القصص القراني في الشعر العربي المعاصر |
هلال لالا |
الشاعر (خالد الجرنوسي) كان أكثر الشعراء احتفالاً بالتاريخ، عدا أنه يكاد يكون الشاعر الوحيد الذي وقف على القصة الشعرية ديواناً كاملاً هو (اليواقيت) الذي نال عليه جائزة (مجمع فؤاد الأول اللغوي) كما وقف جزءاً كبيراً من (ديوان خالد) على القصص الشعرية، وأول ما يطالعنا من قصائده التي استقاها من القرآن الكريم قصة (النمرود) مع إبراهيم (ع) حين حطم الأصنام، فأراد النمرود وأصحابه أن يلقوا به في النار، والقصة معروفة لا حاجة لتلخيصها، ويبدو أن الشاعر قد تأثر في نظمها ببعض المفسرين الذين أضافوا إلى النص القرآني تفاصيل غير موجودة في صلب الحادثة، فبعد أن دخل إبراهيم (ع) إلى المعبد وحطم الأصنام، قرر النمرود وأصحابه أن يحرقوه لينصروا آلهتهم، وجاءوا به ليلقوه فيها وطافوا حول الجحيم: وأتى ضـفـدع وفـي فيـه مــاء صبّه في لهيـبها استرحاما وأتى أبـرص ليـنــفخ فيــها علّه أن يزيـدها إضـرامــــــــــا وهما صورتا العداوة والـخير وكل على طريق استقامـــــا ما يكادان يأتيان بشــــــــــيء إنـــمــا يــفــعــلانـه إلهــامــا فالضفدعة التي جاءت لتطفئ النار، والأبرص الذي جاءها ليزيدها إضراماً لم يذكرا في النص القرآني الأصلي وهما كما يقول الشاعر صورتان ترمزان إلى الخير والشر ولا ريب أن مثل هذا الرمز يزيد في إيضاح الموقف الذي يمثل في القصة جانب الصراع بين الهدى والضلال، وبين الخير والشر، ولكنه تزيد في النص القرآني لا تصح إضافته إلى قصص القرآن. وهناك قصة فيها صور خيالية أخرى تمثل لنا جبروت (النمرود) وإصراره على الكفر حتى بعد أن أخفق في إحراق إبراهيم، وكانت النار عليه برداً وسلاماً: قـال نـمـرود قـل لربـك إنـــي أنـــا أدعــــو لحــربــــه الأقـوامـــــــــا فليجــئني بجيشــه إن جيشــــــــــــــــــي فوق نهر هناك حطّوا الخياما كان نمرود بين نسرين يعـــــــــــــــــلو فيـوافي من السماء الغـمـامـــــــا قـال رب الجـــــــنـود إن جـنــــــــــــــودي سوف تأتي الكنود حيث أقـامــــا واستفاق البعوض يلسع في الجند فيصلي الجنود موتــاً زؤامــــــــــا والإلــــــــــــه الصـغيـر يـنـشـط للعـدو ويحــكي لدى الفـــرار النعــامــا أدركتــــــــــــــــــــــــــــه بعوضـــة تترامـــــــى فشــــــفت منه غلهـــا فتــرامــــى فقد جعل الشاعر النمرود أولاً يحلق في السماء بين نسرين، ولكن بعد أن يستنجد إبراهيم(ع) بربه، يهاجم البعوض هذا الجيش فيلسع جنده ويرديهم، وتدركه هو بعوضة فيتهالك ويترامى، وهاتان الصورتان الخياليتان حوتا بعض الحوادث المزيدة على النص القرآني، لكنهما خلقتا جوّاً طريفاً ساعد على نمو الحادثة وإيضاحها ودفعها نحو النهاية المحتومة. وبموازنة بين هذه القصيدة وبين القصيدة التي نظمها شاعر آخر هو عبد الله شمس الدين حول القصة نفسها، ندرك الفرق بين ما ورد في الآيات القرآنية المباركة، وبين ما يزيده الشاعر الجرنوسي، فقد ابتدأ عبد الله شمس الدين بقصته منذ اهتداء إبراهيم(ع) إلى ربه وتحطيم أصنام قومه، حتى النهاية، ثم ذيلها بحادثة إبراهيم(ع) مع ابنه إسماعيل(ع) حين أوحى الله إليه بذبحه، وختمها بنزول جبريل عليه يبشره بالفداء والخلود ما دام قد امتثل لأمر ربه. وهنا نلحظ تقيد هذا الشاعر بالقرآن الكريم نصاً وروحاً، حتى لقد وضع تحت عنوان القصيدة الآية الكريمة: (وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين) ويتضح الفرق في أسلوب القصيدتين عن القصة، فالأولى رواها الشاعر بنفسه من أولها إلى آخرها وعرض حوادثها عن طريق الحوار، بينما الثانية رويت أولاً على لسان إبراهيم ثم أتمها الشاعر بلسانه هو. وللجرنوسي قصة أخرى مستقاة من القرآن الكريم هي (ملك وغانية وهدهد) ويفهم من عنوانها أنها تدور حول (سليمان وبلقيس) تبدأ هذه القصة برسم صورة لابن داود(ع) وهو جالس على عرشه، والطير مسخرات بأمره تغني له وتحوم حوله، وهو يخاطبها ويقضي بينها، ويتفقد الطير فيعجب من غياب الهدهد ويتوعد بعذابه الشديد: قيل ماذا من العذاب يراه ملك الأرض للأثيم العاتـــــــــــــي قال أحييـــــــــه آنساً بغرابٍ في عذاب النوى وذل الشتـــــــــــات أنا أشقيه بالحنين إلــــــى الجنس وأفري حشاه بالذكريات ربما مات فاستراح ولكـــن من يطيق الرضى بذل الحيـــــاة؟ ويعود الهدهد مسرعاً يحكي لسليمان قصة ملكة سبأ التي تحكم قومها وتعبد الشمس من دون الله، ولما سمع سليمان ذلك أعطى الهدهد كتاباً ليلقيه إليها كي تحضر إلى قصره، ويطير هذا مسرعاً إليها. شفه الحب أم رأى أن ملكـــــــاً كيف يُلقى عنانه لفتـــــاة حيرة تذهل النبي عن الرأي وتدعو لجمع رأي الثقاة ثم تتسلسل أحداث الصرح كما وردت في القرآن الكريم حتى يؤتى بعرش بلقيس، وعندما تريد بلقيس أن تعبر الصرح الممرد، لا تجد بدّاً من أن تكشف عن ساقيها إذ تحسبه لجة، وهنا يطير الخيال بالشاعر: ويح بلقيس إنها بنت جــــــــن ورثوها حوافـــــــــــراً بــــارزات نقلت مثل حافر البغل رجلا ًفضحتها منابت الشعرات ويذهب الشاعر في قصيدته إلى أن الحكيم سليمان(ع) اصطفى بلقيس زوجة له فكانت فتنة الدهر وآية الآيات. هذه هي أحداث القصة كما وردت في القصيدة، ونحن حين نرجع إلى أحداثها في القرآن الكريم نلاحظ أن الشاعر قد أضاف إليها بعض اللمحات أوردها كتفسير وإيضاح لموقف من المواقف هنا وموقف هناك، فالقرآن الكريم يقول على لسان سليمان(ع) حين يتوعد الهدهد: (لأعذبنه عذاباً شديداً أو لأذبحنّه أو ليأتيني بسلطان مبين) (النمل:21). ولم يوضح نوع العذاب، فأوضحه الشاعر في الأبيات الأولى، والقرآن الكريم لم يذكر أن بلقيس كانت(جنية) وأنها كانت لها حوافر البغل المغطاة بالشعر، ويبدو أن الشاعر قد جاء بهذه الإضافات مما قرأه في بعض كتب التفسير المملوءة بمثل هذه الخرافات، على أن الشاعر قد خالف النص القرآني ببعض إضافاته تلك، فقد كان الدافع الذي جعل سليمان(ع) يبعث برسالته إلى بلقيس هو قول الهدهد له: (وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزيّن لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون * ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخَبْءَ في السموات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون * الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم) (النمل:24-26). فكان على سليمان (ع)إذن - وهو نبي الله - أن يدعوها للإيمان، وبالفعل فقد جاء على لسانها وهي تستشير أعوانها قولها عن الكتاب(إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم * ألا تعلوا عليّ وأتوني مسلمين). أما الشاعر فقد جعل الباعث على إرسال الرسالة أحد أمرين حب سليمان(ع) لبلقيس، أو غيرته واستنكاره أن ينقاد هذا الملك لأمرأة، كما ورد في الأبيات!. وإذا كان التغيير في حوادث التاريخ وأسبابها ودوافعها جائزاً لغرض فني كأن يساعد على نمو الحدث ودفع حركة القصة، أو حسن تعليلها بحيث تبرز في ثوب فني جميل، بعيد عن قسوة التاريخ وجفافه، فإننا لا نعتقد أن هذا جائز في قصص القرآن. وهناك شيء آخر نحب أن نشير إليه وهو منبثق عن الفكرة السالفة نفسها، ذلك أن الشاعر لم يشر إلى إسلام بلقيس في نهاية القصة، عندما جعل الحكيم يصطفيها زوجة له، وقد جاء في آخر الآيات المتعلقة بها قوله سبحانه على لسان بلقيس: (قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين) (النمل: 44). وتمثل قصته الأخرى (مأساة قارون) سخطه على الإقطاع والأغنياء المتجبرين إذ يقدم لها بقوله: تباً لك يا قارون، وتباً للإقطاع، تطاول الكليم بذهبك ودنانيرك، تزعم أن السماء أخطأتك، وألقت بالنبوة إلى موسى(ع)، وتريد الشركة في الأمر بغياً وعدواً، فإذا قال الكليم: (الأمر لله لا لي، مكرت وغدرت ورميته بالزنا بغانية خليع، ثم أنطقتها السماء بالحق، وأخرست لسانك، وخسفت بك وبدارك الأرض، فكنت عبرة وذكرى). وكأن الشاعر يعطينا في هذه المقدمة الموجزة خلاصة قصة قارون كما نظمها، وهو لا شك استقى مادتها الأولى من القرآن، فبعدما أفاض في وصف أبهة قارون وبذخه وكنوزه، صوّر كبرياءه وعسفه حين يباهي العلماء في حذقه للكيمياء، ولا يرى لنفسه نظيراً، وحين استطال على موسى(ع) بالباطل، فكان كالسامري الذي قصد إلى إشاعة الفتنة بين الناس في غياب موسى، فصنع عجلاً جسداً دعا الناس إلى عبادته، ولما عاد موسى تبدد العجل وأصبح هباءً، وبان كذبه فحلت لعنة السماء عليه، فما بال قارون الآن يقذف موسى بتلك التهمة الشنعاء مدعياً أن فتاة تشهد أنه اقترف الفحشاء، وجيء بتلك الفتاة فأحجمت ثم قالت: علم الله أنه لم يسئ، ولكن قارون منحني الكنوز، وأفاض علي الجواهر والعطايا لأدلي بهذه الشهادة، وعند ذلك ناجى موسى ربه شاكراً له أن برأه من تلك التهمة، وبوأه مكاناً رفيعاً ودعاه أن ينتقم من ذلك الأثيم، فما كان من الأرض إلا أن خسفت به وبداره، وجاء قومه يشهدون مصرع ذلك الذي كان اسمه بالأمس ملء الأنظار والأسماع. هل صحيح أن قارون قذف موسى بذلك الاتهام؟ إن القرآن الكريم لا يشير إلى شيء من هذا وإنما يقول: (إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين) (القصص:76). وللشاعر السوري عدنان مردم قصيدة عن قصة (يوسف(ع) وزليخا) يحكي فيها ما جرى ليوسف (ع) في قصر فرعون مع امرأة العزيز التي حاولت استمالته، وراودته عن نفسها وهمّت به أخذاً وهمّ بها دفعاً لولا أن رأى برهان ربه. وقد حظيت هذه القصة بنصيب كبير من الأدب الغربي والشرقي والفارسي خاصة، فألف فيها (توماس مان) (يوسف وأخوته) وركز على موقف زليخا، وألّف فيها الفردوسي وجامي وغيرهما من شعراء الفرس، وبينما ركز الشاعر السوري على موقف الحب نرى (توماس مان) يركز على شخصية يوسف (ع) ويرتفع بالموقف، موقف الإغراء إلى آفاق شعرية سامية، ومما يلفت النظر في قصة (عدنان مردم) أنه لولا عنوانها لظنناها قصة عاطفية مجردة، وقد قسم القصيدة إلى خمسة مقاطع يبدأ الأول بإعطائنا الجو العام والبيئة التي جرت فيها: ليل يكاد به البصير يضل عن جدد الطريـــــــــق مستغلقا كالغيب في الإبهام والصمت العميق ويستمر في هذا التصوير المسهب، ثم يصور في المقطع الثاني نفسية امرأة مسهدة مشوقة عصفت بها الأهواء فظلت ترعى النجم، لا بل هناك - كما يزعم - قلبان ثملان من فتن الهوى، يحكيان بطيشهما الفراشة المترامية على النور، وفي المقطع الثالث تبدأ حوادث القصة بإيماءة منها إليه، وهمس رقيق تدعوه فيه إليها، ثم تمضي لتحسر غلالتها وتنضو عنها ثوبها. وهنا في المقطع الرابع أخذت الأهواء تعصف بها، والشهوات تأكل قلبها وبدت محمومة حيرى، هل يستجيب لها أم سيعرض عنها، إن هذه النتيجة تظهر في المقطع الخامس والأخير حين يقول الشاعر: وأتى المشوق يدب نحو المهد وحشاً كالسَّروق هاجت به فتنُ الجمال هواجسَ القلب الرقيق فحبا ليطفىء غلَّةً عن سمر أجفانٍ وريــق والوجـد تعصـــف ناره حممــاً كنيران الفليق وهوى على الخصر النحيل يضمه ضم الشفيــق فبدت ليوسف آية كالشمس في ضاحي الشروق وأبى عليه وفاؤه الكفران في ذمم الصــديــــق فارتد والحســـرات في الأضلاع تنزو عن حـروق فها هنا أرخى الشاعر لخياله العنان، فراح يحلق في أجواء القصة بعيداً عن فهم حقيقة الأحداث التي استقى منها مادة قصيدته، أما ما رسمه من أجواء وصفية فكان كالهالة تضفي الظلال حولها، وتعكس ضياءها وإن لم تطغ عليها، ولكنه لم يتناول تفاصيل القصة ذاتها كما وردت في القرآن الكريم، إذ القصة كما نعلم تحكي حياة يوسف (ع)، منذ كان طفلاً حتى رمت به الأقدار في قصر فرعون، ثم ما كان من ارتفاع قدره إثر موقفه من امرأة العزيز، وتسلمه لخزائن الملك، وانضمام أبيه وإخوته إليه. فالشاعر يورد شيئاً من هذه التفاصيل، ويعزف عن أشياء، إذ اكتفى بموقف واحد، ركز فيه كل طاقاته الشعرية والقصصية، وهذا ما يستحسن فعله في كتابة (الأقصوصة)، ولولا أنه قد فهم القصة بشكل مغلوط لأمكن القول أنه قد وفق في حبْك أجزاء الحادثة، كما وفق في عباراتها وأسلوبها، وما بثه في أجزائها من صور وأخيلة ساعدت على فهم المعاني وتعميقها. |