|
|
الشيخ عبد الله إبراهيم الصالح |
إن مسؤولية إصلاح المجتمع ليست مسؤولية العلماء والموجهين خاصة بل مسؤولية كل أبناء المجتمع، علماء دين ومربين، أساتذة وموظفين، أكاديميين وغيرهم.. كما أن مهمة الإصلاح ليست موجهة للمنحرفين خاصة.. |
المدخل في معنى الانحراف |
الانحراف لغة: هو الميل والعدول والمجانبة.. واصطلاحاً: هو الابتعاد عن المسار المحدد، أو هو انتهاك لقواعد ومعايير المجتمع، ووصمة تلصق بالأفعال أو الأفراد المبتعدين عن طريق الجماعات المستقيمة داخل المجتمع (جاك دوغلاس)، أو هو انتهاك القواعد الذي يتميز بدرجة كافية من الخروج على حدود التسامح العام في المجتمع (كلينارد).. أما الانحراف في الشريعة: فهو مجانبة الفطرة السليمة واتباع الطريق الخطأ المنهي عنه دينيا، أو الخضوع والاستسلام للطبيعة الإنسانية دون قيود.. والشخصية المنحرفة في نظر الشارع المقدس: هي من يقوم صاحبها بعمل يفسد النظام ويحول دون تطبيقه على واقع الحياة مما يلحق الضرر بالمصلحة الفردية أو الاجتماعية أو كليهما. وإن كل الظواهر السلوكية الخاطئة هي ثمرة الجهود المبذولة لتحطيم الإنسان وسلب عقله وفكره وفطرته للسيطرة على إنسانيته.. (إنا خلقنا الإنسان من نطفةٍ أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً * إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفورا) (الإنسان:2-3). خلق الله الإنسان من نطفة أمشاج (خلائط)، فخلقه من المادة والروح، وأعطاه إرادة الصلاح والفساد (أي القدرة عليهما)، وجعله ممتحناً مبتلى، وبإرادته يختار الخير أو الشر، يختار الاستقامة أو الانحراف.. والأصل في الفطرة الإنسانية الاستقامة وليس الانحراف، والصلاح وليس الفساد، فالإنسان بفطرته يميل إلى الاستقامة والصلاح، وبطبيعته ينشد إلى الشهوات، واختياره الفطرة أو الطبيعة منوط بإرادته.. والانحراف مخالف للفطرة والعقل ولكنه ليس مخالفاً للإرادة والطبيعة الإنسانية، وبالانحراف يخلد الإنسان إلى الأرض، وبالاستقامة يملك قدرة العروج إلى درجات الملائكة، ويأخذ به السمو الروحي والإيماني إلى أعلى الدرجات، وتلك هي فطرة الله التي فطر الناس عليها. |
دوافع الانحراف |
1- النفس الأمارة بالسوء.. قال تعالى: (ونفسٍ وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها * قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها) (الشمس: 7-10). (وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفورٌ رحيم) (يوسف: 53). تلعب النفس دوراً بالغ الأهمية في تحديد سلوك الإنسان واستجابته للمؤثرات، مما يجعل قوة الشخصية في اتباعها لنور العقل والفطرة، وضعفها عندما تستسلم للطبيعة الإنسانية والشهوات، ففي رواية عن سعيد بن هلال قال: كان رسول الله (ص) إذا قرأ: (قد أفلح من زكاها)، وقف ثم قال: اللهم آت نفسي تقواها، أنت وليها ومولاها، وزكها فأنت خير من زكاها.. وقد جاء في تفسير الشيخ الطبرسي (مجمع البيان ج10 ص755) في تفسير الآية: (فألهمها فجورها وتقواها) أي عرّفها الفجور والتقوى وزهدها في الفجور ورغّبها في التقوى.. وعن ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك: قيل علمها الطاعة والمعصية لتفعل الطاعة وتذر المعصية، وتجتني الخير وتجتنب الشر.. وجاء في الحديث: إن النفس لجوهرة ثمينة، من صانها رفعها، ومن ابتذلها وضعها.. وفي مناجاة الشاكرين نجد مولانا سيد الساجدين علي بن الحسين(ع) يقول: (إلهي إليك أشكو نفساً بالسوء أمارة، وإلى الخطيئة مبادرة، وبمعاصيك مولعة، ولسخطك متعرضة، تسلك بي مسالك المهالك، وتجعلني عندك أهون هالك، كثيرة العلل، طويلة الأمل، إن مسها الشر تجزع، وإن مسها الخير تمنع، ميالة إلى اللعب واللهو، مملوءة بالغفلة والسهو، تسرع بي إلى الحوبة، وتسوفني بالتوبة). فالنفس تشكل قوة ضاغطة لجر الإنسان في متاهات لا حصر لها، وهي العدو الأول الذي يواجهه الإنسان ويجد الضغوط الكبيرة منه على نفسه للانحراف، وتكون الطامة الكبرى عندما يتجرد الإنسان من نور العقل، فتكون هذه النفس عامل إضرار وهدم لا نفع وبناء، ولذا فلا خيار أمام الشخصية السوية سوى مواجهة النفس بقوة الإرادة، والوقوف أمامها لتهذيبها وتزكيتها، وبذل الجهد للانتصار عليها، والعزوف عن الدنيا.. 2- اتباع الشهوات.. التعريف اللغوي للشهوة: هي الرغبة الشديدة والقوة النفسانية التائقة للملذات المادية، وتأتي الشهوة حيناً بمعنى: الهوى، وحيناً آخر بمعنى: اللذة، وكلاهما يؤدي إلى نفس المعنى، فاتباع الشهوات يؤدي إلى انحراف الشخصية، لأن الشخصية المريضة العاجزة عن إخماد هيجان النفس واندفاعاتها، تبقى ضعيفة حبيسة بين أشراك النفس حتى تستسلم لضغط الهوى بسبب ضعف الإرادة، وانعدام الضمير اليقظ، مما يجر الشخصية للانحراف.. قال الله عز وجل: (أفرأيت من اتخذ الهه هواه وأضله الله على علم) (الجاثية: 23). وقال عز وجل: (زين للناس حبُ الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب) ) (آل عمران: 14). وقال عز وجل: (وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى * فإن الجنة هي المأوى) (النازعات: 40–41). وجاء في الأحاديث الشريفة: (الهوى قرين مهلك).. و(الهوى أعظم العدوين).. و(من تسرع إلى الشهوات تسرعت إليه الآفات).. و(الشهوات سمومات قاتلات).. و(أوصيكم بمجانبة الهوى، فإن الهوى يدعو إلى العمى، وهو الضلال في الآخرة والدنيا).. و(إنك إن أطعت هواك أصمك وأعماك وأفسد منقلبك وأرداك). وعن الإمام علي (ع) قال: (رحم الله امرءاً نزع عن شهوته، وقمع هوى نفسه، فإن هذه النفس أبعد شيء منزعاً، وإنها لا تزال تنزل إلى معصية في هوى). وعنه (ع) أيضاً: (رحم الله امرءاً كابد هواه، وكذب مناه). وجاء في الحديث: (أوحى الله إلى موسى بن عمران: أذكر أنك ساكن القبر فيمنعك ذلك عن كثير من الشهوات).. ويقول الإمام علي (ع): (اذكر مع كل لذة زوالها، ومع كل نعمة أثقالها، ومع كل بلية كشفها، فإن ذلك أبقى للنعمة، وأتقى للشهوة، وأذهب للبطر، وأقرب للفرج، وأجدر بكشف الغمة، ودرك المأمول).. 3- الخضوع لنداء الشيطان.. إن المفهوم القرآني للعلاقة مع الشيطان هي العداوة (إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا) (فاطر: 6).. وقال عز وجل: (إن الشيطان للإنسان عدو مبين) (يوسف: 5).. وقال عز وجل: (إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدواً مبيناً) (الإسراء: 53). يواجه الإنسان ضغط النفس ومحاولة ميلها عن جادة الصواب، وانزلاقها إلى الطريق المنحرف، فيزداد ويشتد ضغط الغرائز عليها فيخضع الإنسان للاستجابة، فيتبع الهوى ثم يأتي دور الشيطان ليزداد الضغط ويبقى الإنسان في طريق الانحراف والغواية، قال تعالى: (كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير) (الحج: 4).. إن الحقيقة الواضحة هي إن الشيطان يبذل كل ما في وسعه لإضلال الإنسان وإذلاله وإسقاطه في وحل الخطيئة بسبب عداوته له، يقول الله عز وجل: (قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم * ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين) (الأعراف: 16-17). إن مهمة الشيطان الوحيدة هي إغواء البشر عن الصراط المستقيم وإضلالهم عن معرفة نور الحق، ورصد كل خطوات الإنسان للمكر به وإبعاده عن هدى الاستقامة، فهو يصور الباطل حقاً، ويزين القبيح من الأعمال، ويلبس الحق بالباطل فيصحح الأعمال الخاطئة ويخطئ الأعمال الصحيحة، ويفلسف الأشياء بأسلوب ملتوٍ من أجل غواية البشر.. إن حركة الشيطان ليست حركة ساكنة بل هي متحركة وفاعلة، تتفاعل في أذهان البشر وفي خواطرهم وأعمالهم، وتحوم حولهم ولا تزول عنهم حتى تراهم ساقطين في بحر الخطايا، لكن الشيطان ليس قدراً على الإنسان لا يمكن قهره، فبالإرادة والصمود في مواجهة النفس وكبح الشهوات واستخدام العقل، سلامة من كيد الشيطان.. يقول الله تعالى: (إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون) (النحل: 99).. وقال رسول الله(ص): (ألا أخبركم بشيء إن أنتم فعلتموه تباعد الشيطان عنكم كما تباعد المشرق عن المغرب؟. قالوا: بلى يا رسول الله.. فقال (ص): الصوم يسوِدُ وجهه، والصدقة تكسر ظهره، والحب في الله والمؤازرة على العمل الصالح يقطع دابره، والاستغفار يقطع وتينه).. وجاء في الروايات: (إن إبليس قال خمسة ليس لي فيهم حيلة وسائر الناس في قبضتي: أ) من اعتصم بالله عن نية صادقة واتكل عليه في جميع أموره.. ب) ومن كثر تسبيحه في ليله ونهاره.. ج) ومن رضي لأخيه المؤمن ما يرضاه لنفسه.. د) ومن لم يجزع على المصيبة حتى تصيبه.. هـ) ومن رضي بما قسم الله له ولم يهتم برزقه.. |
كيف ينحرف الإنسان؟ |
1- عندما لا يجد الإنسان التربية السليمة سواء في العائلة أو المدرسة.. 2- عندما يكون الإنسان في بيئة غير صالحة أو في محيط فاسد، وكل ما يستدعي انتشار الرذيلة والموبقات كالخمر والزنى والمخدرات وانتشار الثقافات الهدامة، والإحتكار، و..الخ.. 3- بسبب القوانين الوضعية غير العادلة.. 4- بسبب ظروف الحياة الصعبة كـ: الفقر، الحروب، تناقضات المجتمع وتنازعاته، شيوع الظلم، الانعزال أو العزلة، ما هي ظواهر الانحراف بسبب التمييز في الدين أو المذهب أو اللون أو العرق.. الخ.. 5- بسبب الاستعمار والحكومات غير الشرعية التي تتحكم بالبلاد والعباد دون وجه حق.. 6- بسبب الفراغ والجدة، قال الشاعر: إن الشباب والفراغ والجدة مفسدة للمرءِ أي مفسدة |
كيف نعالج الانحراف |
ملاحظات: 1- الانحراف ليس قدراً، وكل الذين قالوا بالقدرية كانوا يبررون للحكام الظلم، ويرفعون عن أنفسهم عذاب الضمير وتأنيبه جراء أعمالهم الفاسدة، وكانوا يعينون الظلمة على إسكات الشرفاء والمؤمنين عن مقاومة الفساد والظلم المتفشي في المجتمعات الطاغوتية.. 2- إن أفضل علاج هو الوقاية من المرض، والمبادرة قبل انتشاره وتفشيه في المجتمع، ومعالجة نقاط الضعف والثغرات التي ينفذ من خلالها الانحراف إلى المجتمع.. فالاهتمام بالتربية الصالحة تبعد المجتمع عن الانحراف.. والاهتمام بمسائل الحلال والحرام وتعلمها يقي المجتمع من الخطايا.. وتوفير الأرضية الصالحة للنشء، وتطور المجتمع يمنع الرذائل والموبقات.. وتوفير العيش الكريم للناس يبعدهم عن التفكير في الحرام والمعاصي.. |
خطوات العلاج المقترحة |
1- التوجه المباشر لمعالجة الأسباب وليس النتائج، لأن أغلب الناس الذين ينحرفون إنما تدفعهم الحاجة للانحراف، سواء كانت هذه الحاجة فقراً أو ظلماً أو ما شابه، أما الذين ينحرفون من دون وجود حاجة فهم قليلون، وهم أئمة الكفر: الذين ليس لهم في انحرافهم حاجة إلا إضلال الناس وإبعادهم عن الجادة كما يفعل إبليس، ولذلك فلابد من معالجة السبب وليس النتائج، ومعرفة أن هذا الانحراف هل هو ناتج عن حاجة مشروعة تنتهي بتلبيتها، أم لخبث في نفس الإنسان والعياذ بالله؟!! ولابد من العمل على إصلاح المنحرف بمساعدته لحل مشاكله، فأمير المؤمنين(ع) زوّج مومساً حتى يصلحها، وجميع الأئمة كانوا يعطون من الحقوق ومن أموالهم الخاصة للفقراء والمساكين لحل مشاكلهم.. 2- العمل على نقل المنحرف من الوضع الذي هو فيه إلى وضع أفضل، عن طريق معالجة الفراغ والبطالة بتوفير العمل والوظيفة، وإبعاد الإنسان عن البيئة غير الجيدة بنقله إلى بيئة صالحة، وهكذا.. 3- استخدام العقوبة عندما تكون ضرورة للردع، وفي الإسلام يشترط لمعاقبة المجرم أمور منها: - ثبوت الجريمة بالوسائل الشرعية والقانونية.. - استحقاق المجرم للعقاب (من حيث البلوغ، التكليف، الاختيار، وعدم الاضطرار، وما شابه). - ثبوت خرق المجرم لقانون صلاح المجتمع (فساحر المسلمين يقتل وساحر الكفار لا يقتل، والمسلم الملي لا يقضي فواته بينما المسلم الفطري يقضيه، والسارق في المخمصة لا تقطع يده، وهكذا). - مراعاة المصلحة ودراسة جدوائية العقاب، وهل هو أفضل أم العفو؟ لقد عفا أمير المؤمنين عن سارق لحفظه سورة البقرة، وكان (ع) يسوف الزانية – في القصة المشهورة – عندما أرادت التطهير لعلها تتوب وتكتفي.. - أن لا يكون المعاقب ممن يرتكب نفس الأخطاء، فالمسيح عيسى بن مريم(ع) قال لأصحابه عندما أرادوا أن يرجموا الزانية: من كان منكم بلا خطيئة فليرجمها بحجر.. وأمير المؤمنين (ع) قال: (لا يقيم الحد من عليه حد). 4- العمل الجدي لإصلاح المجتمع الصغير (المدرسة والعائلة). 5- نشر الثقافة السليمة والرصينة والملتزمة، ثقافة البناء والتطور، ثقافة التغيير إلى الأفضل، ثقافة الدين والدنيا، ثقافة النبي محمد (ص) وآل بيته الأطهار(ع). 6- بناء الأرضية الإيمانية في نفوس الناس، وتعليمهم على الفضيلة والأخلاق وخاصة النشء.. 7- المساواة بين الناس وإتاحة الفرص للجميع.. 8- إشراك الناس في إدارة شؤونهم وعدم احتكار السلطة من قبل أي أحد.. |
كلمة أخيرة.. |
إن مسؤولية إصلاح المجتمع ليست مسؤولية العلماء والموجهين خاصة بل مسؤولية كل أبناء المجتمع، علماء دين ومربين، أساتذة وموظفين، أكاديميين وغيرهم.. كما أن مهمة الإصلاح ليست موجهة للمنحرفين خاصة، بل هي للصالحين والمنحرفين، للخيرين والفاسدين، فللمنحرف الإصلاح والتقويم، وللصالح التشجيع والحث على التأثير وعدم التأثر، وهكذا.. ولابد من تكاتف الجهود وتوفر النيات الصادقة من كل الذين يحبون الخير والصلاح لهذا المجتمع المسلم، الذي دخل في الإسلام دون قتال، واختار طريق الهداية دون إكراه، وبقى مع الرسول (ص) وخطه منذ اليوم الأول للدعوة وإلى اليوم، ودفع ولا يزال ضريبة الإيمان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكي نكون خير خلف لخير سلف.. |