الحسين.. باحثاً عن السلام |
أبو الحسن الصالح(*) |
ليس هنالك إنسان إلا ويمكنه أن يكون شرارة حرب كبرى أو أن يكون سبباً لصنع سلام عظيم.. البعض يحاول أن يبني إمبراطورية سياسية، والبعض الآخر يحاول أن يبني إمبراطورية مالية، وبعض يحاول أن يبني إمبراطورية إعلامية، ولكن الأنبياء وأوصياءهم وحدهم كانوا يريدون أن يبنوا إمبراطورية سلام. ولم يسجّل التاريخ حالة قتل في معركة من أجل السلام إلا الحسين بن علي السبط(ع). السلام يبدأ من إحساس نزيه يتحوّل إلى فكرة مقدسة بمرور الزمن، والإحساس بالكرامة والسلام يتطلب كرامة وسلامة الإحساس. وكما يحوم الضباب حول القمم العالية، فإن كل فكرة تدعو للسلام لابد وأن تحوم حولها الشبهات، تماماً مثل السلام الحسيني. قد يُهزم الحسين الشهيد في معركة من أجل السلام، غير أنه لن ينهزم في سبيل السلام والكرامة. ومن يريد أن يصبح رجل سلام، عليه أن يفكّر كما يفكّر رجال السلام، وأن يتصرّف مثلهم، وأن يتحمّل مثلهم، ومثلهم كمثل الحسين (ع). ألا ترى أن (غاندي) حقق انتصار السلام عندما فكّر وفق المنهج الحسيني(!!)، فقال قولته المشهورة (تعلّمت من الحسين كيف أكون مظلوماً فأنتصر). وظلامة الحسين تكمن في اغتيال نية وجهود السلام الحسيني. إن الله عز وجل هو السلام، ومنه السلام، وإليه السلام. ومحمد (ص) رسول السلام. ولأن (حسين مني وأنا من حسين) فيكون الحسين هو رائد السلام الإلهي. إن الحسين (ع) كان يبحث عن أي فرصة سلام للأمة، ولم يكن يبحث عن فرصة هروب إلى الأمام. وكيف يكون كذلك وهو القائل: (إني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برماً)؟. أن تبحث عن السلام تماماً مثل إذا وجدت بئراً معطّلة فادل بدلوك فيها، فإن لم تجد ماءً فيها فلا ترمِ بدلوك جانباً، بل احفر بئراً جديدة؛ ذلك أن الواقعية لا تعني الخضوع لما هو واقع بالفعل، بل تعني إيجاد واقع جديد أفضل منه. وأن تحمل مشعلاً كبيراً للسلام، حتى ولو لم تنجح في وضعه على قمم الجبال، أفضل من أن تحمل شمعة صغيرة يمكن أن تضعها في أي مكان. كان الحسين (ع) يبحث عن السلام بقوة الرفق وصلابة الإرادة. ومهما كانت إرادتك صلبة فلابد أن تعتمد اللين والسلام في تنفيذها، ألا ترى أن الأسد يمتلك جلداً ناعماً وفروة ملساء؟. ولازالت كلمات الحسين (ع) تتردد في أصداء الزمن برفق ولين باحثةً عن السلام وحفظ الذمام قائلة: (إذا كرهتموني فدعوني أنصرف عنكم إلى مأمنٍ من الأرض). هو الذي خرج ليلة العاشر من المحرّم قاصداً قيادة جيش العدو (عمر بن سعد) ليبحث معه فرص السلام الممكنة، وفرص الحياة الآمنة بعيداً عن الدماء وقعقعة السلاح. كان الحسين (ع) يبحث عن سلام البطولة وليس عن بطولة السلام، ولأن تكاليف البطولة كبيرة فإن أغلب الناس يحبذون القيام بتمثيل دور بطل السلام بدل أن يقوموا بأداء دور سلام البطولة. وهكذا حاول الحسين (ع) عدة محاولات لتحقيق السلام على الأرض بنفس أبيه علي بن أبي طالب(ع) في النهروان، إلا أن الطرف الآخر كان يسد الأبواب بقوة. ودافع الحسين في ذلك حبه للناس، ولطهارة روحه. أليس هو الشخص الذي بكى على أعدائه لأنهم سيدخلون النار بسببه؟ وقد سمع المسلمون كلهم من رسول الإسلام (ص) يقول: (.. وستقتله الفئة الباغية من أمتي، لا أنالهم الله شفاعتي). وبمقدار ما يكون الهدف ( السلام) كبيراً بمقدار ما يحتاج إلى عدد كبير من المحاولات لإنجازه، وقد قام الحسين (ع) بأكثر من ثلاث محاولات لنزع فتيل الأزمة ولإحلال السلام. وأكثر الذين يتشدّقون بأنهم رجال سلام - وشارون منهم - إنما يتحركون من وحي المصلحة. أليس (كيسنجر) اليهودي هو الذي يقول (لا سلام دائم، ولا حروب دائمة، ولكن مصالح دائمة) حتى ولو كانت على حساب المبادئ والقيم الإنسانية. ولكن عندما تلتقي المصلحة (حقن الدماء) مع القيم يكون السلام ذا جاذبية غير قابلة للمقاومة. وإذا كان جلب المنفعة هو أكبر دوافع التجار إلى العمل، ودفع المضرّة هو أكبر دوافع الحكماء، فإن مسئولية السلام هي أكبر دوافع العظماء إلى ذلك. ولذلك كان الحسين(ع) يرى أن السلام وحده هو الكفيل بإخراج الأمة من شرنقة الضياع والانحراف. ولما كانت حروب النبي (ص) دفعاً للاعتداء وبحثاً عن السلام في الأرض، فإن دفاع الحسين عن نفسه وعياله هو أكبر دليل على أنه لم يرد الحرب، بل كان يقول:
(إني أكره أن أبدأهم بقتال) ولم يتخذ صفة الحرب إلا بعد أن تقدّم عمر بن سعد ورمى إلى جهة الحسين سهماً وقال: (اشهدوا لي عند الأمير أني أول من رمى) ثم رمى الناس، فانهالت السهام على مخيّم الحسين كالمطر، على حدّ تعبير المؤرخين. كان الحسين يفكّر في هدايتهم وسعادتهم التي لا تتحقق إلا بالسلام ونبذ الحرب، وهذا ما أكده في حديثه حيث يقول: (إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا ظالماً ولا مفسداً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح ( السلام) في أمة جدي، لكي آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر). رُوي عن عيسى المسيح (ع) أنه قال: (أحبّوا أعداءكم) إنما ذلك لتكون لديكم روح أبوية على الناس. وليس المطلوب لزاماً أن تحب أعداءك، ولكن المطلوب منك حتماً أن تعاملهم بالعدل والسلام، وربما كرهتهم ، ولكن من العدل إعطاءهم فرصة اعتناق السلام. والسلام مشروط بالعدل، وإلا فهو الحرب من دون اصطكاك الأسنّة. ولأن أنصاف الحلول لاتلتزم بالعدل، فإن العدل لايتحمّل أنصاف الحلول، والتي لم يكن الحسين عليه السلام يفتش عنها. أما العدو فإن منطق القوة منطقه الوحيد، والقوة لا ترحم ولا تتسامح؛ لأن التسامح يرفض التسلّح بالقوة، إلا في الدفاع عن السلام. ولأن الحسين (ع) أبى أن يعيش إلا عزيزاً كريماً، فلم يرَ من عدوه إلا المماطلة والإصرار على أخذه بالذلة. ولأن العدو ينظر إلى تحقيق مصالحه غير منقوصة، فهو لم يُعط للحسين فرصة تحقيق المصلحة العامة المتمثلة في السلام، وقد نجح شمر بن ذي الجوشن في إفشال عدة حوارات بين الحسين (ع) وعمر بن سعد من أجل السلام. والحقيقة هي أن لا مصلحة في مصالحة لا صلاح فيها، ولا صلاح في مصلحة لا مصالحة فيها. لا شك أن امتلاك القوة من القوة، ولكن استخدامها من الضعف، وسبحان الله الذي يملك القوة جميعاً ولا يستخدمها جميعاً. ولو كانت القوة يُمكن أن يُكتب لها البقاء من غير أن يرافقها السلام الحسيني لما انقرضت الإمبراطوريات، ولو كان السلام يمكن أن يُكتب له البقاء والانتصار من غير القوة لما كانت أسماء الشهداء تملأ صفحات التاريخ وفي مقدمتهم سيدهم الحسين بن علي(ع). والحسين أراد السلام بشروطه هو وليس بشروط يزيد بن معاوية، فلن يكون الاستسلام للباطل قاعدة للسلام بين الأمم، إذ كيف يمكن الجمع بين الهزيمة والطمأنينة؟ ولذلك قال الحسين (ع): (.. وهيهات منا الذلة). ولأن سيد الشهداء كان يعيش السلام في داخله فقد حمل مسؤولية تحقيق المشروع على عاتقه، غير أن الطرف الآخر كان يريد من الحسين الاستسلام دون السلام. ولا معنى لتحقيق السلام مع الآخرين من دون أن تحققه مع نفسك، فلا أحد أولى بك منك. ويفقد السلام قدسيته عندما تحمل اليد الملوثة رايته؛ ذلك أن اللوث نجاسة مسرية، وستسري إلى الراية من اليد. وقد كان يزيد بن معاوية يريد سلام السيف، وقد رفع له راية بيد عمر بن سعد كُتب عليها (عجّلوا في قتل الحسين حتى نصلّي الجماعة)!!. وإذا كان السلام ممنوعاً عنك فلا تتردد في قبول خيار الدفاع عنه حتى تصبح معركتك مقدّسة. وهكذا كان الحسين يدافع عن الطهارة والسلام، وهو الذي أنشد يقول: الموت أولى من ركوب العارِ والعار أولى من دخول النار والله ماهذا وهذا جاري بين الدم والسيف صراع علني أحياناً، وخفي حيناً آخر؛ فإذا كان في العلن انتصر الدم على السيف، وإذا كان في الخفاء انتصر السيف على الدم. ومن هنا فإن كل أعداء السلام في التاريخ يريقون الدماء في الظلام، ويغسلون عنها أيديهم في العلن. وماذا سيبقى من الضمير العالمي إذا كان السلام يُذبح كل يوم بمنظر وبمسمع من كل الناس في كل مكان. إن الحسين (ع) وقّع على وثيقة استشهاده لينقذ السلام المذبوح. وشتان بين من يقبل التوقيع على وثيقة إعدامه لينقذ الأمة المُحبطة، وبين من يوقّع على وثيقة إعدام أُمته وسلامها لينقذ نفسه أو حزبه؛ فالأول موقف الشهداء، والحسين سيّدهم، والثاني موقف قاتلي الشهداء. وعندما بحث الحسين (ع) عن السلام كان يريده للجميع، فهو ليس من الذين يتحدثون عن خلاص الأمة وهم يتاجرون بآلامها. وإذا أقمنا الحزن على الحسين كل سنة فهو تقصير، أما إذا أقمنا عليه الحزن كل ساعة فهو توقير. كل ذلك لأن السلام يُذبح كل ساعة؛ فالحزن على فقد قلب الحسين الذي بحث عن السلام. فهل نبحث عن السلام في قلب الحسين من جديد؟. ويبقى الحسين هو الشهيد الشاهد على اغتيال السلام بين سيوف البغي. |
الهوامش: |
(*) أبو الحسن الصالح: كاتب من البحرين. |