ردك على هذا الموضوع

الاحلام لغز الحقيقة

انطوان صباغ

أيّ وعي يستيقظ في كيان الإنسان حين يطغى سلطان النوم ويرقد الجسد؟ ماذا يحدث حين يغيب وعي الظاهر عن الإدراك والتفاعل مع الواقع الحياتيّ المعاش؟ ما هي الأحلام، هل هي مجرّد أبعاد وهميّة، أم أنّها واقع آخر يعيشه المرء في عالم الماوراء؟

لغاية الإحاطة بما يجري في ذلك البعد اللاماديّ الذي يحيا فيه وعي الإنسان خلال النوم، ومن أجل فهم طبيعة هذا الوعي الذي يعمل عندما يدخل الجسد حالة من اللاوعي، على الإنسان أن يتساءل أولاً عن ماهيّة هذه الازدواجيّة التي يحيا فيها وعيه، وتتجاذبه بين يقظة ترعى واقع الحياة الماديّة العمليّة، ويقظة أخرى تأخذ بالإنسان، عندما يخلد إلى النوم، إلى عالم مشابه ربّما بالشكل والمظهر لطبيعة الحياة الأرضيّة، لكن واقعه أخفّ وزناً وأقلّ كثافة، وحيث الزمن آنية مستمرّة يتواصل فيها الماضي مع المستقبل...

قد توحي ازدواجيّة الوعي تلك بأن في الكيان الإنساني طبيعتين، واحدة منظورة تعمل من خلال أدوات وعي الظاهر الملموسة، أما الثانية فإنّ الغموض لا زال يلفّ أبعاد وعيها بالنسبة للواقع العلمي الحاليّ، علماً أنّ علم النفس ورغم اقتناعه بوجود أبعاد لاماديّة في الكيان الإنسانيّ، فإنّه لا يزال يتساءل عن ماهيّة تلك الأبعاد، عن طبيعة تكوينها وكيفيّة عملها. لكنّه لو حاول أن يفكّر عميقاً بما يمكن أن ينطوي عليه عالم الأحلام من حقائق خافية، لتكشّفت أمامه أبعاد معارفية جديدة ستجعله يتخلّى عن محاولة دخول عالم اللامادة، وتحديداً عالم الأحلام، بواسطة وسائل ماديّة محضة، وفكر محدود لا ينطلق أبعد من المشكلات الخاصة والعقد النفسيّة.

إن علم النفس يعتقد بأنّ الأحلام هي نتيجة تفريغ الوعي الباطني، الذي يشكّل برأيه الطبيعة اللامنظورة في الإنسان، تفريغه من بعض ما اختُزن فيه من تطلّعات ورغبات لم تجد إلى التنفيذ سبيلاً وذلك بعد أن تحرّرت خلال النوم من القيود التي كانت تعيق إمكانيّة تحقيقها في الواقع العملي الحياتي.

إذا كان هذا هو فقط سبب الأحلام ودافعها، فيصحّ القول عندئذٍ أنّها مجرّد وهم وخيال يتنفّس من خلالها الاحتقان الحاصل في وعي الباطن، أو هي في أحسن الأحوال بمثابة إعادة تظهير لما قد يكون انطبع في ذاكرة الحواس الماديّة من مشاهد أو أحداث أثناء الحياة اليوميّة، لم يستوعبها وعي الظاهر في حينه .

لكن ماذا عن الأحلام التي لا تمتّ أحداثها بصلة إلى مثل تلك الأسباب، كالأحلام الرؤيويّة، أيّ التي تتحقّق لاحقاً في واقع ملموس، أو تلك التي قد توحي أحياناً بحلول صائبة لمشكلة ما استعصى حلّها…؟ وهل تساءلنا يوماً عمّا يمكن أن توحي به تلك الأحلام، التي يرى المرء نفسه فيها يحيا في ظروف معيشيّة مختلفة كليّاً عن واقعه الحياتيّ المألوف، أيّ لا تتآلف مع طبيعة شخصيّته الحاليّة، ولا تتوافق أبداً لا مع الزمان ولا مع المكان الذي يحيا ضمنه… لقد اكتشف علم النفس وتثبّت من حالات مشابهة خلال بعض جلسات التنويم المغناطيسي، الذي قد يلجأ إليها في معالجته لبعض الأمراض النفسيّة، ممّا عزز قناعة العديد من المنوََِّّّّمين والمنوَِّمين بمبدأ العودة إلى التجسّد…(الجدير ذكره أن هذا الولوج القسري من قبل المعالج، وعميقاً في مجاهل وعي الباطن، قد يعرّض المريض أحياناً إلى مخاطر شتّى كما توضّح علوم حقائق الباطن الإنساني -الإيزوتيريك، التي لا تحبّذ التنويم المغناطيسي وتحذّر منه لأسباب كثيرة خارجة عن موضوعنا، وأهمّها ضعضعة وعي الباطن).

يبقى السؤال عن ماهيّة الوعي الذي يوجّه الأحداث في تلك الأبعاد الماورائيّة (عالم الأحلام)، هل هو نفسه الذي يرعى يقظة الجسد أو ثمة وعي آخر يستلم زمام الأمور هناك؟… من البديهي أن يكون لوعي الظاهر الخاص بالجسد (وعي الأحاسيس) علاقة ما بما يجري أثناء النوم وإلاّ لما تذكّر الإنسان شيئاً بعد أن يصحو، ولانتفى واقع الأحلام؛ لعلّ دور هذا الوعي قد ينحصر في اختلاق بعض أحداث الحلم أحياناً ليحيا فيه، فيحقق الإنسان من خلاله ما لم يستطع تحقيقه في أثناء اليقظة، فيأتي الحلم بمثابة راحة نفسية له أو تنفيس لرغباته! أما عدا ذلك من أحلام، أيّ التي تجسّد حقيقة ما يجري في تلك الأبعاد الماورائية، فإن دور وعي الظاهر يقتصر، أثناء النوم، على مراقبة ما يحدث هناك من وقائع، حتى إذا ما استعاد حالة اليقظة، فإنه قد يتذكّر، وبقدر ما هو مؤهل لذلك، بعض تلك الوقائع أولا يتذكّر...

لعلّ ذلك الاتزان الواعي الذي يتمتّع به النائم في أثناء نومه يقدّم خير دليل على أن الوعي الذي يتسلم زمام الأمور حين يغفو الجسد هو غير الوعي الذي يهيمن على يقظته…فما هو إذن هذا الوعي المتميّز الذي يتمتّع بهذه المقدرات غير المألوفة، هذا الوعي الذي يمكنه نقل الأفكار والمشاعر إلى طبقات وعي لا يمكن أن يتآلف بعض ما يحدث فيها من تفاعلات مع الواقع المنطقي العملي للأمور؟...

إنه وعي الأجسام الباطنيّة التي تشكّل أجهزة الوعي الخفيّة في الكيان الإنساني، والتي أسهبت في التعريف عنها وشرحها بعض منشورات جمعيّة أصدقاء المعرفة البيضاء-الإيزوتيريك، التي بلغت الثلاثين كتاباً لغاية الآن.

توضح لنا علوم الإيزوتيريك أن الأجسام الباطنيّة بحاجة إلى الغذاء والراحة والاكتفاء مثلها مثل الجسد، والواقع أن غذاء الأجسام الباطنيّة ليس إلاّ حالة الوعي، أو اليقظة التي تختبرها… فهي عندما تستيقظ، تعمل، وتدخل عالمها الماورائي، وبالتالي تحصل على غذائها الكامل، ألا وهو الوعي! وهذا لا يتم عادة إلاّ حين يدخل الجسد في حالة لاوعي مؤقت أثناء النوم وأيضاً في بعض حالات التأمل العميق الذي يُدخل هو أيضاً الجسد في حالة سكون، قد تقارب أحياناً حالة اللاوعي التي يختبرها أثناء النوم، مما يؤهل المتأمل أحياناً لاختبار واقع الرؤى أو ما يدعى بأحلام اليقظة...

لعلّ هذا الإحساس بالراحة التي تعمّ كيان الإنسان عادة أثناء النوم وبعده مباشرة، سببه شعور الأجسام الباطنيّة بالانعتاق بعيداً عن مشاغل الحياة المادية ومتاعبها، وذلك بعد أن تمدد وعي كلّ منها إلى طبقة الوعي اللاماديّة الخاصة به. فبعد أن كانت هذه الأجسام محصورة في طبقة الوعي المادي فقط بحكم مسؤوليتها المباشرة عن تسيير أمور الجسد… وبعد أن تطمئن إلى السكون الذي يضفيه النوم على حركة هذا الكيان المادي، تنطلق إلى فضاء الوعي الرحب لتحلّق في أجواء الحريّة الواسعة التي تتهيّأ لها فيه؛ علماً أنه وبقدر ما تتوسّع دائرة الوعي في الإنسان تتوسع مساحة الحريّة التي ستتمتّع بها أجسامه الباطنيّة حتى أثناء يقظة الجسد. والدليل على ذلك أن الإنسان، وكلما ازداد تطوّراً بالوعي، احتاج إلى ساعات نوم أقلّ!

إذاً، فإن الأحلام وبواقعها الحقيقي، تعتبر بمثابة وصول وعي الظاهر خلال النوم، بعد تحرره من قيود الجسد، إلى حدود ملامسة ما يجري في تلك الأبعاد اللاماديّة التي تنتقل إليها الأجسام الباطنيّة في عالم الماوراء. هذا الانتقال وكما توضّح علوم الإيزوتيريك يتم عبر تمدّد ذبذبات وعي هذه الأجسام إلى طبقات وعيها اللامادية دون أن تنفصل كليّاً عن الجسد، لأن الانفصال الكامل لا يتم إلا في حالة الوفاة...

من الأجسام الباطنيّة التي يتمدد وعيها بعيداً عن وعي الجسد خلال النوم، هما الجسم الكوكبي (جهاز وعي المشاعر) والقسم الأدنى من الجسم العقلي (جهاز وعي التفكير)؛ وكون هذان الجسمان هما الأكثر وعياً في الإنسان العادي، وتأكيداً على ذلك، نرى أن الأحلام تحتوي غالباً على بُعدَي المشاعر والأفكار… أمّا الجسم الأثيري (AURA) أي البيوبلاسما في لغة العلم، فهو لا يفارق الجسد، بل يبقيه في حالة وعي حيادي خلال النوم… وعند حدوث أي طارئ أو أمر مفاجئ في محيط الجسد تتداعى ذبذباته الأثيريّة لتعيد الوعي إلى الجسد أو توقظ النائم. وبالإضافة إلى كون الجسم الأثيري حقلاً كهرومغناطيسيّاً، يجتذب تلقائيّاً كل التأثيرات الخارجيّة التي تحدث في محيط الجسد، ففي ذبذبات وعيه أيضاً ينطبع أثيريّاً كل ما قد تختبره الأجسام الباطنيّة الأخرى أثناء تمددها إلى طبقات وعيها، وذلك عندما يرقد الجسد، وتغفو الحواس الماديّة ويرتاح وعي الظاهر؛ بحيث يتسنّى عندئذٍ لهذا الوعي، وبقدر ما هو مؤهل لذلك، من التقاط التفاعلات التي تُسجَّل في الجسم الأثيري نتيجة انعكاس حالة الوعي اللامادي فيه، أي وعي الأجسام الباطنيّة خلال يقظتها!

فالماورائية؛ حيث لا أحلام، بل هي هناك بحكم الرؤى-والرؤيا تختلف عن الحلم لأن الرؤيا هي رؤية الحقيقة كما حدثت أو ستحدث فيما بعد… بينما الحلم يعكس حالة نفسيّة معيّنة أو رؤية ما يرتاح إليه الإنسان.

إن تأهيل وعي الظاهر في الإنسان للتفاعل مع يقظة الأجسام الباطنيّة في طبقات وعيها أثناء النوم، له تعاليمه الخاصة في الإيزوتيريك؛ كون عالم الأحلام، وعلم النوم هما من بين المعارف التي تشملها علوم الإيزوتيريك! أجل، فدراسة النوم علم قائم بذاته في الإيزوتيريك، لأن من خلال النوم يُطلّ الإنسان على حقيقة كيانه الباطنيّ الخفي ويكتشف المجاهل في نفسه… وما الأحلام سوى واقع آخر يعيشه المرء في عالم الماوراء، حيث أن هذا الواقع يقدم إليه رسائل وعي يجب إدراكها! فهل للإنسان أن يستخلص العبرة من أحلامه وأن يستوعب الرسالة التي تبعث إليه من خلالها؟...

وفي الختام، ألا يحق لنا أن نتساءل إلى متى سيظلّ عدد كبير من البشر مصرّاً على عدم وجود غير المادة، وسيبقى العلم يجهل وجود أجهزة الوعي الخفيّة أو الأجسام الباطنيّة، رغم وجود هذا العالم الخفي الذي يزوره الإنسان كلّ ليلة بواسطة هذه الأجسام الباطنيّة بالذات...!

لعلّ هذا الانفتاح الملحوظ حاليّاً على علوم الإيزوتيريك من شأنه أن يوعّي الإنسان إلى حقيقة نفسه وإلى المعرفة المتشرِّب بها كيانه. فالوعي الذاتي هو السبيل إلى التطوّر البشري وهذا هو هدف الإيزوتيريك...

 

الصفحة الرئيسية

الأعــداد السابقــة

العــدد 70

إتصــلوا بـنـــا