من يؤسس لفقه الحرية؟ |
د. أحمد راسم النفيس |
من بين عديد المقالات التي تناولت قضية تجديد الخطاب الديني قليل تلك التي أصابت كبد الحقيقة، شد انتباهي ما كتبه الدكتور (نبيل عبد الفتاح) في إحدى الصحف العربية، حيث تحدث عن (المقاومة الشرسة لكل إصلاح وتجديد من بعض المؤسسات الدينية المحافظة التي وجدت في تحالفها مع السلطات العائلية والعشائرية النفطقراطية التسلطية فرصة تاريخية لقمع واستبعاد المجددين، ورفض أي محاولات إصلاحية للمؤسسة والتعليم... إن سيطرة السلطات السياسية العربية على الدين وتوظيفه والتلاعب به لأهداف سياسية قد أدى إلى نتائج خطيرة على حياتنا الدينية والروحية والسياسية وإنتاج رجل الدين ذي النزعة الانقلابية والذهنية العسكريتارية أو التسلطية القائمة على إنتاج خطاب الأمر والنهي وليس خطاب الحرية والمسؤولية إنتاج فقه الطاعة والتبرير والنفاق والخوف بديلاً عن فقه الحريات ومواجهة الديكتاتورية). نحن نتفق مع الدكتور في هذا القدر ولكننا نخالفه في تلك الجزئية المتعلقة بتحديد المسؤولية عن إنتاج فقه الخنوع والقمع والضرورة الملحة لتحديد بعض التواريخ المتعلقة بالحاجة على التجديد حيث نلاحظ أن الكاتب يقتبس من الشيخ أمين الخولي تحديده لموعد القرن الثالث الهجري ولا أدري لأي سبب استند الشيخ أمين الخولي في هذا التحديد؟؟.. وبداية نقول إن التجديد والتطوير هو حاجة متواصلة ما بقي الإسلام وبقي المسلمون على ظهر هذه الأرض يعيشون بين الأمم ويمكننا أن نزعم أن التوقيت الذي اختارته السماء للبعثة النبوية المحمدية جاء مرتبطاً بوصول البشرية إلى مرحلة من التطور الإنساني والعقلي يسمح لها بتلقي الرسالة الإسلامية والتفاعل معها. لاحظ أننا نتحدث عن تلقي الرسالة والتفاعل معها سلباً أو إيجاباً ومحاولة الارتقاء بمستوى المجتمعات البشرية التي دخلت في هذا الدين إلا أن المشكلة التصورية الكبرى التي أعاقت وشلت أي إمكانية لتطوير واقع المسلمين من خلال الإسلام هو ما أسبغه وعاظ البلاط والمزورون على الحقبة الأولى من صفات بلغت وجاوزت حد الكمال وجعلت الكثير من المتعلمين يقولون حتى الآن كنا نتمنى أن نعيش في هذه الحياة يوم أن كنا أمريكا هذا العالم. وبغض النظر عن رأينا في النموذج الأمريكي اليوم أو غداً فإن هذه المبالغة هي التي أنتجت الآن أجيالاً متعاقبة من دعاة الإصلاح الذين لا يرون لهم من هدف إلا إعادة الأمة إلى اليوم الذي كنا فيه أمريكا العالم ولا أدري متى حدث هذا أو أي أمريكا يريدون أمريكا الباطشة بكل من يعارضها أم أمريكا التي تمنح العدل لمن تشاء وتحجبه عمن تشاء؟؟!!. إننا في حاجة ماسة لتأسيس فقه وفكر جديد يؤسس للحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والسياسية والمساواة بين البشر في الحقوق والواجبات وكلها قيم من صميم ديننا. من أسس لثقافة القهر والقمع؟؟ يروي ابن جرير الطبري في تاريخه ج5 ص254 (وأقام المغيرة بن شعبة عاملاً على الكوفة سبع سنين وأشهرا إلا أنه لا يدع ذم علي بن أبي طالب والوقوع فيه فكان حجر بن عدي إذا سمع ذلك قال بل إياكم فذمم الله ولعن ثم قام فقال إن الله عز وجل يقول (كونوا قوامين بالقسط شهداء لله) فلم يزل كذلك حتى جاء زياد بن عبيد الله والياً على الكوفة فقام خطيباً يوم الجمعة فأطال الخطبة وأخر الصلاة فقال له حجر بن عدي الصلاة فمضى في خطبته فلما خشي حجر فوت الصلاة ضرب بيده إلى كف من حصا وثار إلى الصلاة وثار الناس معه فلما رأى ذلك زياد نزل فصلى بالناس فلما فرغ من صلاته كتب إلى معاوية في أمره وألح عليه فأمر معاوية بن أبي سفيان باعتقاله وقتله هو ومن معه من أصحابه ثم أقيمت عليهم الشهادة من (فقيه السلطة أبي بردة بن أبي موسى الأشعري) الذي كتب وثيقة تقول (هذا ما شهد عليه أبو بردة بن أبي موسى الأشعري لله رب العالمين (!!) شهد أن حجر بن عدي خلع الطاعة وفارق الجماعة ولعن الخليفة ودعا إلى الحرب والفتنة وجمع إليه الجموع يدعوهم إلى نكث البيعة وخلع أمير المؤمنين معاوية وكفر بالله عز وجل كفرة صلعاء) ص269. أما عن الدستور السياسي الذي أعلنه معاوية بن أبي سفيان عند استلامه السلطة فلا يقل غرابة عن شهادة أبي بردة فقد خاطب الناس قائلاً والعهدة على أرباب التاريخ والسير(أتظنون أني قاتلتكم لتصلوا أو لتزكوا أو لتحجوا؟؟ إنكم لتفعلون وإنما قاتلتكم لأتأمر عليكم وقد أعطاني الله ذلك وأنتم كارهون). إذاً فنحن لا نشارك الدكتور نبيل فيما ذهب إليه استناداً للشيخ الخولي من أن الحاجة للتجديد بدأت منذ القرن الثالث ذلك التوقيت الذي يبدو أن الشيخ الخولي قد استقاه من رواية (خير القرون قرني ثم الذين يلونهم...) وهي رواية لا نعتقد لا بصحتها ولا بإطلاقها على كل من عاش في هذه القرون ولا على تلك الأوضاع السياسية القمعية التي ذكرنا جانباً منها باختصار شديد ناهيك عن أن ذلك التاريخ الذي يقول عنه البسطاء أنه يمثل الحقبة الأمريكية من التاريخ العربي الإسلامي يثبت أن الحاجة للتصحيح مقدمة على الحاجة للتجديد. إن هذا المقتطف التاريخي يكشف عن الطريقة التي تأسس بها نظامنا السياسي لأن الواقع هو ابن التاريخ وكيف جرى بناء (أعمدة الحكم السبعة كما يقولون) بدءاً من الإعلام المضلل وإصرار ذلك النظام على الاستفادة من منبر المسجد لتزييف الوعي وقلب الحقائق من خلال سب الإمام علي بن أبي طالب (ع) حتى تحول ذلك السب إلى شعيرة ثابتة من شعائر صلاة الجمعة حتى أن الناس رفضوا الصلاة يوم أن جاء العباسيون إلى الحكم قائلين (لا صلاة إلا بلعن أبي تراب) أما عن منطق القمع، فهو نهج ثابت لا يتغير والأهم من هذا هو الدور البشع الذي لعبه حامل القداسة والورع في إسباغ الشرعية على ذلك الجور والطغيان وتقديم شهادة شرعية (أن حجراً وأصحابه شقوا عصا الطاعة وفارقوا الجماعة ناهيك عن أنهم كفروا بالله كفرة صلعاء نسبة إلى علي بن أبي طالب) والثابت أن أغلب من جاءوا بعد هذه الواقعة حرصوا على إسباغ الشرعية على ذلك النهج التسلطي الفج الذي يجعل من الاستيلاء على السلطة نهجاً ثابتاً وأصيلاً ومن هنا ظهر فقه التبرير الذي يتلفع بادعاء الحرص على مصلحة الأمة وإدعاء القدرة على الموازنة بين (المصلحة والمفسدة المصلحة التي لا تتحقق بالخنوع والمفسدة التي تتحقق بالخروج الدموي على النظام الأموي المتسلط) وكأنه لا يوجد سبيل ثالث هو ما قدمه حجر بن عدي الكندي وأصحابه من رفض للإذعان لهذا المنطق السلطوي الفاجر حتى وإن أدى ذلك إلى استشهادهم. لقد قامت المرأة المسلمة الشاعرة هند ابنة زيد الأنصارية بدور المحلل السياسي ذلك الدور الذي عجز عن القيام به الكثير من رموز الماضي والحاضر حينما سجلت تلك الواقعة بقولها: ترفع أيها القمر المنــــــــــــير تبصر هل ترى حجراً يسيـــــر يسير إلى معاوية بن حــرب ليقتله كما أمــــــــــــــــــــــر الأمير تجبرت الجبابر بـــعد حجر وطاب لها الخورنق والســــــدير فالمسألة إذاً ليست إنتاجاً نفطقراطياً بل هو إنتاج عربي أموي أصيل بدأ من القرن الأول والمساهمات الدينية دائماً متوفرة وحاضرة في جراب الفتاوى الذي لا ينضب معينه فلكل حادثٍ حديث ولكل لابس قميص صحيح أن انسكاب النفط ودولاراته قد أشعل الحريق وعبر به الأطلنطي إلا أنه من الضروري أن (ننسب الفضل لأهل الفضل!!). هل يمكننا أن نؤسس من جديد لفقه الحرية؟؟ نختلف مع الدكتور نبيل عبد الفتاح حول تأريخه لحاجة الأمة للتصحيح والتجديد فالتأريخ يعني التحديد والتعريف بمن أسس لفقه القمع وما هي الأسس والمبادئ التي وضعها وسار عليها الأتباع حيث يتعين علينا أن نبدأ بإحياء تاريخ أسلافنا العظام الذين وقفوا في وجه ذلك التمدد الاستبدادي الاستئثاري، فالاستبداد هو قرين الظلم الاجتماعي والأثرة وهو المسؤول عن إيجاد تلك الدائرة المغلقة التي تتكون من سلطة تمسك بمفاتيح الثروة تعطيها لمن تشاء ممن يتحولون بعد ذلك إلى طبقة خادمة لأي سلطة تمنحهم مثل هذه المزايا وتمنعها عمن يمكن لهم أن يشكلوا يوماً ما قوة مستقلة فتجفف منابعهم المالية ومن ثم الفكرية والسياسية وتحيلهم إلى زوايا النسيان أو غياهب السجون وأخيراً إلى المقابر الاجتماعية لتبقى السلطة كل السلطة لأهل السلطة ولا سلطة لأعداء السلطة ذلك الشعار الجديد القديم. علينا أن نعيد إحياء ذلك الفكر من جديد وتسليط الضوء على هذه الرموز التي اختصرنا في هذا المقال حديثنا عن أحدهم حتى يتوقف ذلك الجدل العقيم عما إذا كان من الممكن أن نؤسس ديمقراطية إسلامية أم أن الديمقراطية لا تتحقق إلا من خلال فصل الدين عن السياسة فالدين ليس ملكاً لتنظيم ولا لحزب ولا لهيئة علمية أو اجتماعية ومن باب أولى ليس ملكاً لسلطة قاهرة تتحكم في كل شيء وهي التي أفسدت الدين من قبل وأخرجته عن مساره الطبيعي والمنطقي في إقامة العدل بين البشر، وحولته وحولت تلك الأبواق ممن هم على شاكلة أبي بردة إلى ترس في آلة للقمع الرهيب وتفترض الآن أن من حقها أن تحدد مسار الإصلاح والتجديد من خلال نفس الأدوات. إننا في حاجة ملحة لإحياء تلك القيم التحررية المعادية للطغيان والفساد (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين). |