوه في أدبياتها - بقية العالم - من جانب أخر. والجواب يعود بنا بصورة حتمية إلى محاولة تبين نمط العلاقات التي أقامتها أو تعمل على أقامتها مع - بقية العالم -، واستقطاباتها في ضوء الوعي المؤسسي الرأسمالي التي تعبر عنه بنسق من القيم والأفكار والرموز، بعد أن تجعل لها إطارها الثقافي القمعي، بمعنى من المعاني المعبر عن خصوصيتها، والدافع لحركتها، والموجه لحركيتها في الاتجاه الذي تعمل على تكريس حضورها من خلاله. فإذا كانت أمريكا في مرحلة نضجها السياسي والتقني ستعبر عن نفسها أولاً من خلال قادتها السياسيين والثقافيين بما يصب في تعيين انفرادها بالعالم، فأن تطور هذه المرحلة لن يكتفي بتقرير اعتراف الآخرين بذلك، وإقراره كحقيقه واقعة، وإنما ستبرز معه مصالحها، هذه المصالح التي تحظى بالأولوية في تفكيرها وفي رسم توجهاتها، وستجعل من التحديات التي تواجه بها ومن خلالها بقية العالم مشروعها وأساس رؤيتها لمصيرها. فإذا كانت هذه الرؤية تتحدد أساساً وجوهراً بمصالحها، فأن هذه المصالح متغيرة وليست ثابتة على محددات. ولذا فان سياسة أمريكا تجاه العالم سياسة نهج عملي برغماتي يمثل بالنسبة لها الواقع المثمر المحقق للمصلحة. فالحقيقة الثابتة في التاريخ الأمريكي هي، إذا اقتضت السياسة الخارجية لها تعديلاً في المبدأ السياسي الداخلي، فأن هذا التعديل سرعان ما يتحقق، فالسياسة هنا، شأنها شأن التجارة، سواء بسواء.

اما في الثقافة، فأن الثقافة الأمريكية تعبر عن هذا التوجه، فتمثل قيمه بما يمكن أن نجد فيه من فلسفة متسقة مع التوجهات المؤسسية، فإذا كان توماس جيفرسون قد ذهب إلى أن ما هو عملي يجب أن تكون له الغلبة والسيطرة على النظرية الخاصة. فان مثقفين آخرين، ومفكرين، وفلاسفة ورجال سياسة أمريكان، قد حددوا رؤيتهم للمستقبل وعبروا عن مسارات فكرهم وتفكيرهم بما لا يخرج عن مثل هذه النظرة ذات الأصول البراغماتية.

إن نظرة أمريكا إلى الحياة تتحرك اليوم بنزعات القوة المهيمنة وإطماعها، ولذلك فهي تطالب العالم بالطاعة غير المشروطة لها، وإلا فان العقاب الرادع بانتظار من لا يمتثل. مما يجعل فكرة المسؤولية الأخلاقية تنتفي من سلوكها كما تنتفي فكرة الإرادة المستقلة التي يطالب بها الآخر لنفسه. فأمريكا على لسان قادتها وعند غير مفكر من مفكريها المعبرين عن فلسفتها السياسية والاجتماعية، غير معنية عناية فعلية بمسالة الحرية الديمقراطية والمجتمع المدني، وعنايتها الأكبر تتوجه إلى نوع العالم الذي تريد إن تقيمه. وهي في هذا إنما تعمل في هدي ذلك الشرط التربوي الذي يفتح المجال للآخر في أن يعمل ما يراد منه عمله، فلا يتخذ خطوة غير متوقعة ولا يقول إلا ما يكون الآخر - أمريكا - على علم بما سيقول. وإما الحرية، فهي بحسب غير مفكر من مفكريها حرية فردية، بمعنى، حرية المشروع الخاص، وحرية السوق، على حد تعبير ملتون فريدن مؤلف كتاب الرأسمالية والحرية. فالحرية بالمفهوم الأمريكي لم تعد مشكلة فكر وأخلاق وسياسة وقانون وعلاقات اجتماعية وأهداف مجتمعية، أي، أنها لم تعد الإنسان بكل جوانبه دون تجزئة أو اجتزاء، وانه بدون الحرية لا مسؤولية.. إن الحرية بالمفهوم الأمريكي البرغماتي لها، وهم ميتافيزيقي، فهي معنى مقصور على مفهوم اقتصادي ضيق، وقد أسقطت عنه إبعاده الأخلاقية والإنسانية.

إن ما يراه فريدريك سكينر ويذهب إليه من مبدأ يعتمد هندسة الثقافة وتغير العقول وغلق الاعتقادات، هو ذاته ما تعتمده العولمة منهجاً ونهجاً. فإذا كانت أمريكا تعمل اليوم من خلال العولمة عملاً مزدوجاً يعتمد صناعة الثقافة المطلوب رواجها وانتشارها وتأثيرها من جانب وتشويه الثقافات الأخرى في عقول أبنائها من جانب آخر، فان ذلك هو ما يحدد لها الأسلوب الذي تعتمده في الهيمنة على العقول، معتمدة في ذلك على مجال المعلومات ومجال الإعلام والدعاية، والتحكم في العقول، وغرس عادات سلوكية وقيمية.

هذه الثقافة التي صاغت العقل الأمريكي وحددت توجهاته، ثقافة عدوانية النشأة والتكوين والتوجه. فإذا كان نزوعها هو النزوع الرأسمالي ذاته بنزعته المتوحشة، فان روابط الفكر المتولد عنه ثقافياً وأيديولوجياً جعلت من الصراع الذي خاضته وتخوضه مع الفكر الآخر وكل فكر نقيض هو من دعائم الوجود والاعتقاد، وإحلال فكرآخر محله باعتقاد مغاير، ولعل أوضح مثل على هذا التوجه / الاتجاه الثقافي والفكري والرأسمالي في تحديد الأطروحات الإيديولوجية الأمريكية، ما يتمثل في اتجاهين/ توجهين فكريين وثقافيين واضحين:

- الاتجاه الذي يتبنى أطروحة النهايات: نهاية الإيديولوجية، ونهاية التاريخ، ونهاية المثقف. والمعني هنا بطبيعة الحال، المثقف العضوي الذي يكون له دور في الحياة والمجتمع.

- والاتجاه العولمي، وقد وجد غير مفكر، عربي وغربي، تسمية أخرى للعولمة، في واقعها المطروح فيه راهناً، هو - أمركة العالم - بالمعنى الرأسمالي الذي يهدف إلى إجراء التحويلات في كل مجال من مجالات الحياة، من الفكر إلى الاقتصاد، ومن السياسة إلى الثقافة.

ولعلنا لا نجافي الحقيقة في شيء إذا ما قلنا إن العقل الأمريكي عقل غريزي تحركه الغريزة نحو ما يرسم من غايات أو يحدد من مطالب ويسعى إليه من أهداف. إن رائد الفكر الفلسفي الأمريكي البراغماتي شارلس بيرس يمتدح هذه الغريزة في الفرد الأمريكي، بل ويجد أن اعتقادات الأمريكيين الغريزية أجلّ وأكثر يقيناً من نتائج العلم. فالانسان بحسب رؤيته - مدفوع بالغريزة التي هي عماد حياته - ولذلك، ليس غريباً ان يوظف الفرد الأمريكي نتائج العلم لخدمة هذه الغريزة.

وإذا كانت فاشية الفكر الأمريكي تتمثل تعبيراً في ما قاله اوليفر وندل هولمز الذي ذهب إلى أن الحق يمتلكه الشعب القادر على قهر الشعوب الأخرى، وان الفكرة المحركة قائمة على أساس مصلحتي أولاً، ولا اعتبار لمصالح الآخرين بإزاء مصلحتي أنا، ذلك لأن كل شيء في الفلسفة البراغماتية، رهن بالمنفعة الذاتية، والقول بان الحرية الفردية قيمة اجتماعية لها رصيدها في الواقع الاجتماعي ولها مدلولها التاريخي ومحتواها الذي يشكل دعامة في بناء الحاضر إنما هو في نظر مفكر براغماتي مثل وليم جيمس ومن سار على دربه، نوع من اللغو يخاطب وجداناً سقيماً قد يجدي مع الضعفاء، أو هو قول أشبه بالوعظ الديني لإلهاء العامة، ذلك إن الأحكام القيمة عنده لا علاقة لها بالمطابقة مع الواقع، بمعنى أنها مقطوعة الصلة بأية صفات قيمية موضوعية.

وإذا كانت العولمة هي الصورة الجديدة للفكر الأمريكي البراغماتي بنزعته المحمومة إلى الهيمنة على الأخر، فان هذه الصورة الجديدة إنما تستهدف أول ما تستهدف إنسانية الإنسان فتسحقها من خلال محاولاتها بناء مجتمعات التماثل والسعي إلى تنميط الشخصية الإنسانية ووضعها موضع الامتثال للأقوى والاستسلام لقوته التي يتحدد استخدامه لها في ضوء مصالحه وما تستدعي هذه المصالح من توجهات.

إن الرأسمالية الأمريكية تنظر إلى نفسها اليوم قوة غالبة تصوغ رؤيتها المتغلبة بنفسها، وتقدم تأويلها للحياة، وتفرض إرادتها في صناعة المستقبل على النحو الذي يستجيب لمصالحها جاعلة من حياتها ومن أنماط التطور التي اتخذتها لهذه الحياة أطاراً عاماً يجمع مالها من الخصائص إلى مالها من الرؤية، والطموحات والأطماع أيضاً، فهي تعمل اليوم من خلال العولمة على تكريس جهودها لوضع المجتمع الإنساني العام في إطار واحد وجعله في نسق واحد، بكل ما يضم ويشمل من مجالات الحياة والمعرفة والثقافة أو الفكر والإجتماع. إن الثقافة الرأسمالية تتفاعل تفاعلاً مطرداً مع الفكر الرأسمالي بما له من منطق سائد، في اتساق معه وتجاوب. وحين تكون القوة الرأسمالية هي القوة المفكرة فإنها تعمل على إحلال نظامها في الفكر والثقافة لتحتل ميادين المعرفة في الواقع، وتبدأ عملها في إعادة تشكيل وعي الإنسان.

إن الولايات المتحدة لأمريكية، لا بوصفها القوة الواقعية الممثلة لهذا الفكر تعمل من خلال المزاوجة بين التسلط على العالم بقوة رأس المال، والتسلط عليه بقوة المعرفة التي تصنع صياغتها بنفسها، ذلك، أن عملية الهيمنة كما تريدها ممتدة وشاملة، من الاقتصاد إلى السياسة إلى الثقافة، وهي في هذا لا تبني موقفها مع الأخر على أرضية الحوار بل تتخذ من الفكر بحسب المعطيات التي ينتجها الفكر، وسيلة للتحكم باعتماد سياسة التفريغ، وأسلوب المحو والإحلال.

هندسة الثقافة، وكل ما يصدر عنها لإعادة تشكيل وعي العالم، فالنظرة البراغماتية ترى أن التصميم المقصود للثقافة وما ينطوي عليه من سيطرة على السلوك البشري أمران ضروريان، فهو قدر اكبر وليس قدراً اقل من السيطرة المقصودة. وهذا في حد ذاته مشكلة مهمة في هندسة الثقافة، هذه الهندسة التي تعتمد التغيير، واهم ما تغيره هو الطريقة التي ينظر بها الشخص إلى شيء ما، وكذلك تغيير ما يراه حين ينظر، وذلك بتغيير الأحداث الطارئة، أي المنبهات التي يتلقاها الإنسان. وفي هذا ترى البراغماتية، نزعة فلسفية، انه يمكن للمرء أن يغير اعتقاده إذا وجد في سلوك ما مغنماً يستهويه، ومظهراً يرضيه، أو متعة يطرب لها، حتى لو وصل الأمر حد الإفساد الأخلاقي. وتذهب في هذا، إلى أن خير الأمور أن يجري تغيير العقول خفية حتى لا نستثير الشخص المعني فيسعى إلى الانتقام.. وهي في هذا، إنما تنطلق من نظرتها إلى الإنسان الذي هو بحسب فريدريك سكينر ضعيف ويمكن إخضاعه للسيطرة فيكون ضحية.

والسؤال الأهم هنا هو: أية نظرة انبثقت عن هذا كله إلى الآخر غير الأمريكي؟

هل بمقدور أمريكا أن تتخلى حاضراً ومستقبلاً عن روحها الاستعلائية / العدوانية المتأصلة فيها، واقعاً وحركة حياة ووجود، وطاقات فكرية تسعى إلى أن تجعلها مسخرة لهذا الهدف الذي ليس له من هدف يعلو عليه: الهيمنة المطلقة؟ وهل بأمكان أمريكا أن تصنع نوعاً من القطيعة مع استعلائيتها / عدوانيتها، نزعة وواقعاً، وهي التي جعلت منها وجوداً طغيانياً مجرداً من كل إنسانية؟ بل هل نظر الفكر الأمريكي يوماً إلى أي فكر أخر مما يقع خارج مركزيته الأمريكية هذه، نظرة احترام لما يحمل من اطروحات أو اعتراف بشيء مما لهذا الفكر من مقومات موضوعية؟ بل هل استطاع وهو يقرأ مرغماً ثقافات الشعوب الأخرى أن يقرأها بمعزل عن واحدية التفكير والتفوق والتقييم، ولا نقول:- بنظرة منفتحة على ما لغيره من امتياز أو تفوق، في هذا المجال أو ذاك؟ ثم، هل استطاعت أمريكا أن تفكر وان تتحرك وتتصرف في أي مستوى كان خارج عنصريتها بعيداً عن نظامها المغلق، هل استطاعت الانفتاح والاستيعاب، وتنويع النظر في ما يحيطها في العالم من مجالات؟ وهل تمكنت تكنولوجياتها التي كسرت حدود كل التوقعات في ما أحرزت من تقدم تقني.. أن تكسر شوكة تصلبها في استمرار انغلاقها على نفسها أو تجعلها تنفلت من عقال تعصبها؟ أي أن تنزل بعقلها وما تفكر فيه من مستوى عبادة الذات المطلقة إلى تلك الآفاق المفتوحة إنسانياً والمتعينة وجوداً وحضوراً في ما تدعوه هذه الـ - أمريكا - بمزيد الغطرسة - بقية العالم -؟

ولكن، هل في مقدور أمريكا أن تكون إلا كذلك؟ هل في مقدورها التخلي ذاتياً عن روحها الاستعلائية / العدوانية - فلسفتها الوحيدة - وصولاً إلى ما هو إنساني شامل؟ هل في مستطاعها ذاتياً أن تؤلف قاعدة إنسانية أوسع من أمريكيتها المغلقة على نفسها مؤتزاً بعلاقات ديمقراطية فعلية تفارق بها تلك البنية التقنية البيروقراطية المندفعة بروح الهيمنة على الأخر - غير الأمريكي - والسيطرة على مقدراته؟ وهل يمكن لأمريكا أن تتخلى عن فكرتها في أن جميع الحواجز التي قد تقف في وجه ما تريد أو تفكر به لنفسها، يمكن أن تزال وتسقط بزوال استقلال الآخر غير الأمريكي وإسقاط أرادته؟ بل هي في مستطاع أمريكا أن تكتب تاريخها خارج هذا كله، أي خارج إطار استعلائيتها / عدوانيتها، ثقافة يريد لها الهيمنة، وحضوراً لا يقوم على النحو الذي يريد إلا بإجتياح هذا الأخر غير الأمريكي، وانعطافة تاريخية لا تجد نفسها تحققها كامل التحقيق إلا بدمج هذا الأخر خارج التاريخ؟

إن الولايات المتحدة الأمريكية تحاول تمثيل سلطتها المطلقة بنظام تفرضه القوة، قوة رأس المال والتقنية والإعلام، لتبرر به تفوقها، وبالتالي فرض هيمنتها على ما تدعوه - بقية العالم -.

قد يقول قائل: بأن هذا الذي أقول، إنما يكشف عن، ويمثل نزعة معاداة أمريكا / الامريكانية / الامريكانيزم من وجهة نظر قد تكون هي الأخرى عنصرية، في حين أن ما جئت به ليس أكثر من كشف أولي وبسيط لنزعة الولايات المتحدة الأمريكية في معاداة كل ما هو غير أمريكي.

فهي ترى وتجد في تحويل الأخر تابعاً ما يحقق لها الكمال الذي يتحد به الوجه الأمريكي مع ذاته، وهو نفسه الذي أجهض ما بدأ للوهلة الأولى ذا نزعة إنسانية من حركات وأفكار ولدت هناك بفعل ما يدعوه احد مفكريها - بالذاتوية المطلقة - التي تغلبت على كل رؤية أو موقف، فأجهض بفعل ذلك ما عرف من تيار فاعل باسم الانفتاح أو سياسة الباب المفتوح في جانب منها، محولاً إياه إلى مشروع استعلائي / عدواني/استعماري صرف.. كما أجهض الحداثة بعد أن حول عصرها إلى عصر احتلال للعقل ونهب للثروات وتعطيل للقدرات الذاتية لما يدعوه - بقية العالم -. وأما العولمة فهي بمثابة نهاية لعصر الإنسان، فإذا ما أخذنا العولمة في واقعها المطروحة راهناً، كونها التطور في مفهوم الاستعمار، والتجديد لوسائل الهيمنة الشاملة التي تعتمدها.. فإن نتائجها أو ردود الفعل عليها لن تكون هينة أو بسيطة بل ستكون:

1- في صورة ثورات اجتماعية رافضة لهذا التوجه الاستعلائي / الاستعماري الجديد الذي يعطي للرأسمال الأرجحية، أن لم نقل الكلمة المطلقة في توجيه سيرورة التحولات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية.

2- وفي هذا السياق ستكون هناك نهضات تعيد تأسيس نفسها وأطروحاتها وتناهض الفكر الاستعلائي / الاستعماري بفكر يدعو إلى تعميق الإحساس بالهوية الثقافية والحضارية، لا على أساس العزلة والانغلاق أو الانكفاء على الذات بل بروح حضارية جديدة تدعو إلى حوار الثقافات وحوار الحضارات ورفض الهيمنة.

3- وسيكون هناك إحياء للتقاليد الثقافية بما لها من جوهر محرك باتجاه الإنسان ذاتاً وتاريخاً ووجوداً إنسانياً وحضارياً، وليس على أساس استلابه ومصادرته ذاتاً.

4- وكذلك تجديد أطروحات الفكر التقدمي كفكر مناهض للاستعلائية / العدوانية / الاستعمارية وبمختلف صوره، وشتى أشكاله، بما يعيد إلى هذا الفكر دوره النضالي؟ المناهض للإمبريالية.

5- وستحتل الهوية موقفاً متقدماً في العديد من الأطروحات الجديدة بوصفه الدلالة المتحققة لهذه الشخصية التي تعمل على أن تحل ثقافتها في موقع متقدم من جهة الإنسان.

لا نقول هذه من قبيل الحلم بما نتمنى أن يتحقق، وإنما في ضوء قراءة تحليلية لمراحل سابقة مرت بها الحركة الاستعمارية الأمريكية، ابتداءاً من السنوات الأولى للحرب العالمية الأولى وما أعقبها من عقود التوسع الاستعماري القهري إلى الاستراتيجيات السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية التي اعتمدها الاستعمار الأمريكي في العصر الحديث إلى التلويح بالحروب العدوانية الجديدة، عسكرية وحضارية، مما ينحدر من أفواه زعماء هذه الدولة كستراتيجية وليست زلة لسان. لذلك، علينا أن لا ننتظر مولد الإنسان الجديد من الولايات المتحدة الأمريكية، ولكن، هل، سيولد هذا الإنسان من الشرق؟!

هذا هو السؤال.

*كاتب وباحث - بغداد

E-mail:[email protected]