ردك على هذا الموضوع

الاسلاميون وحقوق الانسان

وسام فؤاد

 

(وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ) سورة محمد/آية 38. هكذا قال الله تبارك وتعالى في محكم كتابه، متوعداً أمة الإسلام إن تقاعست عن الدعوة لدين الحق، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فهل حدث هذا الاستبدال حقاً؟ ولماذا تراخى الإسلاميون في إنجاز المشروع الأخلاقي المناط بهم تحقيقه في المجتمع، تاركين حمل مشعل حقوق الإنسان لبقايا فلول الاشتراكية وطلائع الليبرالية، وكلاهما ينكر قدسية حقوق الناس؟ لقد أتانا الإسلام بأعظم مشروع أخلاقي شامل لما هو سياسي واجتماعي وثقافي واقتصادي.

وحفلت أصول الشريعة: كتاب الله تعالى وسنة رسوله "، بمبادئ وتشريعات نقلت العرب من حالة كانوا فيها مجموعة كيانات تافهة متشرذمة متناثرة، إلى حالة من حالات المجتمع المتماسك الأركان، القوي البنيان، فسادت أمة الإسلام على أمم الأرض، وحققت أطيب نموذج تطبيقي لقوله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس).

وإذا حاولنا استكشاف كنه هذه الخيرية، فلن ندركه إلا إذا استكملنا الآية التي عرضنا لها سابقاً من كتاب الله تعالى، لتوصلنا إلى سر هذه الخيرية، حيث يقول تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) . تلك أسس المنظومة الأخلاقية التي حوتها أصول الإسلام، التي مثلت مصدر قوة للأمة على الصعيدين النفسي والاجتماعي.

ونحن في هذا المقام لسنا معنيين باستعراض القيم الحقوقية ومنظومات الأخلاق التي حملها الإسلام نوراً للبشرية، فتلك المسألة تكفلت بها كتابات علماء أجلاء، ودعاة أبرار، نحسبهم كذلك ولا نزكيهم على الله تعالى، لكننا معنيون هنا بسنة الاستبدال التي أنفذها الله تعالى في أمة الإسلام، تلك السنة التي أصبحت فلول الاشتراكية البائدة بمقتضاها من حملة مشاعل القيم النبيلة المنافحة عن حقوق الإنسان والأخلاقيات الضامنة للعيش الكريم، في الوقت الذي اكتفى المسلمون بالدعوة على مستوى الكيانات الصغيرة، وفي وقت تتولى وسائل الإعلام تشريب الناس مبادئ الأخلاق وفق الطرح الغربي، بصورة تفوق تشرب بني إسرائيل العجل بعد غياب نبي الله موسى (ع).

إن معاجلة قضية كهذه تقتضي منا التحرك والبحث على مستويين هامين، هما:

الأول: مستوى تجريد المشكلة، مشكلة الاستبدال.

الثاني: مستوى ما ينبغي بحثه وفق مقدمات المشروع الإسلامي.

على أن التحرك على هذين المستويين رهن بالتسليم بأولوية ما هو قيمي وأخلاقي على ما هو سياسي في المشروع الحضاري الإسلامي، ذلك المشروع الذي من المفترض أن تحمله الحركة الإسلامية على اختلاف الأطياف الاجتهادية التي تتحرك على ضوئها، ولننتقل من الإجمال إلى التفصيل.

تجريد المشكلة.. وحقائق الاستبدال

خلال العقد الأخير من القرن العشرين شهدت فعاليات المجتمعات العربية بصفة عامة، والمجتمع المصري بصفة خاصة، تحرك القيادات اليسارية، هذا التحرك مثل تحولاً عن المشروع الاشتراكي الذي بدى وكأنه قد انهار، إثر إيثار الاتحاد السوفيتي السابق عدم التحرك لنصرة الأحزاب الاشتراكية التي فقدت قدرتها على اكتساب شرعية مجتمعية ذاتية، ناهيك عن سائر الأحزاب الاشتراكية التي لم تصل إلى الحكم في الدول القائمة بها. والذي يتبادر للذهن إذ ذاك أن الضحية الأولى كانت المعسكر الاشتراكي نفسه، ولكن الحقيقة كانت خلاف ذلك!! كيف؟.

إن متتالية الانكسارات الاشتراكية حقيقة بدأت بإدراك كبار القادة السوفيت أن المشروع الماركسي أخفق في الواقع المجتمعي أولاً، بالرغم من أنه قد بنى على الصعيد الدولي قطباً دولياً كبير قاد لعبة التوازن الدولي طوال نصف قرن من الزمان. لكن الإخفاق المجتمعي قاد إلى إخفاق المشروع الدولي بسبب عدم توفر الحافز على المستوى النفسي للأفراد، وعلى المستوى الاجتماعي -عبر القوى الاجتماعية التي حملت هذا النظام على أكتافها، الأمر الذي أدى لتراجع معدل التراكم الاقتصادي، مما حدا بالاتحاد السوفيتي السابق إلى إعلان عدم قدرته على مواصلة تحدي التسلح، وذلك إثر إعلان الولايات المتحدة مشروع حرب النجوم. هذا التراجع السوفيتي أدى إلى اتجاه القيادة السوفيتية للضن بمواردها عن نصرة النخب اليسارية، سواء في أوروبا الشرقية، أو في العالم الثالث.

هذا الاتجاه الانكماشي السوفيتي كان أحد أهم المدخلات التي أدت إلى انحسار مأساوي للمجتمع السياسي اليساري على صعيد العالم العربي، باعتبار أن هذا الانحسار هو من أبرز وأسرع تأثيرات هذا التطور الانكماشي. وقد ساعد في ذلك عدم تمتع هذه الأحزاب بشرعية ذاتية، أي انعدام حضورها في الشارع العربي، وهو الأمر الذي استهلكت شرحه وتفسيره دراسات عديدة، ثم تلى ذلك متتالية التقهقر الاشتراكي في الشارع الأوروبي، بدءاً من رومانيا وحتى ألمانيا الشرقية،، ثم ما لبثت حركة الانكسار والذوبان أن طالت الاتحاد السوفيتي نفسه.

في أعقاب ذلك الانكسار وذاك الانكماش، حدث هذا التحرك النخبوي اليساري في مجتمعات دول الجنوب باتجاه فكر جزئي مرتبط بالمرجعية السياسية الغربية، وهو فكر حقوق الإنسان. ولو أسقطنا تلك المقولة على الحالة المصرية بصورة أكثر انطباقاً، لوجدنا أن الغالبية الكاسحة لمؤسسات حقوق الإنسان قد قادتها نخب انتمت في الفترة السابقة من حياتها إلى التنظيمات السياسية ذات اللون الأحمر، سواء منها ما هو سري -وهذا هو الغالب- أو ما هو علني.

ما المشكلة في ذلك؟ سؤال مشروع للقارئ.. فما المشكلة في أن يحدث هذا التطور الفكري لأولئك النفر، أو تلك النخبة من هذا الفكر إلى ذلك؟ فالتوبة مشروعة، والتطور الفكري أمر يؤيد التاريخ استمرار حدوثه، بل وحتى (الديالكتيك) المادي الذي طوره أئمة اليسار ، في حالة التلاعب ببعض جوانب معادلاته عبر المزاوجة بين أية أطروحة وما يناقضها من أطروحات، ما يحدث من ترحال فكري من قبل مفكرين يساريين إلى الإسلام، أو إلى الليبرالية..إلخ، لكن القضية أعمق من ذلك.

القضية من وجهة نظري أن محورها الأساسي هو الإنسان وحقوقه، في الوقت الذي تحركت فيه هاتان النخبتان من منظومة تجاهلت حقوق الإنسان (المنظومة الاشتراكية)، إلى منظومة تعتبر حقوق الإنسان قضية نسبية (المنظومة الليبرالية)..كيف؟.

الإجابة ببساطة شديدة تتوزع على محورين:

المحور الأول: إن الفكر الذي ارتحلت عنه هذه النخبة مثل أشد البيئات تطرفاً في معاداة حقوق الإنسان الفرد، بل ومعاداة حقوق الجماعة الكبرى أيضاً.. تشهد بذلك معسكرات الاعتقال التي فضحها الأدباء اليساريون المنتمون إلى المجتمعات الاشتراكية.

المحور الثاني: تمثل في أن الفكر المرتحل إليه، وهو الفكر الليبرالي، ينظر لقضية حقوق الإنسان في إطار حالة النسبية الحضارية التي يتفوق فيها النموذج الغربي الحضاري، بعبارة أخرى أن هذا الفكر الليبرالي يقوم على إدراك عنصري لا قيمي للاختلاف الحضاري، ومن ثم فإن حقوق الإنسان هذه تتوقف على الانتماء الحضاري لهذا الإنسان، لا على حقوقه كإنسان.

وفي هذا الإطار وجدنا الانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان المنتمي لحضارة غير الحضارة الغربية، فالولايات المتحدة -في الحروب التي دخلتها إبان تأسيسها- تسببت في مقتل أكثر من تسعة ملايين هندي أحمر، حيث انحدر عدد الهنود الحمر في الولايات المتحدة من عشرة ملايين إنسان إلى ما يزيد قليلاً على مائتي ألف إنسان. والحروب التي خاضتها الولايات المتحدة في الثلث الأوسط من القرن العشرين، أدت إلى مقتل أكثر من ثمانية ملايين آسيوي، ما بين ياباني، وصيني، وكوري شمالي..إلخ. أما في العقد الأخير من القرن العشرين فحدث ولا حرج عما أصاب الشرق الأوسط من فاقة وتقتيل، ينم هذا في الوقت الذي تعتبر الرؤية الإسلامية، وإطارها المرجعي، أنسب البيئات لتنامي فقه مستقر ومطلق لحقوق الإنسان.

هذه التركيبة قد تخفى على كثيرين، مما قد يحجب عنهم إدراك المفارقة الساطعة سطوع الشمس، وهذا ما ينقلنا بدوره للتساؤل عما ينبغي أن يكون عليه الحال، على صعيد التأسيس الفلسفي لمفهوم الحق، وعليه ننتقل إلى المستوى الآخر من مستويات التناول: مستوى ما ينبغي أن يكون.

علاقة الإسلام بالحق

القضية التي نحن بصددها في هذا المستوى، مستوى علاقة الإسلام بالحقوق فردية كانت أو جماعية، يمكن تناولها بأسلوبين:

الأول: التأصيل لمفهوم الحق في الشريعة، وما انبثق عنها من ثقافة ذات طابع إنساني، استولت على القلوب والعقول قبل أن تفتح البلدان والأمصار.

والثاني: التعامل معها في إطار مقارن بالمرجعية الغربية الليبرالية، وهي المرجعية التي انتمى إليها مفكرو اليسار المرتحلين بعد هجرانهم المنظومة الاشتراكية. وقد اخترنا الأسلوب الثاني للمعالجة، لأنه أجدر الأسلوبين لياقة منهجية في التعامل مع موضوع هذه الورقة.

وبداية ومنهجيا أشير إلى أن استدلالي لن يقف عند حدود الشريعة في التدليل على رؤية الإسلام لمفهوم الحق، بل سيمتد إلى التاريخ الإسلامي عموماً، في إطار الرغبة في إثبات ضعف صدقية المقولة التي تشير إلى البون الشاسع بين الإسلام كنسق قيمي، وبين حضور هذه القيم في التاريخ الإسلامي، وهي الحجة الأساسية للطرف العلماني في عموم الاشتباكات الإسلامية -العلمانية طيلة العقدين المنصرمين.

ولا ننسى في هذا المجال ذكر ركائز الإسلام في دعم الحقوق. ولكن حسبنا أن نحدد أحد منظورات تناول القضية التي بين أيدينا في سياق المقارنة التي حددناها كملمح منهجي. فكل قضية يمكن تناولها من أكثر من زاوية أو منظور، وكل معالجة تتوقف على المنظور الذي اختاره الكاتب لتبصر الظاهرة.

ومنظورنا الذي سنتعامل به هنا هو منظور طبيعة نسق الحقوق في الإطارين المرجعيين الإسلامي والليبرالي، من حيث تراوح نسق الحقوق على المتصل الذي تشكل النسبية المطلقة أحد طرفيه، بينما تشكل الإطلاقية التامة طرفه الثاني، بصرف النظر عن المفارقة المضحكة التي يثيرها استخدامي لعبارة (النسبية المطلقة).

وبداية القول في تحليلنا لما ينبغي أن يكون عليه الوضع في المسرح السياسي الذي تدور أحداثه في الدول العربية والإسلامية أن أساس حق الإنسان، أي حق للإنسان، قوله تعالى(ولقد كرمنا بني آدم). وأولى تجليات هذه المقولة مباشرة استخدام مفهوم (بني آدم) كدال على موضوع التكريم، وهي إشارة مباشرة لعموم التكريم لجميه بني آدم، وليس المسلمين وحدهم. ومقتضى الدلالة في الآية له عدة أوجه، على النحو التالي.

- فالآية تشير لعموم بني آدم بصرف النظر عن انتمائهم العرقي.

وإن اكتفينا بدلالة هذه الآية، بالرغم من وجود آيات كثيرة تؤكد على درجة إطلاق هذا الحق، نجد أن السنة النبوية المطهرة، والممارسات التاريخية التي تفوق وقائعها القدرة على الحصر لتلك المبادئ.

أولاً: ففي خطبة الوداع أكد النبي (ص) انعدام التمييز في رسالة الإسلام على أساس الجنس، حيث قال النبي (ص)لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى . هذه المقولة حددت معيار التمايز والترقي بين البشر على أساس التقوى، لا على أسا الجنس واللون و الانتماء العرقي. فلا تمايز بين مسلم أصفر أو مسلم أبيض أو مسلم أسود إلا بمعيار رباني، ولا تمايز بين أبيض وأسود أو أصفر ليسوا مؤمنين، فكلهم في بنوة آدم سواء، بما ترتبه لهم بنوة آدم (ع) من حقوق.

وتاريخ الإسلام يشهد أن أكابر علماء المسلمين كانوا من غير العرب، وكان منهم من لم يكن على دين الإسلام من أطباء وفلاسفة، بل وحتى الوزراء المسيحيين ذوي الأصول الرومية.

كما أن التاريخ يشهد أن دولاً غير عربية سادت حكم المسلمين كالمماليك، وآل عثمان، والأيوبيين، وغيرهم. بل إن المماليك لم يكونوا دوماً مسلمين، وكانوا يتحاكمون فيما بينهم لدستور غير مسلم اسمه الياسق.

ثانياً: رفض الإسلام كذلك التمييز بين الناس وفق انتمائهم الطبقي. والذي يؤكد ذلك من سنة نبينا (ص) حديث المرأة المخزومية التي تم تطبيق حد السرقة عليها، وهي من أشراف قومها، وفي ذلك قال الرسول (ص): (إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد).

وقد عد كبار أئمة وعلماء المسلمين هذا الحديث من أهم أسس رسالة الإسلام للاجتماع الإنساني، وللبشرية المعذبة من جراء التمييز الاجتماعي المبني على أساس الثروة.

أما على صعيد التاريخ الإسلامي فقد حرص المجتمع المسلم على عدم جعل الفقر حجة لحجب النابغين، وتفشي المعوزين في المجتمع المسلم. فكان بيت المال يتوجه للفقراء بالرواتب والعطايا. وكانت الأوقاف الإسلامية توقف للإنفاق على اليتامى والفقراء، سواء في ذلك الإنفاق أغراض الكسوة أو الإطعام أو التعليم..الخ.

ثالثاً: الآية تنفي بمقتضاها قبول الإسلام التمييز بين البشر على أساس ديني. والنبي (ص) قال: (من آذى ذمياً فقد آذاني)، وقال: (من آذى ذمياً فأنا خصيمه يوم القيامة، ومن كنت خصيمه خصمته)، أي: من كنت خصمه أمام الله أنصفني الله منه، والذمّي: المنتمي لأهل الكتاب.

والغريب أن السجال الإسلامي -العلماني شهد تهكماً من جانب العلمانيين على توصيف الإسلام لأصحاب الديانات السماوية بأنهم (ذميون لا مواطنين) وتبعهم في ذلك بعض الإسلاميين المستنيرين. ونسوا كيف ينظر المسلمون بقداسة للذمي، مسيحياً كان أو يهودياً، استناداً إلى ذلك الحديث الذي ذمتهم من ذمة النبي (ص) وجعل عرضهم من عرضه، وأذيتهم من أذيته.

وعلى صعيد التاريخ والحضارة فلننظر إلى وضع المسيحيين لنجد أنهم شغلوا مناصب للوزراء، والأطباء الخصوصيين للمراء والولاة، وكانوا مديرين لبيت مال المسلمين. وكان معيار الكفاءة هو المعيار الحاكم لتوظيفهم واستعمالهم دون المسلمين، لأن أولئك الآخرين أقل كفاءة.

والواقع أن الدوائر التي تجمع المسلم بغيره كلما ازدادت كلما رتبت له حقوقاً إضافية في الوقت الذي لم تنزع عنه حقاً من سائر حقوقه. فالاشتراك في بنوة آدم يرتب حقوقاً للإنسان على المسلم، والانتماء لدائرة أهل الكتاب يرتب حقوقاً إضافية دون انتزاع حقوق اشتراك المسلمين مع غيرهم في دائرة الإنسانية. والاشتراك في دائرة القرابة يرتب حقوقاً إضافية دون انتزاع حقوق الاشتراك بين الجميع في دائرة الإنسانية. والاشتراك في دائرة الجيرة يرتب حقوقاً إضافية للإنسان دون انتزاع حقوق الاشتراك بين الجميع في دائرة الإنسانية أو الدين أو القرابة..الخ.

إن القائل بأن الإسلام يميز بين المسلم وغير المسلم في الحقوق كالقائل بأن الإسلام يميز بين حقوق الجار وحقوق غير الجار. وهذا قول غير منطقي، وينفي الأساس الفلسفي لاكتساب الحقوق.

أما عن الغرب فإنه يقيم تمييزاً حقيقياً في الحقوق على كافة هذه الأصعدة. هذا التمييز يصل إلى حد نزع كل حقوق الإنسانية، بما في ذلك حق الحياة نفسها. فالغرب نزع عن اليهود الحمر حق الحياة لمجرد انتمائهم لعرق مختلف، وجعل القوة معيار البقاء الذي يتم الاحتكام إليه. ونفى نفس الحق عن اليابانيين، وعن غيرهم في إطار سعيه لتحقيق مصالحه.

الغرب أيضاً نفى حق الإنسان في أمور كثيرة استناداً للتوزيع الطبقي، فمن يصدق أم 28% من الأمريكيين أنفسهم تحت خط الفقر في الوقت الذي تعد فيه الولايات المتحدة أغنى دول العالم. وخط الفقر هذا يحرم الواقع تحته من حقوق أساسية كثيرة كالتعليم والمأوى والملبس والرعاية الصحية..إلخ.

وناهيك عن تحكيم المعيار الطبقي في إدارة العلاقات الدولية أيضاً. فوحدها الدول الغنية تملي شروطها على الدول الفقيرة، ولا يتم تطبيق الاتفاقيات الاقتصادية عليها، وتتحكم في القروض الموجهة للدول التي لا تكاد تجد قوت شعوبها استناداً للحصص التصويتية للدول الغنية في مؤسسات التمويل الدولية، ولعل التمييز الكائن في اتفاقية (الجات) أكبر دليل على هذا الأمر.

الغرب أيضاً ينفي النظرية الحقوقية ويهمشها استناداً لمعيار الدين. فمنذ أحداث سبتمبر والتمييز ضد المسلمين قائم ويتزايد بالتجسس عليهم: الهواتف والبريد، ويتم تفتيش بيتهم بدون أذون قضائية، ويجري منعهم من السفر لمجرد الاشتباه، دون غيرهم من المسيحيين واليهود.

الغرب أيضاً ينفي الحق عن الإنسان لمجرد أن هذا الإنسان خصم ضعيف. إن ضعف القوة العسكرية لدول الجنوب جعلت هذه الدول مسرحاً لتغول القوات الأمريكية وتجردها من إنسانيتها.

والذي ينبغي ذكره هنا أن هذا التمييز ليس رهنا بالولايات المتحدة كدولة، بل هو رهن بالفكر الغربي النفعي المصلحي النسبي الذي جعل المصلحة إلهاً، والمنفعة مبدأ، واستهان في سبيلهما بكل ما هو نبيل وإنساني. إن القضية ليست صراعاً مع مبادئ دولة، بل مع نتاج حضارة وأدت الإنسان تحت تراب المصلحة الاقتصادية لحفنة من الرأسماليين والساسة.

وهناك الكثير من الاعتبارات التي يمكن مناقشتها في هذا الإطار، ولعل أبرزها استخدام حقوق الإنسان كغطاء لتتدخل الولايات المتحدة لحماية مصالحها في أي بقعة من بقاع العالم، وانتقاء الأنظمة المستبدة التي تحاربها، بحيث تترك الأنظمة التي تراعي مصالحها، وتحارب الأنظمة التي تعارض مصالحها، لكن لن نبسط القول في مثل هذه القضايا استناداً إلى تحديدنا لمنظور البحث، على نحو ما أسلفنا.

من هنا نصل إلى أن المرجعية الإسلامية تمثل بيئة أكثر خصوبة لترعرع وتنامي أية منظومة حقوقية فردية أو جماعية، مقارنة بالمرجعية الليبرالية ذات الممارسات الدائمة الحيد عن المنظومة الحقوقية.

والحقيقة أن هذه الميزة التي تتمتع بها المرجعية الإسلامية ميزة مطلقة لها، بمعنى أننا لا يمكننا القول بأن هذه الميزة تتسم بها بعض التيارات الفكرية الغربية، والسبب في ذلك أن هذه الميزة معرفية بالمعنى الإبيستمولوجي لكلمة معرفية، فكلمة معرفية يعرفها البعض تعريفاً مساوياً للوعي والإدراك، أما المعنى الإبيستمولوجي لها فيقرنها بالأسئلة المعرفية الأساسية المرتبطة بالوجود ومصدره وتكييف وضعية الإنسان فيه.

فالرؤية الإسلامية تربط الحق بخالق الإنسان وواهب الحق، ومن ثم فهي بعيدة عن تأثيرات المصالح والانتماءات العرقية والطبقية والدينية التي قد تتحكم بالإنسان. فالله أزلي أبدي، وأمره مطلق إلا ما قيده هو جل شأنه.

أما المرجعية الليبرالية فالمركز فيها هو الإنسان، والمعيار فيها هو النفعية، ودوائر استغلال الحقوق وتحكيم النفعية فيها تبدأ بالفرد، وتنتهي بالدولة القومية، وربما تتعداه إلى الدول المنتمية للإطار الحضاري الغربي نادراً، والحكم لديها هو القوة، اقتصادية كانت أو عسكرية، فالبقاء للأقوى.

وقيمة التفوق قيمة مستعلية في النهج الغربي، لها نفس علو قيمة العدل في المنظومة الإسلامية، ولهذا كان من الطبيعي أن يحتكم لها الغرب لضبط سيولته القيمية التي لا ضابط لها ولا معيار سوى القوة والثروة، وكان من الطبيعي أيضاً أن يدوس الغرب عند احتكامه لها على منظومة الحقوق لأنها تقيد قيمة التفوق وتحول دون تحقيق أقصى منفعة من ورائها.

الناظر لمثل هذا المظهر من مظاهر الخلل الذي تعرضنا له في هذه الدراسة يمكنه القول بأن هذا الخلل مبرر ومفهوم من وجهة نظر اليساريين الذين أكسبتهم عملية اختراق السياسية قدراً عالياً من البراجماتية -النفعية في التفكير والممارسة.. لكنه غير مبرر من جهة الإسلاميين، الذين دعاهم الله تعالى للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتوعدهم بالاستبدال حال تقاعسهم.

ومن الضروري هنا التمييز بين مستويين لممارسة الأخلاق والحقوق، المستوى الأول: مستوى الفرد بما ينبغي له أن يحمله من قيم أخلاقية عليا، وفضائل راجحة، مقارنة بأنساق الأخلاق المهترئة ذات التأسيس الفلسفي العلماني البراجماتي. والمستوى الثاني: مستوى ممارسة الأخلاق الجمعية ومباشرة الحقوق الجماعية للأمة. فهذا المستوى يكاد يذوي من فرط إهماله، في الوقت الذي تشهد القيم الأخلاقية المستوردة من الغرب، وعلى رأسها منظومات حقوق الإنسان، شيوعاً وحضورا.

غير أن هذا التحرك يقتضي إعداداً جيداً، ولتستنفز جماعة علماء المسلمين من تراه من بينها أولى بهذا العمل، والأجدر للتحرك لإعلائه، والأهل للنبوغ الإعلامي به، فيضع له خطة ومنطلقاً. وسيظل التحرك على هذا المستوى فرض عين على كل الأمة، تأثم لعدم تحققه، حتى ترفع عنها الحرج جماعة لديها القدرة على أن تكفي الأمة مؤونة هذا الفرض.

لكن نجاح وتنامي الحركة الحقوقية الإسلامية يمثل مستقبلً ضبابياً في ظل تدفقات التمويل الغربي على المؤسسات غير الإسلامية، ويبقى الباب مفتوحاً أمام فعاليات تطبيق منظومة القيم الإسلامية في الدفع بهذا الدور قدماً.