أهمية المنظمات الأهلية العربية في التنمية |
الدكتور كريم أبو حلاوة* |
تهدف هذه الورقة إلى مناقشة دور المنظمات الأهلية العربيةNGOs، في التنمية البشرية المستدامة كما أوضحتها أدبيات وتقارير البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة في العالم(UNDP) فما الذي نقصده بالمنظمات الأهلية وكيف يمكن لها أن تساهم في العملية التنموية إلى جانب الدولة والقطاع الخاص؟ ثم ما هي المعيقات التي تحول دون فاعلية العمل الأهلي العربي، وهل تكمن مشكلته بالقوانين التي تحكم عمله، أو في ارتباطاته الخارجية وسهولة اختراق منظماته من خلال التمويل الخارجي وفرض أولويات عمله واهتماماته من قبل الجهات الممولة؟ أولاً: محاولة تعريف يشير مفهوم المنظمات الأهلية غير الحكومية المعروفة اختصاراً(NGOs)إلى جملة المبادرات الاجتماعية الطوعية التي تنشط في مجالات مختلفة مثل: الخدمات الاجتماعية والمساعدات الخيرية وخدمات التعليم والصحة والثقافة إضافة إلى الاهتمام بشؤون البيئة والتنمية والتدريب المهني وتأهيل النساء وتنمية المجتمعات المحلية والدفاع عن حقوق الإنسان والطفل وغيرها. ويتحدد موقع هذه المنظمات بين الدولة من طرف والقطاع الخاص الهادف للربح من طرف آخر، وتتكون بناء على اهتمام عام مشترك لتحقيق منافع جمعية، وتتميز بالسمات الخمس التالية: الطوعية، الاستقلالية، عدم السعي للربح، عدم السعي إلى الخدمة الشخصية للأعضاء، المشاركة في الشأن العام. ثانياً: ملامح القطاع الأهلي في العالم العربي تشير المعطيات المتوفرة إلى وجود 70000 منظمة أهلية عربية، أي وجود عدد ضخم من المبادرات الشعبية والتي يمكن تصنيفها، حسب النشاطات التي تقدمها، إلى خمسة أنواع أنواع: أولاً: الجمعيات الخيرية، وتضم مجمل المنظمات الأهلية التي تعمل في مجال العمل الخيري بشكله التقليدي الذي يعتمد صيغة مانح وممنوح، تتراوح نسبة الجميعات الخيرية بين 34% من مجمل المنظمات الأهلية في مصر، وتصل في سورية إلى نسبة 80% في حين تصل في الخليج العربي إلى 905 وتتراوح بقية النسب في باقي الدول العربية بين هاتين النسبتين، إلا أنها وبالمتوسط العام الشكل الأساسي لعمل المنظمات الأهلية العربية. ثانياً: منظمات الخدمة والرعاية الاجتماعية. وهي منظمات أهلية تنشط في مجالات اجتماعية عديدة وتقدم خدمات صحية وخدمات اقتصادية واجتماعية متنوعة كالأطفال والمرأة والمسنين والأسرة وغيرها. ثالثاً: منظمات التنمية. وهو نوع جديد من منظمات العمل الأهلي بدأ يتنامى تدريجياً في المجتمعات العربية، يهدف هذا النمط من الجمعيات الأهلية إلى تحقيق التنمية في إطار مجتمع محلي محدد. رابعاً: منظمات دفاعية: أي منظمات التأثير والرأي(Advocacy)ومن أمثلتها منظمات حقوق الإنسان، والدفاع عن المرأة وحقوقها، ومنظمات حقوق المعاقين، ومنظمات ظهرت مؤخراً تعنى بالدفاع عن حقوق الأطفال الذين ليس لهم مأوى، إضافة إلى منظمات الدفاع عن البيئة. خامساً: منظمات ثقافية متنوعة. كالجمعيات الأدبية واتحادات الكتاب والفنانين وجمعيات الشعر والقصة والرواية... الخ، إضافة إلى منظمات تأهيل وتدريب ومحو الأمية للكبار وغيرها. والمشترك بين المنظمات الأهلية السابقة على اختلاف أنواعها ونشاطاتها أنها غير هادفة للربح أولاً، وهي منظمات غير حكومية ثانياً، وثالثاً تقوم بمبادرات أهلية وشعبية طوعية لتلبية حاجات أو مطالب اجتماعية والمشاركة في عملية التنمية. ثالثاً: دور المنظمات الأهلية في معالجة الفقر نظراً للطبيعة التركيبية والمعقدة لظاهرة الفقر إن على مستوى الأسباب أو على مستوى النتائج، فإن أي معالجة أو استجابة فعلية لا بد وأن تكون على مستوى خطورة الظاهرة، لهذا فإنه لا غنى من الناحية المبدئية عن تضافر كل الجهود المعنية بالشأن التنموي في معالجة كهذه، سواء اتصلت بمؤسسات الدولة وخططها أو تعلقت بنشاط المنظمات الأهلية أو بمساهمات القطاع الخاص. وسنقصر اهتمامنا في هذه الدراسة على الدور الذي تقوم به المنظمات الأهلية العربية في مواجهة مشكلة الفقر في مختلف مراحل المعالجة التي تبدأ بالتشخيص والتوصيف وصولاً إلى تحليل الأسباب وتحديد المعالجات الملائمة وتنفيذها. وكما لاحظنا عند بحث ملامح القطاع الأهلي في العالم العربي، إن السمة الأساسية لمعظم المنظمات الأهلية العاملة في البلدان العربية هي العمل من أجل تحقيق أهداف خيرية تستهدف مساعدة الفقراء بشكل أساسي. ففي حالة مصر حيث تصل نسبة السكان تحت خط الفقر إلى 25% في الريف و23% عموماً، تتعاون الحكومة مع قطاع كبير من الجمعيات الأهلية في تنفيذ مشروع الأسر المنتجة، وهو مشروع اجتماعي له صبغة اقتصادية ويهدف إلى استثمار جهود الأسرة بتحويل المنزل إلى وحدة إنتاج تعين أفرادها على زيادة الدخل واستيعاب العمالة المعطلة، ويتم تنفيذ المشروع من خلال آلاف الجمعيات المنتشرة في أنحاء البلاد تحت اسم الجمعية العامة للتدريب المهني والأسر المنتجة) تقوم هذه المنظمة بإقراض المواطنين لإقامة مشروعاتهم وتوفر لهم المعدات والخامات ورأس المال، ثم تقوم بتسويق منتجاتهم محلياً وعالمياً، وكما توضح دراسة (أماني قنديل) تطور هذا المشروع بشكل كبير وحصل على معونات ضخمة من داخل مصر وخارجها، وبعد أن كانت الأسرة المستفيدة حوالي 7001 اسرة فقط وصل عام 1990 إلى أكثر من ربع مليون أسرة وثمّ إلى حوالي مليون أسرة سنة 1993م. في حين يشكل (المشروع الوطني لتطوير الحرف اليدوية التقليدية) نموذجاً آخر من الأردن، تشرف على تنفيذه مؤسسة الملكة نور، والتي أنشئت عام 1985 والهدف منه توفير فرص عمل لمواطنين من ذوي الدخل المحدود مع إحياء الحرف اليدوية والتقليدية. وتأخذ المؤسسة على عاتقها تسويق منتجات هذا المشروع محلياً وعالمياً، وقد بلغ عدد المستفيدين من خدماته عام 1992م حوالي 200 ألف شخص من بينهم 740 سيدة في مختلف أنحاء الأردن. أما النموذج الثالث فهو من اليمن، حيث تأسست الجمعية الاجتماعية لتنمية الأسرة عام 1990 وتوجهت بشكل أساسي نحو الفقراء وسكان الصفيح، اعتمدت المنظمة مساعدة الفقراء من خلال إنشاء مركز للتأهيل والتدريب أسهمت في تمويل نشاطه منظمات دولية مثل (أوكسفام) حيث تقوم بتنفيذ برامج تأهيلية وتدريبية لإعداد هذه الشريحة للعمل، كما قامت بمساعدتهم على الالتحاق بأعمال مختلفة تحتاجها سوق العمل. توضح النماذج السابقة كفاءة المعالجات غير التقليدية التي تقوم بها المنظمات الأهلية العاملة في مجال التنمية لمواجهة مشكلة الفقر، ويمكن لها أن تكون نموذجاً يحتذى لتفعيل عمل بقية الجمعيات والمنظمات الأهلية التي مازالت تمارس العمل الخيري بشكله التقليدي. كما أن نجاح التجارب السابقة يمكن أن يكون عاملاً محفزاً لبقية المنظمات العاملة في المجال الاجتماعي والتنموي لإدخال الكثير من معايير الكفاءة والمردودية الاقتصادية والاجتماعية لتقييم حصيلة نشاطاتها وتوجيه إمكانياتها ومواردها للمساهمة في مواجهة ظاهرة الفقر بوصفها تحد تنموي لا بد من مواجهته بكافة تمظهراته المتعلقة بالأسباب والآليات، والنتائج انطلاقاً من تصور استراتيجي يكفل الاستمرارية بين كافة الجهات المهتمة بهذه الظاهرة ومتعلقاتها. نظرة نقدية: الصعوبات التي تواجه المنظمات الأهلية تواجه المنظمات الأهلية العربية في إطار تعزيز دورها التنموي الراهن والمستقبلي جملة من الصعوبات والعوائق تحول دون أدائها لرسالتها المجتمعية أو تعرقل قيامها بالوظائف والأدوار المأمولة منها، ولعل قضية استقلال المنظمات الأهلية، سواء بالنسبة لعلاقتها بالدولة وبالقوانين التي تنظم نشاطاتها، او بالنسبة لاستقلالها إزاء مصادر التمويل والأجنبية منها بشكل خاص، وما تثيره من تحفظات وهواجس، في طليعة الصعوبات والمشكلات التي تواجه عمل هذه المنظمات. تنجم مشكلة الاستقلالية في وجهها الأول المرتبط بالدولة عن فهم ملتبس لمكانة ودور ووظائف التنظيمات الأهلية في المجتمع، وما يعزز هذا الإشكال ويزيد من سوء الفهم المحتمل، الفصل المبالغ فيه - في فهم التنمية الشاملة - بين الجانب الاقتصادي والاجتماعي من جهة، وبين الجانب السياسي من جهة أخرى، بما يشكله من مكون مفصلي وحاسم في إنجاح الخطط التنموية أو في إخفاقها. وفي هذا السياق يوجه العديد من الباحثين انتقادات متزايدة لنزع فكرة التسييس والابتعاد عن كل ما يتصل بالسياسة في عمل المنظمات الأهلية، ومع أن انخراط تنظيمات العمل الأهلي في العمل السياسي المباشر ليس ضرورياً وربما لا يوكن مطلوباً على أي حال، لكن العمل في ميدان التنمية والانخراط في القضايا التي تهتم بالشأن العام هي أعمال سياسية بالمعنى الواسع والمطلوب إذا ما أردنا للنشاط الأهلي أن يتجاوز القيام بأدوار تنفيذية وفنية بحتة باتجاه المشاركة في رسم السياسات التنموية والإشراف على سيرها وتنفيذها. في حين يرتبط استقلال هيئات ومنظمات العمل الأهلي في وجهها الآخر بمصادر التمويل وما ينجم عنه من التزامات وتدخلات قد تضعف استقلالية القرار داخل هذه المنظمات وتجعلها ملزمة بتبني السياسات والخطط والأولويات المقترحة من الجهات المانحة والممولة لنشاطاتها. يأخذ بعض الباحثين على العديد من المنظمات الأهلية، ارتباط التدفق الأجنبي للتمويل والمساعدات بمجالات معينة دون غيرها، حيث ترتبط هذه المجالات بأولويات المانح الأجنبي لا بحاجات المجتمع المحلي، من ذلك مثلاً تدفق الملايين من الدولارات في السنوات القليلة الماضية لدعم مشروعات البيئة دون ارتباط ذلك بقضايا التنمية التي تهم المجتمعات المحلية. ورغم ما للبيئة من أهمية فإن تواجدها الكثيف المتزامن مع اتساع مساحات الفقر والفقراء يثير الكثير من التحفظات ويحتاج إلى مراجعة وإعادة نظر. تصف (مايلا بخاش) المسؤولة التنفيذية في الحركة الاجتماعية في لبنان، طريقة تخصيص التقديمات والمساعدات بالقول: (عقلية الاستعراض تحكم آلية عمل الجهة المانحة، المطلوب تغيير العناوين والمضامين باستمرار بغية لفت الأنظار، والجمعيات المحلية تتلاعب على هذا المسار الذي يصعب تغييره، فالكل يريد جني التفاحة ولا أحد يهتم بتمويل نمو الجذع، المؤسسات المانحة الأجنبية تخضع هي أيضاً لضغوط التمويل والمشكلة الأساسية تكمن لدى الدول والأمم المتحدة التي تحدد اتجاهات عامة للسياسات التنموية، فالسنة سنة شباب، ثم سنة العجوز... فتضطر الجمعيات إلى تغيير مشاريعها بحسب الموضة العالمية لتحصل على التمويل وإلا تقفل أبوابها، والمؤسسات الممولة نفسها قصير، في حين أن مشاريع التنمية طويلة المدى)). يكثف النص السابق المحاذير الناجمة عن التمويل الخارجي، وينبه إلى مسألة في غاية الخطورة وهي التغيير المستمر في أهداف التمويل بشكل سنوي، في حين أن مشاريع تنمية المجتمعات المحلية تحتاج إلى استمرارية ومتابعة لفترات طويلة نسبياً قبل أن تؤتي نتائجها المرجوة. من هنا تبرز أهمية تنويع مصادر تمويل المنظمات الأهلية العربية، وذلك عبر اجتذاب دعم القطاع الخاص وتفعيل المصادر التقليدية للتمويل كالزكاة والصدقات والأوقاف والتبرعات المختلفة، والأهم من كل ما سبق إعطاء أولوية لتنمية مصادر التمويل من إمكانيات المجتمعات المحلية، وقيام المنظمات الأهلية بإجراء دراسات الجدوى الاقتصادية والاجتماعية لمشروعاتها بما يضفي عليها طابع الشفافية والمصداقية ويساعد في إقناع الجهات الممولة بجدوى هذه المشاريع ونجاحها، وهذا لا يعني بطبيعة الحال الاستغناء عن التمويل وتأمين مستلزمات المشاريع الأساسية لفترات زمنية كافية. ولا يقل مطلب تحقيق المؤسسية في عمل المنظمات الأهلية أهمية عن مطلب استقلاليتها. فمن الصعب تصور عمل هذه المنظمات في أواخر القرن العشرين وفق منطلق النوايا الحسنة والجهود الخيرة على أهميتها وضرورتها، يعني تحقيق المؤسسية العمل وفق قواعد القوانين والفصل بين الشخص والوظيفة، إضافة لضمان دوران السلطة وتدوير النخبة داخل كل منظمة، وما يرتبه ذلك من ضمانات لتحقيق الممارسة الديمقراطية سواء على مستوى صنع سياسات المنظمات أو على صعيد العمل الميداني والتنفيذ، أي أن مطلب المؤسسية يتصل بالتحديث الإداري لهيكلية هذه المنظمات وتغيير في بنائها المؤسسي لتحقيق أفضل من الأداء المهني وتحقيق غايات المشاركة المجتمعية عبر بناء جسور الثقة والتفاهم بين كافة الأطراف المعنية بالتنمية. من هنا يكتسب مفهوم بناء القدرات للمنظمات الأهلية العربية أبعاداً وفضاءات جديدة. وهذا ما توضحه أماني قنديل في شرحها لمفهوم بناء القدرات بوصفه عملية تدخل مقصود لتحسين وتطوير أداء المنظمة، في علاقتها برسالتها وأهدافها، وفي علاقتها بالإطار الثقافي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي الذي توجد فيه، وفي توظيف مواردها بما يحقق لها الاستدامة. لا تقلل الانتقادات والتحفظات السابقة برأينا من قيمة العمل الأهلي، بل على العكس فهي ومن خلال تسليط الضوء على نقاط الضعف، وعبر كشف الثغرات والنواقص التي تعاني منها المنظمات الأهلية العربية، ترتب عليها الاضطلاع بمهامها وأخذ هذه الانتقادات بعين الاعتبار، بغية زيادة كفاءة وفعالية هذه المنظمات وتعضيد دورها في العمل التنموي، لأن نجاحها في أداء مهماتها كسب للمجتمعات العربية وفسحة أمل واعدة لمواجهة أعقد رهانين تواجههما مجتمعاتنا على أبواب القرن الحادي والعشرين وهما رهان التنمية ورهان الديمقراطية، بغير ذلك سيبقى عملها بمثابة خلق جزر من الرفاهية والتنمية في بحر من الحرمان وفقدان النمو.
*كاتب وباحث سوري في الشؤون الاستراتيجية |