أطفال يتربون على قيم الحرب |
عباس سرحان |
كانوا وما زالوا عند مفارق الطرق.. ينتشرون كالفراشات المجهدة حول السيارات .. يحومون حولها، يعرضون (بضائعهم) الرديئة بتوسل بريء، وهي ليست سوى علكة أو بعض علب السكائر... كذلك هم في الكراجات تنقلهم خطواتهم المتعبة بين المسافرين، يصفع وجوههم حر القيظ، فتصبغها سمرة متشابهة.. إنهم أزمة المجتمع شاخصة في كل مكان تقريباً.. مرة يبيعون أقداح الماء، وأخرى يتسولون، وثالثة يبيعون جهدهم الغض بأثمان بخسة في معامل الحرف اليدوية الجشعة.. أولئك هم أطفال العراق، ضحايا الحروب والديكتاتورية بالأمس واليوم، والخطر الذي بات يهدد المجتمع... الأطفال ثروة المستقبل، وهم رصيد أي شعب... إذا صلحوا صلح المجتمع، وإن فشلوا وكانوا عرضة للخراب السلوكي والمعرفي والقيمي، انعكس ذلك كله سوءاً وتدهوراً على مجتمعهم الذي يعيشون فيه.. عوامل كثيرة تسبب ضياع الأطفال، تأتي في مقدمتها الحروب، فالطفل الذي ينشأ في أجواء الخوف والرعب، ويعتمد محيطه ثقافة المصطلحات العنيفة التي تسود فيها مفاهيم القتل والإرهاب واللا أمن ينشأ عنيفاً وعائماً بين قيم سطحية لا تسهم في تطوير المجتمع، إن لم نقل أنها تسبب تدهوره وتراجعه.. الأطفال في المقررات الدولية عرفت المادة الأولى من اتفاقية حقوق الطفل التي تبنتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في 20\تشرين الثاني\1989 الطفل بالقول: (يعرف الطفل بأنه الشخص دون سن الثامنة عشرة، ما لم تعرف القوانين الوطنية السن القوانين الوطنية بأكبر من ذلك). بينما أكدت المواد من (1إلى 39) على واجبات الدولة تجاه الطفل، بدءا بعملها على عدم التمييز بين الأطفال وتوفيرها الرعاية اللازمة لنموهم بصورة طبيعية واحترامها لمسؤوليات الوالدين والأسرة تجاه أطفالها، ومروراً بحق الطفل بالحياة وحقه في الحصول على جنسية وضمان هويته وحريته في التعبير عن أفكاره، وانتهاء بحماية الأطفال من التعذيب والحرمان من الحرية، وضمان سلامته وعدم إشراكه بالنزاعات المسلحة.. وحين مطابقة هذه الحقوق التي نصت عليها المقررات الدولية الموقع عليها من قبل الكثير من الدول بينها العراق في ظل الحكومة العراقية السابقة، نجد أنهم لم يحصلوا على أدنى حق من هذه الحقوق، فهذه الحكومة شنت وتسببت بثلاثة حروب كبرى فضلاً عن عشرات المعارك والأعمال الحربية الداخلية والخارجية، ألحقت أضرارا بالغة بالبنى التحتية للاقتصاد والمجتمع، كان أطفال العراق الأكثر تضرراً منها، كما أنها اعتقلت عشرات الآلاف من الأطفال مع ذويهم، لأسباب سياسية في ظروف انعدمت فيها أبسط وسائل الرعاية الصحية، فضلاً عن تعريضها أطفال المعتقلات الذين ولدوا بصورة مشروعة أو غير مشروعة، إلى ظروف غاية في الخطورة، فهي إما قتلت هؤلاء أمام أعين آبائهم لغرض انتزاع الاعترافات، أو أرغمتهم للقيام بأعمال لا تتناسب وأعمارهم.. ولم تكتف الحكومة العراقية المنهارة بكل هذا بل تسببت بسلب الكثير من الأطفال العراقيين حقهم بالجنسية العراقية، فعشرات الآلاف من هؤلاء، إما هجروا مع ذويهم، أو ولدوا في بلدان المهجر، سيما تلك التي لا تضمن حقوق اللاجئين، فوقعوا ضمن حالة اللاجنسية، وهي حالة شاذة في القانون الدولي.. وربما الأكثر خطورة من هذا وذاك هو تسبب الحكومة العراقية السابقة بشيوع التخلف والأمية في أوساط الأطفال بدءا من عام 1980 وحتى الآن حيث ما زال المجتمع العراقي يعاني من الآثار السيئة للحروب والعوز الاقتصادي. أزمة أخلاقية في العراق اليوم يعاني المجتمع من أزمة أخلاقية وقيمية كبيرة، سيما في أوساط جيل الحرب.. هذا الجيل نشأ معظمه على قيم طارئة على المجتمع غريبة عنه.. فهناك اليوم شباب وأطفال يحملون السلاح ويقطعون الطرق.. يستولون على أموال الناس ويقتلونهم أحياناً بدم بارد، فالقتل لم يعد مرفوضاً في أذهانهم كما هو مرفوض في أذهان الأسوياء، لأنهم ببساطة لا يجدون في ضمائرهم حائلاً قيمياً يستنكر الفعل ويعتبره جريمة.. من السهل أن تجد سارقاً يعتبر السرقة فعلاً مشروعاً لأنه فقير بينما الآخرون أغنياء.. ومن (الطبيعي) بل لنقل من المعتاد أن ترى أطفالاً يتأبطون بنادقهم بحثاً عن (الرزق) مستغلين تردي الأوضاع الأمنية.. لماذا حصل هذا؟ وكيف تغيرت قيم المجتمع العراقي وهو إلى وقت قريب مجتمع تسود فيه سلطة أسرية تتمثل بالأب أو الأخ الأكبر، فضلاً عن سلطة رئيس العشيرة أو القبيلة.. لماذا اختفى هؤلاء وساد الأطفال المتمردون الذين لا يعتدّون بأي سلطة اجتماعية أو ثقافية أو دينية؟
إنها الحرب!! خاض العراق منذ مطلع الثمانينات من القرن الماضي مجموعة من الحروب الإقليمية استنزفت الكثير من طاقاته المادية والبشرية وأتت على منظومته القيمية بشكل جسيم.. الحرب تعني الموت قتلاً بكثرة، ففي كل حي من أحياء العراق مهما صغر هناك عشرات القتلى سقطوا ضمن تلك السلسلة الحربية التي بدأت عام 1980 ولم تنته إلى الآن.. هذا القتل الجماعي يصدم وجدان الأطفال باديء الأمر ويضعهم أمام تساؤلات تبحث عن فلسفة لهذا الموت الجماعي، فلماذا يقتل الإنسان إنساناً آخر.. لماذا يحتاج إلى تجييش الأحقاد ضده عبر شعارات إعلامية واسعة؟؟ وحين تطول الحروب لا يستطيع أحد إيجاد تبرير منطقي يمنع الأطفال من الوقوع في مطبات الفهم السلبي لأسبابها ويجنبهم آثارها السيئة.. ولعل الأمر يبدو أكثر تهديداً حين يجد الأطفال أنفسهم بين كماشتين لا ترحمان.. فبسبب الحرب تفقد كثير من الأسر آباءها أو معيليها.. عندها يتشتت شملها وتتيه في مجاهيل خطيرة وينشأ أطفالها بعيداً عن أي رقيب قوي ومتابع، هذا إذا لم يتفتت ما بقي من شمل الأسرة حين تتزوج الأم من رجل آخر، أو يأخذ أهل الزوج المتوفى أبناءهم ليتربوا دون رعاية حميمة في ظل عائلة أخرى. أما إذا قبلت الأم التحدي الصعب وقررت أن تربي أطفالها ولم تفرط بهم، فهي تضع نفسها أمام عوامل صعبة.. عليها أن تتولى الإنفاق على عائلة في ظل ظروف اقتصادية واجتماعية قاهرة، فمجتمع كالمجتمع العراقي لم يعتد سابقاً على أن يرى المرأة تعمل إلا قبل سنوات قليلة، أو لنقل أن أغلب الأمهات في المجتمع العراقي هن من صنف ربات البيوت اللواتي لا يجيدن أعمالاً أخرى غير مهنة البيت والاهتمام بالأسرة، ثم في ظل ظروف اقتصادية سيئة ومتدهورة ما عسى المرأة أن تعمل ؟ ربما عمل بعض النساء في الزراعة وعمل بعضهن في مهن البناء وأعمال الخدمة. ولكن أخريات عملن أيضاً متسولات، وبينما تعمل الأم متسولة، فخير للمجتمع أن لا يرى أبناءها!! حين تضطر المرأة للتواجد خارج منزلها فهناك فراغ ينشأ في ذات المنزل، وسيترك الأطفال دون رعاية واهتمام حريصين.. والفك الأخر من كماشة الحرب هو ما يصحبها من ترد ثقافي ومعنوي يقل نظيره في الظروف الطبيعية.. أحد الأطفال التقيناه بينما كان يدفع عربة لنقل البضائع، ترك المدرسة ولم ينه بعد الصف الثاني الابتدائي لأن أسرته غير قادرة على دفع تكاليف الدراسة التي كانت تفرضها الحكومة العراقية السابقة في عهد صدام حسين، ومن الثابت أن حكومة صدام عمدت إلى سياسة تجهيل متعمدة ضد الشعب العراقي ففرضت رسوماً على الدراسة كان من الممكن استيفاؤها من تكاليف القصور الفخمة التي أفرط صدام في بنائها لحسابه طوال سنوات الحصار الذي فرض على العراق مطلع التسعينات وإلى ما بعيد سقوط نظام صدام حسين! ولكن طفلاً آخر كانت أسرته السبب في تركه المدرسة.. إنها وسط حالة من الإحباط التي خيمت على المجتمع العراقي لم تر جدوى من ذهاب ابنها إلى مكان (لا يخرج إلا باعة أرصفة) وتحملها نفقاتها طالما خريجي الجامعات يساقون للجيش، أو يبيعون السكائر وعلب الكبريت على قارعات الطرق، وطالما أن الحكومة العراقية السابقة لم توفر فرص عمل للخريجين.. ولا يخفى أن الكثير من أصحاب الوظائف كانوا تركوا وظائفهم واتجهوا للأعمال الحرة بعد أن عجزت مرتبات الوظيفة عن سد احتياجات أسرهم لمدة أسبوع واحد! والمهم هو أن معظم أرباب الأسر منعوا أبناءهم من المدرسة محتجين بأولئك الذين تعلموا فجلسوا على الأرصفة كباعة متجولين! مجتمع مشلول الحرب إذن وما نجم عنها، والحصار الاقتصادي وانتشار الفقر والأمية، أنتجت جميعا إحباطاً واسعاً، أنتج بدوره مجتمعاً تسود فيه شرائح خطرة يمكن أن تقتل لتعيش أو تحصل على المال دون أي وازع من ضمير أو خشية من عقاب، ولعل ما تشهده الكثير من الأحياء العراقية هذه الأيام من انتشار الجريمة المنظمة في أوضح صور عمليات السطو المسلح التي يقوم بها شباب في سن المراهقة أو لم يتجاوزوا منتصف العقد الثالث بعد، هي مؤشر خطير على هذا التردي الذي يشهده المجتمع العراقي، الذي بات يعاني من صدمة كبيرة جراء انزواء القيم الفاضلة تحت وطأة التهديد بالسلاح.. المثقفون والمتدينون وأصحاب الكفاءات لم يأخذوا بزمام المبادرة وآثروا السلامة على مواجهة تيار الجريمة القوي الذي يسود أوساطاً شابة متهورة لن تتورع عن تصفية كل من يعترض طريقها، أو يوجه لها النقد، ففي مرات عدة خسر رجال أرواحهم لأنهم امتعضوا من ممارسات طائشة تعكر صفو المجتمع، بينما استسلم كثيرون لمطالب سارقيهم ومبتز يهم حامدين الله على سلامتهم وإن خسروا أموالهم.. في أحد الأحياء، وهي حالة تكررت كثيراً ــ خرج رجل عراقي فلم يجد سيارته، ولكنه لم ينتظر طويلاً قبل أن يتصل به أشخاص ملثمون طلبوا منه أن يصحبهم إلى مكان ما ليراها في المكان الذي حددوه.. وجد العديد من السيارات المسروقة، بينها سيارته التي رفض السراق إرجاعها له إلا بعد أن يدفع ألف دولار!! ولم يشأ الرجل إخبارهم أنه لا يريدها، فوعدهم بالرد عليهم فيما بعد.. وهددوه أنه لو اتصل بجهة ما لغرض العون والمساعدة فسيفجرون بيته على رؤوس عائلته!! كان هؤلاء وأولئك الذين دخلوا منزلا وسلبوا النساء فيه مصوغاتهن تحت تهديد السلاح، لم تتجاوز أعمارهم منتصف العقد الثالث وربما أقل من ذلك بكثير. رأي مختص الدكتور مكي عبد المجيد \ معاون عميد كلية القانون جامعة أهل البيت، والمختص بعلم الاجتماع : (الحرب حدث كارثي يلحق الضرر بالمجتمع بأسره، ولكنها تؤثر على الأطفال كونهم أكثر استعدادا للتأثر بها وهي تعني جملة أشياء بينها الحرمان، وهذا يتسبب ببناءات خاطئة وخطيرة في شخصية الطفل.. فالطفل الذي لا ينمو في أجواء هادئة ومستقرة، ستكون شخصيته انفعالية مترددة وارتدادية غير منسجمة. وبعبارة أخرى سيكون هذا الشخص مشروعا مستقبليا للجريمة). ويضيف: (الحرب تخلق أجواء غير ملائمة لنمو الطفل، طالما فيها الموت والخراب والجوع .. وهذه المعاني تكفي لزعزعة أمن المجتمع وسلبه استقراره، الأمر الذي يؤدي بالتالي إلى خلق بيئة غير مواتية للنمو السوي بين الأطفال، الذين سينشأون مشوهين سلوكيا.. ولكن مع ذلك لابد من التوصل إلى آلية مدروسة في معالجة هذه الأزمة، ولن تكون هذه المعالجة سريعة حتماً، ولكنها ممكنة مع الأيام). ويصف الدكتور مكي عبد المجيد أهم عناصر هذه الآلية قائلا: (الدولة، الأسرة، المؤسسات الدينية والتربوية) بينما يرى أن أهم تطبيقاتها هي في رصد مواطن الخلل الاجتماعي والسعي لمعالجته، ويضيف: (ضمن أولويات المرحلة يجب على المعنيين اتخاذ قرار فاعل بإعادة كل الأطفال والصبية من تاركي المدرسة إلى مقاعدهم، والعمل على تطوير برامج الإعلام التربوي الهادف والمؤكد على أهمية قيم الصدق والأمانة والنزاهة، لإعادة الاعتبار للشخصية العراقية بعد أزمة القيم التي أنتجتها الحروب والسياسات الطائشة). الخروج من الأزمة ربما يمكن الخروج من الأزمات السياسية أو حتى الاقتصادية عبر خطة يتم وضعها على الورق لتطبق فيما بعد اعتمادا على الأرقام التي وضعت، ولكن الأمر يختلف حين التعامل مع الإصلاح الاجتماعي، إذ لا يمكن نزع الأفكار السيئة من أذهان الناس وتطهير سلوكهم بطريقة حسابية، أو ميكانيكية.. هذا الأمر يحتاج إلى دراسات دقيقة موسعة يضعها خبراء، تنهض بتنفيذها جهات مسؤولة حريصة على سلامة المجتمع. ولكن أهم ما يقال في هذا المجال أن المجتمع العراقي يحتاج إلى: 1-ممارسات عاجلة تبدأ بتوفير فرص عمل للعاطلين، وتوفير ضمان إجتماعي للعوائل الفقيرة. 2- إدخال التعليم إلى كل بيت من خلال رفع المعوقات التي تحول دون التحاق الأطفال، وحتى الكبار ضمن أعمار مناسبة بالمدارس. 3- قيام مؤسسات اجتماعية تربوية رسمية وغير رسمية تأخذ على عاتقها مهمة تأهيل العناصر السيئة في أوساط الأطفال والمراهقين والشباب.. ربما من السهل أن يقول المرء ما يراه مناسباً في موضوع ما، ولكن العمل يحتاج إلى تصميم وإرادة وخطة عمل تنفذ ضمن وقت محدد بدقة.. فهل تلتفت الجهات المعنية بهذا الأمر لحجم المخاطر التي تحيق بالمجتمع العراقي فتشرع لمعالجتها؟ |