الاصلاح التعليمي وضرورة التغير الايجابي |
أحمد زكي الانباري |
هذا البحث، ما هو إلا طرح رؤية، أرى أن فيها ما يتوافق والتحولات التي يعيشها العراق، وهي بالتالي تساهم في بناء المؤسسة التعليمية، بناءً صحيحاً يبعدها عن الانحطاط والتخلف التي غرقت فيه على مدى العقود الماضية، والتي كانت فيه المؤسسة التربوية عرضة للانتهاك والتجاوز الأخلاقي، مما جعل الهوة واسعة بيننا وبين المجتمعات الأخرى التي استطاعت التخلص من الفردانية في الحكم، والسيطرة والشمولية وإخضاع المجتمع للرأي الواحد، الذي احتكر الفعالية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتربوية، وقام بتقنينها منهجاً وسلوكاً لتصب في منافعه وتطبل لشعائريته الزائفة، مما أدى بالعملية التربوية إلى الانكماش والتقوقع في الوقت الذي نرى أن المجتمعات المتقدمة رأت في التعليم ما يوطد الحياة الديمقراطية، لأنها اعتقدت وآمنت بأن نشر العلم بين طبقات الشعب من الأسس المتينة التي يقوم عليها صرح الحرية والاستقلال الوطني، لأن الحرية لا تستقيم مع الجهل، لأن دعامتها(التعليم الذي يشعر الفرد بواجبه وحقه وبواجبات نظرائه وحقوقهم الديمقراطية(1). وهذا يدفعنا للقيام(بتغيير جذري في نظام التربية والتعليم من أجل بناء الفرد والمجتمع)(2) كي نتمكن من بناء شخصية قوية منتجة لا تعاني من العقد والإحباطات، وتستشرف المستقبل، لا من خلال الأماني والخطاب الديماغوجي، وإنما بالنزوع(لدراسة المستقبل بهدف التنبؤ والاستعداد والتأثير فيه)(3)، منطلقين في ذلك من عملية استقراء تعتمد العلمية والمنطق للحاضر وإشكالياته، لأنه لم يعد التعليم في ضوء الدراسات الحديثة، وما أثمر تمعن نظريات جديدة في مجال تعريف التعليم، وما أتاحه التقدم التكنولوجي من وسائل مساعدة للاختبار والقياس ينظر إليه لتحصيل للمعرفة والمهارات، أو أنه تدريب عقلي! بل أصبح ينظر إليه بأنه عملية تربوية تهدف إلى إحداث تغيير في السلوك معتمداً على(عوامل عدة في بيئة المتعلم الكلية وأثر الخبرة التعليمية على شخصية وسلوك الإنسان)(4). و هذا في حالتنا الآن يستوجب للوصول إلى المسار الاجتماعي/الحضاري الصحيح، القيام بالإصلاح والتغيير الجذري لنظام التربية والتعليم من أجل قيام مجتمع جديد متوازن وواع، وهذا يتطلب القيام بمهمتين أساسيتين هما(التخطيط والتنفيذ، مع تهيئة الضمانة الإجرائية اللازمة)(5) لتغيير الفرد الذي هو النواة الأساسية في المجموعة الاجتماعية وجعله إنساناً جديداً متوافقاً مع المفاهيم والأفكار الجديدة التي تتيحها له الحرية التي استعادها بعد أن فقدها لعقودٍ من الزمن. وعملية التغيير والإصلاح هذه لا يمكن أن تتم بعفوية أو بالعصا السحرية، بل إنها تتطلب (عملية شاملة من التربية والإرشاد)(6) تفسح المجال للفرد بالوصول بقدراته واستعداداته إلى أقصى طاقاتها، وذلك من خلال نظام يسمح بالمرونة في إعداد وتخطيط المناهج وتنظيمها بما يتوافق والطيف المجتمعي للعراق وحاجاته، مؤمنين(بأن الشيء المهم في التعليم ليس فيما تحتويه المادة ذاتها بل في القدرة العقلية الهامة التي تنمو نتيجة لها، فقد وجه علم النفس الوظيفي أنظار المربين إلى رأي جديد، وهو أن الإنسان يتعلم طرقاً معينة نتيجة لاستجابته لمواقف معينة، أي أن استجابة الفرد تتنوع تبعاً لنوع المواقف التعليمية)(7) لأن الإصلاح والتغيير الذي نريده لمجتمعنا الجديد، لا ينبغي أن يكون عشوائياً، بل يجب أن يسير وفق القيم التي يرسمها الدستور للمجتمع، من أجل إقامة المجتمع الديمقراطي، لأن إصلاح النظم المدرسية القائمة(بين الفينة والفينة مطلب ضروري، لاسيما وأن الشروط الاجتماعية الجديدة، وتطور العلوم الإنسانية، تجعل التغيير والتطور ضرورياً)(8). على ضوء ما تقدم سوف نتناول في بحثنا هذا محورين يشكلان العصب والعمود الفقري للعملية التربوية التعليمية هما(المدرسة والمنهج) مؤكدين أن الإصلاح لا يمكن أن يتم دون وثائق كافية ودون اتصال حي فعلي بالواقع المدرسي، لذلك لابد من اعتماد أصول البحث العلمي المنظم، وإلا كنا أمام اجتهادات شخصية، يمكن أن تدحظها اجتهادات شخصية أخرى، إذ أن من شروط نجاح الإصلاح والتغيير أن يتم(التعاون بين القائمين بالبحث وبين الهيئة التعليمية والإداريين والباحثين المختصين وسائر الأشخاص المعينين بالحياة المدرسية)(9).
دور المدرسة في الإصلاح والتغيير بما أن المدرسة هيئة اجتماعية تساهم في تحقيق أهداف وقيم المجتمع الذي تعمل فيه، فهي مؤهلة لأن تقود الإصلاح والتغيير الاجتماعي، الذي تؤثر فيه(المدرسة أثراً كبيراً في تطور وإصلاح شأنه، لأن إصلاح وتغيير المجتمع لا يمكن أن يكون ناجحاً ومثمراً إلا إذا وعاه الناشئون وعياً أكيداً وعملوا على تحقيقه)(10)،لأن بين المدرسة والمجتمع في كل زمان ومكان ارتباطاً وثيقاً وتفاعلاً شديداً.مما يمكن المدرسة من (تغيير وتعديل قواعد السلوك لتلاميذها، لأنها تعمل في وسط ثقافي يؤثر كثيراً في التلاميذ)(11) بحيث يؤدي إلى تحسين ورفع نوع المعيشة في المجتمع، لأنه كما يقول تشارلز بيرز(بأن السلوك الاجتماعي للتلاميذ يمكن أن يتغير،إذا هدف التعليم لتحقيق هذا التغيير)(12). كما أن المدرسة تساعدهم على تكوين فلسفة صحيحة للحياة، ونظام للقيم يساعدهم على أن يأخذوا أماكنهم كمواطنين أذكياء ناضجين، وهذا الأمر لا يتحقق إلا عن طريق إدخال الخبرات التعليمية الصالحة في المناهج، وعن طريق أوجه النشاط المختلفة والنقاشات ذات الخطة الواضحة التي تدعو إلى الاهتمام بالتراث الثقافي للمجتمع واستخدامه في حل مشكلاتنا الحاضرة، لكن علينا أن نوضح بأن هذا يستلزم إعادة تنظيم المواد المدرسية تنظيماً يكفل للمدرسة القيام بهاتين الوظيفتين المزدوجتين(نمو الفرد وإشباع حاجاته وميوله والنقل الثقافي، واستخدام الثقافة استخداما وطنياً)(13)، وهذا يدعونا إلى إعادة تنظيم المعارف الإنسانية من خلال المدرسة لأنها بيئة تربوية صاهرة، بمعنى أن هذه المؤسسة تعمل على نشر(التواصل والتفاهم بين التلاميذ)(14) تبعاً للأهداف التربوية التي تسعى المدرسة الجديدة إلى تحقيقها من أجل أن تعمل المدرسة على مساعدة التلاميذ في الوصول إلى المبادئ العامة والقوانين والخبرات البشرية المنظمة تنظيماً منطقياً،(والعمل على إمكانية التوفيق بين موقف وظيفة المدرسة إزاء النواحي السيكولوجية للتلميذ، ووظيفة القيام بالنقل الثقافي)(15)، كما نطمح أن تتمكن المدرسة من أن لا تصب اهتمامها على التراث الثقافي لمجتمعنا الذي نعيش فيه فحسب، بل ينبغي أيضاً أن توجه عنايتها إلى التراث الثقافي للجنس البشري،(لكي تحقق المدرسة ما يجب أن تكون عليه من أنها انعكاسا للنظام الاجتماعي للمجتمع)(16)، وذلك لأن دور المدرسة كقوة اجتماعية تربوية تبرز أهميتها في تخريج القادرين على قيادة المجتمع الواعين بدورهم الإيجابي في حل مشكلاته، حين يصبحون جزءاً أساسياً ومهما فيهً، شريطة أن يكون منهجها انعكاساً فاعلاً لجميع العناصر الثقافية للمجتمع مع وجوب أخذ دور محايد إزاءها، لاسيما المشكلات المتعلقة بالقيم والمعتقدات الدينية، وهذا لا يتم إلا من خلال إعداد التلاميذ وتعويدهم على الإيجابية في حل مشكلات المجتمع، وهذا لا يتم إلا من خلال إدارة مدرسية تتبنى منهجاً مدرسياً تربوياً ينمي في التلاميذ الفهم للقيم والتقاليد الديمقراطية، كما يعرفهم بالخصائص التي تحير المواطنين في ظل النظام الديمقراطي، وصولاً إلى ظهور السلوك الديمقراطي لدى التلاميذ، الذي يدفعهم للالتزام والعمل بالقوانين والنظم الديمقراطية، وهذا يقودنا إلى أن يكون تنظيم إدارة المدرسة تنظيماً ديمقراطياً، لأن من الصعب والتناقض أن يخضع التلاميذ لنظم كلها سيطرة وضغط في المدرسة وفي البيت والهيئات الاجتماعية الأخرى. من هنا ومن أجل الوصول بعملية الإصلاح والتغيير لأهدافها، فعلى القائمين على إدارة المدرسة والمشرفين على العملية التربوية التعليمية، احترام شخصية التلميذ وقيمته، مما يفرز في نفسه الشعور بالقيمة الاجتماعية باعتباره فردا مشاركا في بناء وتطور المجتمع، وعنصرا فاعلا لا يمكن الاستغناء عنه أو إهماله في عملية الإصلاح والتغيير والبناء، لأن المدرسة هي التي (تعد فيها دوافع وميول الطفل أساساً لبرامج المدرسة، وهي في هذا تسير على أساس الحرية غير المقيدة التي تنادي بها الفلسفة الطبيعية)(17) على أساس أن الهدف الأساسي للتربية في المدرسة هو تيسير أقصى نمو لفردية كل طفل، على أن يتلاءم هذا النمو كلية وبطبيعته مع النمو الاجتماعي، من خلال تشجيع المدرسة للطفل على (أن يصبح شخصية خاصة وأن يدين بالفردية وأن يعتقد في قدرته)(18) كما يرى رج وشو ماكر، دون أن ننسى بأن المدرسة ملزمة أيضاً بأن تهيئ له المواقف التي تعطيه مراناً مستمراً على الحياة التعاونية، كما تقدم له أنواع النشاط التي تساعده على المساهمة في الأعمال الجماعية، من أجل تنمية إحساسه بالانتماء إلى الجماعة وبأنه عضو مقبول ومحترم من المجتمع وهذا يستلزم وضع خطة كاملة للعمل المدرسي لكنها يجب أن لا تكون نهائية أو مغلقة، بل قابلة لإعادة النظر على ضوء مدى تحقيقها لأهداف المدرسة، والخطة المدرسية تعتمد على عناصر هي التدريس الصفي والنشاط الصفي و اللاصفي والتوجيه والعلاقة بين المدرسة والمجتمع والعلاقة الإنسانية بين العاملين المسؤولين عن إدارة المدرسة (مدير، معلمين، مدرسين، عمال، مشرفين) من جهة وبين التلميذ من جهة ثانية بعد أن نسلم المدرسة إلى مدير ومعلمين تم إعدادهم أو إعادة تأهيلهم بما يتوافق وما نريده من أهداف جديدة أفرزها الإصلاح والتغيير لتكون عملية التغيير ذات جدوى.
المنهج ودوره في عملية الإصلاح والتغيير إن المدرسة كما رأينا هيئة اجتماعية مهمتها الاهتمام بتربية الطفل وتعليمه والاستمرار في ذلك حتى المرحلة الجامعية، والمدرسة لا تعمل بطريقة عشوائية أو اعتباطية وهي تمارس عملية التربية والتعليم، بل إنها تخضع لنظم وتقنيات محددة تعرف بالمنهج، الذي يعني لغوياً الطريق الواضح... كما يعني اصطلاحاً مجموعة الخبرات والمواد(العلمية والأدبية والاجتماعية و...الخ) المخطط لها والتي توفرها المدرسة لمساعدة التلاميذ(وهو ما يتصل اتصالاً وثيقاً بالأهداف التربوية بل أن تحقيقها هو الغرض من وجوده)(19) ؛لذلك على المنهج أن يستوحي حاجات المتعلم وثقافة المجتمع، وأن يكون محوره شؤون الحياة ومشاكلها، وأن يعنى بالنواحي الذهنية والعملية والإنسانية، ولأجل الاقتراب مما نريده من عملية الإصلاح والتغيير يصادفنا سؤال مهم جداً علينا أن نجيب عليه، وهو (من الذي يصنع المنهج الذي يتواءم وعملية الإصلاح والتغيير التي يراد كما أن تناسب المرحلة الجديدة لمجتمعنا؟) لقد قدم المعنيون والمختصون بشؤون التربية والتعليم العديد من الآراء والمقترحات والإجابات لهذا السؤال، غير أنهم اتفقوا- وعلى ضوء معايير التطور الحالي التي ترى أن الذي يساهم بوضع المنهج وتخطيطه كل من له علاقة بالطفل الطالب باعتبار الغاية التي من أجلها يوضع المنهج، وهؤلاء هم المعلمون والمدرسون والتلاميذ أنفسهم والآباء والمواطنون العاديون والخبراء المختصون والمشرفون التربويون، غير أننا لا يمكننا اعتبار أي منهج تم وضعه والاتفاق عليه بأنه منهج نهائي، لأننا نعتقد بأن المنهج يجب أن يكون عرضة للتقويم طالما أننا نعيش في عالم متحول وسريع التطور، يفرز مواقف وقيما ومعلومات متجددة دوماً، لكن على شرط أن تتضمن عملية التقويم تقدير التغييرات السلوكية الفردية والجماعية، والبحث في العلاقة بين هذه التغييرات السلوكية وبين العوامل المؤثرة فيها(من خلال نظرتها للفرد وكفايته، والجماعة وعلاقتها الديناميكية، والبيئة وظروفها المؤثرة في الفرد والجماعة)(20)، على أن تقوم عملية التقويم كذلك على الأسس العلمية التي تعتمد التجريب والبحث المعملي والميداني لقياس مدى ما يحققه البرنامج التربوي من أهداف ومدى مساعدته في نمو الفرد والجماعة، وكشف المعوقات والتعرف على الإشكاليات التي قد يكون لها دور في إعاقة تطبيق المنهج بصورة صحيحة والعمل على(تطوير المنهج تبعاً لتطور أهداف التربية بحيث لا تبقى هذه المناهج متخلفة عن ذلك التطور)(21)، وهذا لا يتم إلا إذا أعددنا الكوادر المؤهلة من الهيئات العلمية والتربوية والإدارية(لدراسة منهج كل مادة من المواد الدراسية، دراسة متكاملة، وذلك بمتابعة منهاج المادة الواحدة من خلال السنوات التالية ومعرفة مدى الترابط والوحدة بينها)(22)، مؤكدين على تقديم هذه المواد وفق طرائق التعليم الحديثة التي تتلاءم مع الحاجة إلى تعليم الملايين المتكاثرة من الطلاب والتي تزداد بشكل كمي، وتستدعي تطوير وسائل فعالة لكي تضمن تعليمها وتغيير سلوكها وبحيث يواكب التطور الحضاري للمجتمع.
(1) الوعي التربوي:379 (2) أسس التربية:392 (3) إشكالية التعليم في المجتمع العربي:39 (4) دراسات في المنهج:409 (5) أسس التربية:392 (6) دراسات في المنهج:403 (7) المصدر السابق28 (8) التربية التجريبية والبحث التربوي:297 (9) المصدر السابق99 (10) الوعي التربوي ومستقبل البلاد العربية:445 (11) دراسات في المنهج:253 (12) المصدر السابق54 (13) المصدر السابق49 (14) الوعي التربوي:472 (15) دراسات في المنهج:49 (16) المصدر السابق59 (17) المصدر السابق131 (18) المصدر السابق (19) الوعي التربوي ومستقبل البلاد العربية:321 (20) دراسات في المنهج:254 (21) التربية التجريبية والبحث التربوي:419 (22) المصدر السابق |