العــولمة.. والعــلاقة بمفاهيــم الاجتماعيــة |
أ/ عبدالله أحمد المصراتي* |
قبل البدء في الحديث عن مفهوم العولمة (Globalization) لابد من الإشارة إلى أن أغلب المحولات الاجتهادية الرامية تبيان مفهوم ودلالة ظاهرة العولمة لم تبلغ مبتغاها ومرامها الأساسي بعد، فبعض تلك الاجتهادات اقتصرت على وصف هذه الظاهرة على أنها عملية أمركة العالم، أي نشر الثقافة الأمريكية بحيث تغلب على الثقافات المجتمعية الأخرى(1)، ويراها بعض آخر على أنها الوجه الآخر للهيمنة الإمبريالية على العالم تحت الزعامة المنفردة للولايات المتحدة الأمريكية، فهي أبشع واحدث صور الهيمنة الاستعمارية(2)، وثمة من ينظر إليها بمنظور أوسع، ملخصه أن العولمة تمثل عملية رسملة العالم، أي أن العولمة عملية يراد منها نشر مبادئ النظام الاقتصادي الرأسمالي وفرضه على عامة الأساليب الاقتصادية التي تتبعها المجتمعات الأخرى(3)، في حين يذهب فريق ثالث للقول بأن العولمة ظاهرة تنحو بالمجتمعات الإنسانية قاطبة نحو التجانس (التشابه) الثقافي وتكوُّن الشخصية العالمية ذات الطابع الانفتاحي على ما حولها من مجتمعات وثقافات مختلفة(4)،ويعول أنصار هذا الفريق على جملة التطورات الهائلة الحادثة في قطاع الاتصالات والمواصلات بين المجتمعات الإنسانية المختلفة والتي أسهمت بشكل كبير في نشر ثقافات المجتمعات بخاصة المتقدمة منها والتي ترنو المجتمعات النامية بلوغ مستوى تطورها الصناعي والاقتصادي والعلمي، وعموما يبدو أن منظار هؤلاء للعولمة أوسع نطاقا مما سبق عرضها. هذا من جهة تباين المفكرين من حيث اتساع أو ضيق نظرتهم للعولمة، ومن جهة ثانية، يبدو الاختلاف في المؤشرات الكمية والكيفية والتي تنم عن الدخول في عصر العولمة، فنجد الاقتصاديين يرون أن الشركات والمصارف العملاقة متعددة، ومتعدية الجنسية، والهادفة إلى الربح الفاحش، وذات المبادئ الرأسمالية هي من أبرز مؤشرات هذا العصر الجديد، في حين يرى السياسيون أن ظاهرة ضعف نظام الدولة القومية في العالم وانتشار التيارات المطالبة بالحرية والديموقراطية هي المؤشر الحقيقي لعصر العولمة، أما الاجتماعيون فنجدهم يركزون على عمليات التجانس الثقافي المتوقع حدوثها بين أقطار العالم، وتبلور الشخصية العالمية، وتمركز مصادر القوة في الجوانب الاقتصادية والمالية، معتبرين ذلك من مؤشرات عصر العولمة، هذا ويذهب الإعلاميون للتأكيد على أن التطور في وسائل الاتصال والإعلام بوجه الخصوص هي من دواعي الدخول في عصر المعلومات. كما يبدو الاختلاف بين العلماء والمفكرين، من جهة ثالثة، في الزاوية التي يركز عليها كل فريق منهم، فبعض يذهب حين تحديد ماهية مفهوم العولمة للتركيز على الآثار السلبية(5) أو المضعفات الثقافية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية للعولمة، والتي بات العالم بأسره يعاني من ويلاتها بما في ذلك دول العالم الغني، والتي باتت ما يُنسب لها منشأ العولمة. إن أصحاب هذا المذهب يمثلون الفريق المعارض أو النابذ للعولمة. في مقابل هذا الفريق نجد فريقاً ثانياً يؤكد على بعض الإيجابيات التي تتضمنها ظاهرة العولمة والتي من أبرزها الانفتاح على العالم وخاصة في المجال الثقافي والاقتصادي والتجاري، وشيوع مبادئ الديموقراطية بالمنظور الغربي، أي القائمة على التعددية الحزبية، وتأكيد قيم احترام الإنسان وتقدير آدميته وحقه في الحياة الكريمة. في مقابل هذين الفريقين نجد فريقاً ثالثاً يقف موقفا متحفظا من التغيرات العالمية الجديدة (مؤشرات عصر العولمة)، هادفاً، تجنب مساوئ العولمة والتي منها مثلا انتشار الجريمة المنظمة والجرائم الحديثة والفساد الإداري وجرائم المخدرات والعنف والإرهاب والانحلال الخلقي، وضعف قدرة النظام الداخلي على الإمساك بزمام الأمور بالدولة(انهيار الدولة القومية) وأزمة المديونية للعديد من المجتمعات النامية، وارتفاع معدلات الهجرة وازدياد عدد من هم تحت خط الفقر(6)..الخ، كذلك يهدف هذا الفريق استثمار مميزات العولمة أو محاسنها والتي من أهمها التطور الحادث في مجال التقانة (التكنولوجيا) وبخاصة في مجال التصنيع والإعلام والاتصال واستخدام الطاقة... الخ، ويرى متزعمو هذا الفريق أن النجاة من مضعفات العولمة تتمثل فيما يُصطلح عليه (بالفضاء الجغرافي، والمجال الحيوي)، وتتلخص هذه الفكرة في ضرورة أن تتكتل الدول القزمية ذات المجال الجغرافي المتقارب في مجال حيوي يناسبها تجنبا لجبروت الدول العملاقة والاتحادات الكبيرة، وهذا ما يضمن لها مكانتها بين الدول والتكتلات الأخرى القائمة في الغالب على أساس من المصلحة والتبادل الاقتصادي والتجاري. عموما يحاول محسن الخضيري في كتابه (العولمة) تعريف مفهوم العولمة والوقوف على أهم جوانبه فيقول: إن العولمة مفهوم يعبر عن حالة من تجاوز الحدود الراهنة للدول إلى آفاق أوسع وأرحب تشمل العالم بأسره، أي بمعنى أن العولمة تمثل الانفتاح على العالم والتأثير الثقافي المتبادل بين أقطاره المختلفة. ومن أهم مؤشرات العولمة التي يطرحها الخضيري الآتي: 1-حرية حركة السلع والخدمات والأفكار والتبادل الفوري دون حواجز أو حدود. 2-تحول العالم إثر التطور التقني والتيار المعلوماتي إلى قرية كونية صغيرة بل كوخ إلكتروني. 3-ظهور نفوذ وسطوة الشركات متعددة ومتعدية الجنسية وفوق القومية. 4-بروز تيارات فكرية منادية باحترام حقوق الإنسان وآدميته ورفع الاستعباد والجور والطغيان والتعسف وكل أشكال الهيمنة والقهر. ومن جهة ثانية يورد الخضيري أن للعولمة جوانبها المتعددة، منها السياسي والمتجلي في انهيار الدولة القومية، وسيادة فكرة الديمقراطية والمطالبة بحقوق الإنسان ، ومنها الاقتصادي المتمثل في الأسواق الحرة والشركات متعددة الجنسيات ومتعدية الحدود، ومنها الاجتماعي والثقافي المتمثل في الاتجاه نحو التجانس الثقافي، وانفتاح الأنظمة الاجتماعية وبخاصة نظام التدرج الاجتماعي ونظام الأسرة، والجوانب التكنولوجية أو التقنية المتمثلة في التقانة وبخاصة الصناعية والحربية والكمبيوتر ووسائل الاتصال التي تستخدم تقنيات الأقمار الاصطناعية. ومهما يكن من أمر هذه المحاولات، فلا يبدو للباحث هنا أنها توضح المفهوم توضيحا يُقبل وفق منطق علم منهجي؛ فالمفاهيم العلمية (Concepts scientism) أدوات ذات أهمية علمية كبيرة في تواصل جمهور العلماء وتفاهمهم والتعبير عن طروحاتهم، فهي تستخدم للتعبير عن مكنون الأفكار وشرح النظريات العلمية المفسرة للظواهر التي هي محل اهتمام الفرع العلمي الذي ينتمي إليه هذا أو ذاك العالم(7). ومن هنا فإن تعريف المفاهيم أمر غاية في الأهمية في أي مجال علمي. والحقيقة، إن أغلب مفاهيم العلوم السلوكية وبخاصة الاجتماعية تتداخل في معناها وتحتاج جهدا ذهنيا كبيرا للفصل بينها من حيث ما تشير إليه، ومن بين الأساليب الناجعة لهذا الغرض هو مقارنة هذه المفاهيم ببعضها لوضع الفواصل بين ما تشير إليه، وإني أعتقد أن هذا الأسلوب سيساعد كثيراً في توضيح فهم مدلول كل مفهوم بما في ذلك المفاهيم التي هي حديثة الاستخدام كمفهوم العولمة. مفهوم العولمة وعلاقته بالمفاهيم الاجتماعية الأخرى قبل اتباع هذه الآلية في تعريف وتحديد ماهية مفهوم العولمة لابد من الوضع في الاعتبار بعض النقاط الآتية: 1-إن العولمة ظاهرة عالمية نشأت إثر تراكم عوامل عدة منها الاقتصادي ومنها الاجتماعي ومنها الثقافي ومنها السياسي ومنها العلمي والتقني فهي ليست محض صدفة. 2-إن العولمة تشير إلى مرحلة من مراحل التطور التاريخي للمجتمعات الإنسانية وكانت بدايتها الأولى مع دخول العالم عصر حرب النجوم وسباق التسلح. 3-إنه ليست ثمة دولة بعينها مسؤولة عن تطور هذه الظاهرة العالمية والتي تمثل مرحلة تطور زادت معها درجة تعقيد الحياة الاجتماعية. 4-إن للعولمة أثارها الإيجابية وكذلك لها مضعفات سلبية لم تنج منها حتى تلك الدول التي تدعي أنها المسؤولة عن نشوء ظاهرة العولمة في العالم. 5-إن الشركات متعددة الجنسيات والمتعدية الحدود، والثورة المعلوماتية، والتطورات الهائلة في مجالات عدة من أهمها الفلك والطب والكمبيوتر ليست إلا نتاج تراكم المعرفة العلمية، ولم تكن في منشئها نتاج صدفة، وهي من أبرز مؤشرات العولمة. على هذا النحو، تكون العولمة عبارة عن مرحلة من مراحل التطور التاريخي للمجتمعات الإنسانية أسهمت في إحداثها مجموعة من العوامل وبرزت لها العديد من المؤشرات الكيفية والكمية، وهي تمثل ظواهر برزت بشكل أوضح بعد دخول العالم مرحلة التصنيع المتقدم. وفق هذا التصور تكون العولمة ضرباً من التغير الاجتماعي (Social change) الحادث على المجتمعات الإنسانية، فالعولمة لا تعدو أن تكون نقلة من النقلات التي تخطوها المجتمعات الإنسانية نحو مزيد من التعقيد الاجتماعي المادي، والاعتماد على التقانة المعقدة، وإن الفارق الجوهري ما بين التغير الاجتماعي والعولمة يكمن باعتقادنا في أن التغير يشير إلى نوع معين من أنواع التبدل أو التحول الحادث على تركيبة المجتمع سواء كان هذا التغير إيجابيا أو سلبيا تقدميا أو انتكاسيا، سريعا أو بطيئا، عميقا أو سطحيا..الخ، أما العولمة فهي حالة من التغير تشير إلى تحول المجتمعات الإنسانية نحو مزيد من التعقيد الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والتقاني. بمفهوم أيسر، التغير هو مفهوم أشمل من العولمة إذ الأخير يستظل بمظلة الأول أو يدخل تحت صنوفه. لاحظ هنا أن الفارق ما بين مفهومي العولمة والتغير مثله مثل الفارق بين مفهومي التحديث الاجتماعي والتغير الاجتماعي، فهما من نفس الفئة ولكن لا يشيران إلى نفس الشيء، فالتحديث هو عبارة عن تغير، ولكنه تغير إيجابي عادة ما يكون مقصودا من قبل الجهات المسؤولة عن التخطيط الاقتصادي والاجتماعي في المجتمع(8). كذا مفهوم العولمة فهو يشير أيضا إلى ضرب من التغير الاجتماعي العام والذي ينم عن ازدياد درجة التعقيد الاجتماعي والاقتصادي في المجتمع، غير أنه لم يكن مقصودا بالدرجة التي قُصد بها إحداث التحديث الاجتماعي بالمجتمع. هذا ناهيك عن أن العولمة تشير إلى التغير على مستوى العالم الإنساني، أما التحديث فهو يشير إلى التغير على مستوى المجتمع الواحد، وللدلالة على هذه التفرقة ما بين مفهومي التحديث والعولمة (وهى فروق كمية أكثر من كونها فروق نوعية ) نجد بعضاًً من المنتمين إلى علم الاجتماع بالدرجة الأولى يشيرون إلى عصر العولمة بأنه عصر ما بعد التحديث الاجتماعي أو مرحلة ما بعد التصنيع(9)، وهذا ما يشير بوضوح إلى أن هذه المرحلة الجديدة ما هي إلا امتداد للمرحلة القديمة والتي تمثل التحديث الاجتماعي.
التطور التاريخي لظاهرة العولمة قد يسهم سرد تاريخ تطور المجتمعات الإنسانية في فهم مفهوم العولمة وكشف حقيقة التصورات الخاطئة التي وقع فيها الكثير من متناولي هذا المفهوم. لقد كانت المجتمعات الإنسانية تعيش في شكل تكتلات مستقلة عن بعضها بعضاً، وذلك بعد تأليف الحيوان واعتماد الزراعة البسيطة في أسلوب المعيشة، ومع الاستمرار في التطور دخلت المجتمعات مرحلة الإقطاع (مُلاك المزارع) ولقد زادت التطورات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بعد اكتشاف العالم الجديد فابتُكرت أول الآلات الصناعية وكانت تلك النقطة بداية دخول المجتمعات الإنسانية المرحلة الصناعية (الثورة الصناعية)، وهذه المرحلة تمثل بدايات التحديث الاجتماعي في المجتمعات المتقدمة،فبدأت ثقافة التحديث الاجتماعي والسياسي منذ ذلك الوقت في الانتشار بأرجاء العالم بعد التطور النسبي في وسائل الاتصال والمواصلات عبر المجتمعات. لم يقف التطور والتعقيد بتركيبة المجتمعات الإنسانية عند هذه النقطة - بالرغم من وجود بعض المفكرين الذين ادّعوا أن هذه المرحلة(الرأسمالية الحديثة) من التطور تمثل نهاية الحركية التاريخية (الديناميكية) التي تمر بها المجتمعات الإنسانية عبر تاريخها الطويل، ومن أمثال هؤلاء الياباني فوكوياما(10) بل زاد التطور بدرجات أكبر مما كان يتوقعه بعضهم في مجالات عدة منها الاتصالات والمواصلات والبحث العلمي في مجال الوراثة والفلك، والصناعات التقنية وفي مجال صناعة الإنسان الآلي (الروبوت)... الخ، كما تطورت أساليب استخدام الطاقة، الأمر الذي ترتب عليه التغير في المبادئ الاقتصادية والسياسية والتركيبات الاجتماعية لأبنية تلك المجتمعات على نحو ما نشهده في العالم اليوم. هذه المرحلة هي باختصار مرحلة العولمة (أي جملة التطورات المعقدة التي طرأت على تركيبة المجتمعات الإنسانية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية إثر بزوغ جملة من المتغيرات جراء خروج العالم من مرحلة التحديث الاجتماعي ودخوله في مرحلة ما بعد التصنيع الثقيل والاتجار الحر، والحرب النووية).
* أستاذ بقسم علم الاجتماع بجامعة المرج للأقسام- ليبيا.
(1) ليث عبد الحسن جواد، المضامين الاجتماعية للعولمة، مجلة دراسات، السنة الأولى، العدد الرابع، 1999، ص 46. (2) نداء مطر صادق، العولمة واختراق السيادة، والمرجع السابق، ص 60. (3) شفيق الطاهر، العولمة واحتمالات المستقبل، مجلة دراسات، العدد الأول 1999، ص7 -11. (4) عبد الإله بلقزيز، العولمة والهوية الثقافية( عولمة الثقافة أم ثقافة العولمة)، مجلة المستقبل العربي، العدد234، 1998، ص 91 - 99. (5) حول الآثار السلبية للعولمة أنظر: مصرف ليبيا المركزي، العولمة وبديلها، وأثرهما على البلدان النامية، النشرة الاقتصادية، الجلد 40، 2000، ص 3-4. (6) الأمم المتحدة لبحوث التنمية الاجتماعية، حالات فوضى: الآثار الاجتماعية للعولمة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1997. (7) د. عبد الله عامر الهمالي،أسلوب البحث الاجتماعي وتقنياته، ط1، منشورات جامعة قاريونس، 1988،ص ص 26-28. (8) عبد الله عامر الهمالي، التحديث الاجتماعي: معالمه ونماذج من تطبيقاته، الدار الجماهيرية للنشر، 1986، ص 16. (9) شعبان الطاهر الاسود، الثقافة والمجتمع والتغير الاجتماعي، مجلة دراسات، السنة الأولى، العدد الرابع، 1999، ص 13- 14. (10) فرانسيس فوكوياما، نهاية التاريخ، ترجمة: حسين الشيخ، دار العلوم العربية، 1993. |