|
د. سعد الإمارة |
● المـــقدمـــــة.. |
يشكل الإعلام في عصرنا الحاضر القوة الأكثر تأثيراً في حياتنا بسبب التطور والتقدم التكنولوجي، ولكن هذه التكنولوجيا ورغم قوتها وفعلها المؤثر وقدرتها على تسهيل حياة الإنسان وشؤونه، فإنها جلبت معها الآفات والكوارث والمآسي النفسية والاجتماعية والتربوية والتغير القيمي، فالظواهر التي كانت تتميز بها الشعوب، وتمثل خاصية تتصف بها دون غيرها مع الصعوبة في الانتقال والاتصال، باتت سهلة الانتقال بفعل التحديث السريع الذي حول العالم إلى قرية صغيرة. إن تأثير شبكات الاتصال ومكونات التكنولوجيا الحديثة، أبرز قوة الإعلام كأحد نتاجات هذه التكنولوجيا مما زاد من أهميته، كما تعددت وسائله في الاتصال والتأثير إلى درجة أصبحت معها سهلة المنال لكل من يطلبها، فنقلت لنا تجارب الشعوب القديمة والحديثة (الحية). لقد اشتملت تلك التجارب على كل دقائق حياة المجتمعات، وتفاصيل شؤونها السلبية والإيجابية، ومنها القتل والعنف والكراهية والسلوك العدواني، بغض النظر عن اختلاف الثقافة والأصول الحضارية وأساليب التنشئة، فبات التغير قاب قوسين أو أدنى من أن يعصف بالمجتمعات رغماً عنها، وهذا ما أطلق عليه بالعولمة الثقافية، ثم تتبعها العولمة السياسية والاقتصادية، وفي الأخير ربما تصل إلى العولمة الاجتماعية التي تشمل العولمة القيمية التي تمتد لتغير قيم الشعوب بمرور الزمن. |
● التلفزيون وتغيرات السلوك الاجتماعي: |
يرى الإمام الشيرازي أن الدعاية السيئة تلبس الحق بالباطل، وتزيف الحقائق وتستفيد من جهل الناس، فتحملهم الأباطيل في صورة حقائق (2 :162) وتؤدي إلى تغيرات فعالة في السلوك الاجتماعي، لا سيما أنها تخترق حياة الناس في أدق تفاصيلها وتؤثر فيهم، حتى ليكاد التلفزيون الذي يعد الأداة الأكثر فاعلية في الإعلام المرئي عموماً، أن يحدث المشاجرات والانفعالات والشد العصبي بين أفراد الأسرة الواحدة، لما ينقله من أنباء وخطاب وتفاصيل مثيرة عن العالم، بعد فبركتها بقصد الإثارة، فباتت الدعاية السيئة محور التزييف والتشويه للحقائق، وبات سلوك العنف المنقول عبر الشاشة الصغيرة، هو السلوك البطولي الأكثر سيطرة على المتلقي، ونقل السمات المكتسبة للأطفال بوساطة هذا الجهاز، في الوقت الذي يكون الأب منشغلاً عن أبنائه في معظم اليوم خارج الأسرة؛ وقلة حضوره وتواجده، أدى إلى أن يصبح (التلفزيون) الأب البديل للطفل بما يقدمه من مادة إعلامية مغلفة بالحلوى والشكولاته، بانتظار أن يلطعها الأطفال لا شعورياً مع إنشداد نفسي غير اعتيادي، فكانت اللغة السائدة للتفاهم هي لغة حوار العنف بواسطة أفلام (الكارتون) أو عبر المسلسلات الاجتماعية الداعية إلى أن يكون البطل أكثر قساوة في القتل وتصفية أعدائه، أو إظهار التهريب والمتاجرة بالمخدرات والممنوعات بمظهر السلوك الاجتماعي الطبيعي، فالتلفزيون ينطوي على نوع فطري من التحيز كامن في داخله إزاء تصوير أي صراع فيما يتعلق بالوحشية التي يمكن إبصارها (3 :371) لذا نجد مآسي الإنسان في هذا العصر أكثر من مآسيه في أي عصر مضى (2 :161) خاصة مع قدرته العالية والفعالة (أي التلفزيون) في تحريك آليات الحياة وديناميتها وتفاعلها مع الموجودات الحية ومكونات الحياة عموماً، وإن هذه القوة (التلفزيون) يتأثر بها الإنسان ويتفاعل معها وتكاد توجهه وتغير اتجاهاته وميوله نحو موضوع حيوي في حياته، و إزاء موقف أو قضية ما فعالة بشكل لا يطاق، و هذه القوة باتت تتعدى نطاق السيطرة عليها أو على قوة تأثيرها ووجودها الذي يتسرب بشكل لا انفكاك منه للأسرة... فكأن التلفزيون هو الضيف الذي يدخل دون استئذان على الأسر والبيوت في أي وقت، وفي أي مكان، ومن ثم يتم تعلم كل التصرفات والسلوك العدواني من خلال المشاهدة المنظمة لمنفذي أعمال العنف تماماً مثلما يتعلم الأطفال المهارات الاجتماعية والمعرفية من خلال مراقبة آبائهم، وإخوانهم أو رفاقهم وغيرهم وأكثر من ذلك فقد أصبح واضحاً أن المدى الذي يحرض الطفل على محاكاة فاعل العنف يتأثر تأثيراً كبيراً بالتعزيز الذي يتلقاه الطفل من الفاعل، فإذا كوفئ الفاعل على سلوكه العدواني أمام مرأى الطفل وحصلت الإثابة (الثواب) فإن من المحتمل أن يقلد الطفل هذا السلوك، لذا فإن الأطفال الذين يشاهدون سلوكيات عدوانية بحجم كبير في التلفزيون، بمقدورهم خزن هذه السلوكيات ومن ثم استعادتها وتنفيذها وذلك حالما تظهر المؤثرات الملائمة لإظهار هذه الاستجابة السلوكية العدوانية، وإن تذكر السلوك العدواني الذي يقدم حلاً لمشكلة يواجهها الطفل قد يؤدي إلى إطلاق هذا (المكبوت) من السلوك العدواني، ويصبح المفهوم العدواني مقترناً مع النجاح في حل مشكلة اجتماعية (4 :48) ويظل التلفزيون الوسيلة الفعالة في قوة التأثير إعلامياً... حتى قيل إن معظم المشاكل التي تواجه الآباء مع التلفزيون لا تتصل مباشرة بالتلفزيون ذاته، بل بالسيطرة عليه (1 :226). |
● إعلام الحرب ونتائج العنف: |
تعد الحرب بكل أشكالها قهراً لإنسانية الإنسان، مهما كانت نتائجها بالنسبة للطرفين المتحاربين، وهذه النتيجة مسلمة يؤمن بها الرجال منذ فجر التاريخ، إلا أن مصالحهم الشخصية الضيقة وطموحاتهم المرضية تتغلب على الجوانب الإنسانية بكل تفاصيل الحياة، من حيث المجد والشهرة وإشباع النزعات المرضية الخفية التي تحرك رجالات الحرب. فآلة الحرب بكل ما تحمله من أجهزة ومعدات مصاحبة لها، إنما هي في جوهرها تبادل منظم للعنف، والدعاية في جوهرها عملية إقناع منظمة، وهي إحدى أجهزة الحرب وآلياتها، فبينما تهاجم الأولى الجسد، فإن الثانية تنقض على العقل، الأولى حسية والثانية نفسية، وفي زمن الحرب تهاجم الدعاية والأعمال الحربية النفسية جزءاً من الجسد، لا تستطيع الأسلحة الأخرى أن تصل إليه، في محاولة للتأثير في طريقة أداء الأطراف المشاركة في ميدان القتال، حتى أن الدعاية للحرب قديمة قدم الحرب ذاتها، وإن الذخائر التي ينتجها العقل والتي توجه إلى العقل، هي أسلحة أثبتت أنها لا تقل أهمية عن أي من الأسلحة التي ابتكرها الإنسان حتى الآن بهدف محو وجود اخوته في الإنسانية، وقال (البيركامي): (على اتساع خمس قارات خلال السنوات المقبلة سوف ينشب صراع لا نهاية له بين العنف وبين الإقناع الودي... ومن هنا سيكون السبيل المشرف الوحيد هو رهن كل شيء في مغامرة حاسمة مؤداها أن الكلمات أقوى من الطلقات)(3 :30) وتحققت في إعلام الحرب السيادة على الأعداء، ولكن بقيت آلة الحرب بكل إمكاناتها تعمل خفية، ولكنها توجهت للدماغ، فكان من نتائجها الحرب على الدماغ، وتسييره نحو حرب جديدة، وهي سياسة الدول المنتصرة في الحرب، وتسخير كل الشعوب لها، ولو بوسائل تختلف كلياً عما كان يمارس زمن الحرب، ولكن تبقى أداة الحرب المتمثلة في العنف الفردي والسلوك العدواني هي النتيجة المحققة في زمن السلم، بحيث أصبحت الكلمات أقوى من الطلقات لا سيما أن أدوات الدعاية والإعلام أخذت مفعولها في التأثير بشكل لا يرد، ولا يمكن إيقافه كحرب مستمرة، وهي امتداد طبيعي للحرب. إن العنف المتعلم واقعياً من الحرب، والمنقول من جبهات القتال لسنوات أو أشهر، ، يشكل بحد ذاته سلوكاً يطغى على تصرفات الشخص المشارك في الحرب أو العنف، بالإضافة إلى الإعلام والدعاية المصاحبة لهما و إظهار صورة النصر البراقة كإيقاع حتمي في النتيجة، مما يضفي على سلوك أفراد المجتمع هذه المسحة الملفوفة بالعنف، رغم أن التلفزيون والسينما والصحافة التي ما زالت تذكر الناس بالانتصارات المتحققة في الحرب والمباهاة الزائدة بحق الشعوب بالزهو فيها وتمنحها دفعات قوية من الانفعالات، كذلك محاولة مزج صورة العنف الدموي وصور القتل كبديهية لا بد من قبولها واقعاً متحققاً، فينشأ لدى معظم الناس الإعداد النفسي مع التهيؤ الملائم لقبول العنف والسلوك العدواني كحقيقة واقعية وسلوك طبيعي، ويمكن تفسير مشاهد العنف والسلوك العدواني من خلال: 1- التعلم الرصدي الذي من خلاله ترتسم السلوكيات العدوانية وتوصف في التلفاز ويتم تعلمها من قبل المشاهد. 2- التفريغ الانفعالي الذي من خلاله يجنح المشاهد إلى الانسياق وراء دوافع السلوكيات العدوانية ويؤدي ذلك إلى تناقص هذا الدافع نتيجة مشاهدة الفاعلين وهم يتصرفون تصرفاً عدوانياً. 3- حدوث تغيرات في الإثارة الفسيولوجية أو العاطفية وفي الاستجابة، والتي تتجسد بمشاهدة العنف، وبعاطفة العدوان. 4- تبدلات الموقف التي يترتب عليها التعرض إلى مشاهد العنف و ظهور عاطفة العدوان، أي تأثيراتها على السلوك. 5- عمليات التبرير الصادرة عن الأولاد العدوانيين الذين يرقبون ويشاهدون أفلام العنف لأنها تزودهم بالغرض لتبرير سلوكهم العدواني على أساس كونه عادياً(4 :46). |
● نتائج الإعلام في العنف والسلوك العدواني: |
إن ما يخلفه الإعلام من نواتج ودعاية لا يمكن وصفها تفصيلياً وبموضوعية محايدة بحيث تظهر الحرب وكأنها قمة الحضارة وبناء الإنسان الجديد وضمان لمستقبل الأجيال وتحقيق السيادة، فكأن في القتل حياة، وفي تدمير الشعوب بناءاً للحضارة، وتطويراً للإنسانية المواكبة للعصر، واستبدال السلام بالعنف والسلوك العدواني هو الضمان للمستقبل، يقول السيد الشيرازي: (إن للدعاية المزيفة طرقاً كثيرة، وقد كتبت في هذا الشأن كتب سخرت لها أقلام اجتماعية ونفسية وتربوية) ومن الأساليب التي يتبعها أصحاب الدعايات الباطلة: 1- استغلال مواضع العنف عند الإنسان. 2- استغلال ضعاف الشخصية لأجل قبول الدعاية، مثل النفوذ في المجتمع وعن طريقهم. 3- التأثير في المجتمع بسبب أقلام الأدباء. 4- تحري الجماعات لأجل نشر دعايتهم. 5- يكررون كلامهم حتى يؤثروا في السامع. 6- تحري الحق النصفي، أي ذكر بعض الحق، والسكوت عن البعض الآخر. 7- تأويل الحق باطلاً، أو الباطل حقاً. 8- خلط الباطل بالصحيح، حتى ينخدع السامع (2 :162). وإن من نتائج الحرب وانعكاساتها على السلوك البشري، نشوء السلوك العدواني وتشكيل سلوك العنف الذي يتجسد بقوة كما تظهره وسائل الإعلام بشكل محوِّر، حيث قال الله سبحانه وتعالى: (يحرفون الكلم عن مواضعه) (النساء:46). فنتائج الإعلام بعد انقشاع الرؤية الضبابية تتجسد في الواقع المدمر بشتى صوره المتمثلة في الأجساد الإنسانية والآلات على اختلافها وتنوعها، والأعضاء المبتورة والهياكل العظمية المتهاوية لبقايا باقية من جيف متهرئة مستغيثة ومنسية بالإضافة إلى بقايا الغبار الذري وكتل الباطون المنهار والمنشق على أوسع الأماكن والمرمي على قمامة الجماجم المتفحمة من الحريق والتلوث وحقد صانعي القنابل التي لا ترحم، وبقايا هياكل الحيوانات وصور الموائد والمدافئ والعراء والحدائق وهي تنهار أجزاء وقطعاً مع وقع ذكريات الحرب القذرة والجوع والخوف وصور القتل فهي مواضيع تمثل الموت وتحفل بصور أجساد الإنسان المبتورة والهياكل والجماجم والطبيعة الحزينة على الجرائم والقتل(5) وهذه الصور المنقولة في وسائل الإعلام وتأثيراتها على الإنسان إنما تجعله يقبل بها بمرور الزمن، لا سيما أن التأثيرات الموجهة نحوه منظمة، وليست عشوائية، وإنه هو المستهدف أولاً في الحرب ونتائجها، والإعلام ونتائجه، لذا فإن توجيهه نحو هدف ما يتم عن بعد ومن خلال المادة الإعلامية المبثوثة على آليات الإعلام المتعددة، وقد تم تخطيط ذلك من خلال: - عامل الملائمة وانتقالية الجمهور الذاتية الموازنة، يجعل من المحتمل أن تنجح الحملات الإعلامية أعظم نجاح في تقرير الميول الحالية. - يحتمل أن تكون الحملة التثقيفية أكثر نجاحاً من الحملة التي تهدف إلى تغيير المواقف. - المتلقي ليس لديه مصادر منافسة للمعلومات ولا مصلحة شخصية في مقاومة أو عدم تصديق المعلومات. - يغلب أن تكون الحملة التي تسمح بدرجة من الاستجابة الفورية في العمل فعالة لأن السلوك عموماً يؤكد النية في التصديق. - يمكن أن يكون التكرار كأحد الروافد المحتملة للتأثير (6 :42). إن هذه العوامل جميعاً مهمة في عملية التأثير المتعدد الجوانب على الفرد المتلقي وستكون فعالة حتماً، وإن الإعلام يكون قد حقق نتائجه المرجوة، وعلى الفرد أن يخضع لسلطانه حتماً! |
● انعكاسات العنف والسلوك العدواني على المجتمع: |
يقول الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه الكريم: (فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) (الحج:46) وقال النبي الأكرم(ص) : (إن من البيان سحراً ومن العلم جهلاً ومن القول عياً)، فالإعلام الموجه بكل وسائله المتاحة من إذاعة وتلفزيون وسينما وصحافة...الخ، يقلب الحقائق ويؤثر في الناس سلباً أو إيجاباً، ويغير اتجاههم نحو قضايا معينة، ويظهر أنواعاً مختلفة من الآراء حتى ليصور الحقائق بأنها خرافات أو العكس تماماً، وما عرضناه من آراء حول تكوين سلوك العنف والعدوان باعتباره سلوكاَ مقبولاً لا يرقى إليه الشك، وقد يتستر بشعارات العدالة الإنسانية أو الديمقراطية أو الدفاع عن حقوق بعض الشرائح الاجتماعية أو العمل لأجل سعادة البشرية وبالتالي قبول سلوك العنف استناداً لتلك الطروحات المدعمة بأدلة منطقية، والتي تأخذ الجانب الموضوعي في سياقها السطحي، وتستطيع أن تتوغل في عمق المجتمع؛ مما يكاد أن يحقق أهدافها المرسومة لتتحول بمرور الزمن إلى قيم اجتماعية مقبولة، فيكون انعكاس العنف والسلوك العدواني المهيأ له من قبل وسائل الدعاية والإعلام سلوكاً اجتماعياً مقبولاً، و يستدمج لدى أفراد المجتمع باعتباره مظهراً طبيعياً،ويتمثل ذلك من خلال: أولاً: العدوان اللفظي: والذي يظهر عبر الإكثار من الأصوات العالية والضجيج والصياح الغاضب. - الشتائم المتكررة. - التهديد بالكلام والإشارات. ثانياً: عدوان مباشر ضد الأشياء: ويتمثل في: - ضرب الأبواب بعنف، وبعثرة الأشياء. - إلقاء الأشياء ورميها بعنف، والكتابة العشوائية على الجدران. - تكسير الأشياء ، وتهشيم النوافذ. - إشعال الحرائق. ثالثاً: عدوان ضد الآخرين: ويتمثل في: - الاندفاع نحو الآخرين بشكل عدواني. - ضرب الآخرين ونتف شعرهم. - مهاجمة الآخرين ومحاولة جرحهم. - الهجوم على الآخرين بشكل خطير يبلغ حد جرحهم بصورة خطرة (8 :222). فسلوك العدوان والعنف والكراهية بين الناس بات محور التعامل مع أفراد المجتمع بسبب قوة تأثير الإعلام ووسائله الناجحة في البث والتأثير على عقل المتلقي، ولكن هذا السلوك لا يشكل حلاً أو دواءً وعلاجاً للمرض الاجتماعي، وإنما زاد من تفاقم التخلف الذي صاحبه العنف الملازم للسلوك، فضلاً عن أن سلوك العنف والعدوان لم يكن سلاحاً لتغيير سلوك آخر، وإنما عمق الفرقة والكراهية والتصدع في القيم الاجتماعية، فتعددت دوائر العنف والكراهية وزاد البغض بين أفراد المجتمع الواحد... حتى كاد الناس ينسخون قيمهم الأصلية التي توارثوها من آبائهم بقيم الكراهية والعنف والاحتيال والغش، وإذا ما تم التوصل إلى حلول تتناسب مع الأزمة وإمكانية تفتيتها، ظهر إعلام العنف مرة أخرى يلوح في الأفق ويؤكد على السلوك العدواني كأداة لحل المشكلات، ولكن بغلاف الكرامة والشهامة والنخوة وما أشبه ذلك، ولعل من أشد ما أفرزته هذه الحالة على المجتمع من صنوف الفجيعة، هو أن كل قبيلة من القبائل المتنافرة أو المتناحرة صارت تملك كل القناعة والجزم والتأكيد على أنها الوحيدة القادرة على الرؤية النافذة والرأي القويم، والتحليل الذي لا يخطئ في فصل العناصر وإيجاد الحلول (9 :134) ومن أمثلة تدني هذا الواقع هو سيطرة صاحب الرأي الذي لا يفقه بأمور الحياة وحل مشاكلها، ويرى أن رأيه هذا هو الأصح وغيره خطأ ومخالف لكل القوانين والقيم والأعراف الاجتماعية، وإن استخدام العنف والعدوان والقوة هو الأسلوب المناسب لحل المشكلات، ولا بديل آخر غير ذلك. وقد قال الإمام علي (ع): (بئس الزاد إلى المعاد العدوان على العباد) (7 :66) ولكن يبقى العنف والسلوك الإجرامي و العدواني سمة يتسم بها الإنسان عبر تاريخه الطويل ولو بفترات ربما صعبة في حياته أو إزاء أزمات وكوارث حقيقية يعيشها، ويلجأ إلى البحث عن أساليب تمنع فناءه وتحفظ بقاءه، وإن كان الرأي بأن أحد أسباب العنف والسلوك العدواني يكمن في نفس الإنسان فضلاً عن البيئة والأوضاع الفاسدة (10 :113). |
● بين التعاطف الاجتماعي وسلوك العنف والعدوان: |
إن الدين الإسلامي، دين شمولي من حيث منهجه في الحياة ومن حيث تفسير وقائع وأحداث الحياة المختلفة، فهو شمولي في نظرته للكون وللإنسان، حيث لا يركز على جانب دون آخر، ،فهو شامل من حيث التحليل والتفسير للظواهر، وهو يضع الحلول للأزمات ويطرح الخبرات السابقة كأدلة علمية، ويدعو العقل إلى كشف الأمور واستخدام العاطفة بدلاً من العنف، كما يدعو إلى المحبة بين الشعوب والأفراد، والعيش بسلام بين الناس، ونبذ سلوك الكراهية والعدوانية؛ حيث قال النبي المصطفى (ص): (العلم خليل المؤمن، والحلم وزيره، والعقل دليله) (7 :45)، وقال الإمام علي(ع) : (العاقل من وعظته التجارب) (7 :63)، فالتعاطف الاجتماعي وسلوك المودة والتقارب بين الناس هو سلوك الإسلام كدين، وهدف الأديان السماوية عموماً، والتي أنزلها الله لجعل الكائن البشري أكثر إنسانية، كما دعا العلماء بكل التخصصات الدينية والإنسانية والعلمية إلى تعظيم شأن الإنسان الذي يعد أفضل المخلوقات، والى نبذ العنف والعدوانية والتحكم في النفس والتعاطف مع الآخر بالمهارات البشرية قصد انضاجها، وهذه المهارات تسمو في قمتها المهارات الاجتماعية التي تجعل التعامل مع الآخرين فعلاً قوياً. وذلك لأن العجز عن امتلاك هذه الكفاءة يؤدي إلى فشل أو عجز في الحياة الاجتماعية أو إلى تكرار النكبات التي تحدث بين الناس، والواقع أن النقص في هذه المهارات هو سبب فشل العلاقات المتبادلة بين الأشخاص والمجتمعات،وهذه القدرات الاجتماعية التي يتمتع بها الإنسان هي التي تجعله قادراً على مواجهة الآخرين وتحريكهم، وعلى إقامة العلاقات الحميمة الناجحة، وعلى إقناع الآخرين والتأثير فيهم (11 :165) لذا فالتعاطف مع الإنسان الآخر هو توضيح لمعنى وجود الحياة الإنسانية الخالية من العنف والقائمة على العدل والرحمة والمغفرة، وهي دعوة الجميع للعيش بأمان، وهذا يعني أن تطمئن القلوب وترتاح النفوس ويزول القلق ويسود الإحساس بالسكينة وراحة البال ولأن الخالق سبحانه وتعالى موجود فإنك لست وحدك وإنما تحفك العناية الإلهية وستشعر بالاستئناس والصحبة والأمان، فلا هجر ولا غدر ولا ضياع ولا وحشة ولا اكتئاب (12 :100) أما أسلوب العدوان والعنف فهو أيضاً يحظى بدرجة لا بأس بها لدى المتلقي بفعل تأثيرات الدعاية والصحافة والتلفزيون والإعلام الموجه نحو شعوب بعينها ومناطق تعد الأكثر سخونة في العالم، ومسألة إخضاعها لتجارب مسألة حتمية لا بد منها، لا سيما أن مصالح الدول المتنفذة هي الأكثر سيطرة على العالم، فهي تشكل نقطة أساسية في استمرار بقاء تلك المناطق متوترة وساخنة، لذا وجدت علاقة سبب ونتيجة بين الإعلام والعنف والجريمة، وفي أفضل الأحوال يمكن القول إن توصيفات وسائل الإعلام لا تتسبب في أن يصبح الجمهور عنيفاً لكنها قد تؤثر على بعض مستخدمي وسائل الإعلام الذين يمتلكون نزعات لا اجتماعية وقد نشر الشك والخوف بين الآخرين (6 :413). لقد أثبتت الدراسات العلمية أن انتشار السلوك العدواني والعنف بين أفراد المجتمع هو كانتشار العدوى في حالة وجود مرض سريع التفشي، فالعدوى هي تعلم سلوكي بين الأفراد في المجتمع الواحد، وخاصة أولئك الذين لديهم تهيؤ لهذا الوضع، أو الذين أنهكتهم الحياة بمتاعبها واستنزفتهم الأيام، ويأتي الإعلام ليضيف إلى هذه المعاناة والتهيؤ قوة بالتوجيه السلبي مما يزيد في قسوة الترسيخ والتدعيم، وقد وجدت دراسات العنف والمؤثرات النفسية الإعلامية على العدوان من خلال تقمص شخصيات معينة أن لها أدواراً واضحة في إرعاب الناس الآمنين أو الشعوب المستقرة اجتماعياً. فبقدر ما يوجد من تعاطف ومحبة بين الناس وتواد وتآلف، توجد بنفس المقدار دوافع العدوان وأساليب العنف والكراهية والرعب، حتى لنكاد نعترف بشكل أو بآخر بأن الناس والشعوب باتت حقول تجارب لسياسات لم تتحقق من فرضياتها بعد، وبما أنها قد فرغت من إخضاع الحيوان قديماً (الفأر، القرد، الكلب) للتجارب، فقد حان الوقت الآن لإخضاع الشعوب للتجارب، ولكن يبقى قول الإمام علي (ع) حكماً ونبراساً في دقة الرأي بقوله(ع): (ليس كل من رمى أصاب) (7 :63). |
● الخـــاتمـــة: |
استعرضنا خلال بحوث سابقة موضوعات تتعلق بالعدوان والعدوانية والسلوك العدواني والعنف والعدوانية الفردية (الشخصية المضادة للمجتمع) وكلها تتمحور حول هذه المضامين الحساسة في حياة الإنسان مع اختلاف في أحد المتغيرات الأساسية مثل الشخص في موضوع (العدوانية الفردية) والنفس في موضوع (النفس والعدوان) والإعلام في موضوع (الإعلام والعنف والسلوك العدواني)، عندما نتطرق لهذه المفاهيم إنما نعني بها القتل والتشريد والتهجير والتصفية الجسدية، وكل أنواع القسوة التي يمتلكها الإنسان ضد أخيه الإنسان... وهو محورنا الأساس، أي الإنسان، فكل تلك الموضوعات تستهدف الإنسان في وجوده السوي والمرضي، وجوده المنحرف والصحيح؛ فالسلوك العدواني هو سلوك منحرف عن الشخصية السوية، لا يرقى إلى السلوك الإنساني. فالإنسان هو محور هذا الموضوع (الدراسة) في صحته ومرضه وانحرافه، وفي عظمته ودونيته، قوته (جبروته) وضعفه (انهياره).. هو هو، كما خلقه الله، وهو هو في قدرته على القسوة، وقدرته على العطاء بإنسانيته، وقد أثبتت الدراسات المتخصصة بأن الإنسان يتكون من خلايا تتحكم فيها دورات داخلية منظمة ومنتظمة، فإذا اختل هذا الانتظام مرض الجسم واضطربت النفس.. إن هناك إيقاعاً داخلياً بالجسم يتحكم في كافة ردود الفعل العقلية والجسدية، وإن الإنسان يتكون من نفس تكوينة الأرض، أي سوائل، أملاح، ومعادن، 80% سوائل، 20% مواد عضوية وغير عضوية، وإن تدفق السوائل في الخلايا يتغير بتغير القمر، وهذا يؤثر على منظمات الجسم الداخلية، فتغير أشياء مثل الطاقة، والتكيف، والاحتمال، والقدرة على الحكم الصحيح (12 :78) إنما هي قدرة ذاتية لديه، ويبقى أن نقول (ولله في خلقه شؤون). |
المـصـــادر: |
(1) الأطفال والإدمان التلفزيوني: ماري وين، ترجمة عبد الفتاح الصبحي، عالم المعرفة، الكويت، يوليو/تموز (1999). (2) الاجتماع ج1: السيد محمد الحسيني الشيرازي، دار العلوم، بيروت، (1992). (3) قصف العقول: فيليب تايلور، ترجمة سامي خشبة، عالم المعرفة، الكويت، نيسان (2000). (4) أفلام العنف والسلوك العدواني: محمد حمدي الحجار، مجلة الثقافة النفسية، بيروت، العدد (38)، شباط (1999). (5) مآسي الحروب والعنف والتاريخ المهدد: جريدة السفير اللبنانية، الأحد 11/5/1997. (6) سلطة وسائل الإعلام في السياسة: دوريس إيه جريبر، ترجمة أسعد أبو لبدة، دار البشير، عمان، (1999). (7) العناية بالعقل والنفس: ديانا هيلز، وروبرت هيلز، ترجمة عبد العلي الجسماني، الدار العربية للعلوم، بيروت، (1999). (8) فلسفة الكراهية: راشد المبارك، مجلة العربي، الكويت، العدد (494)، يناير (2000). (9) عوامل السلوك الإجرامي: حيدر البصري، مجلة النبأ، العدد (52)، ك1 (2000). (10) الذكاء العاطفي: دانييل جولمان، ترجمة ليلى الجبالي، عالم المعرفة، الكويت، تشرين الأول (2000). (11) علم نفس قرآني جديد: مصطفى محمود، مجلة الثقافة النفسية، العدد (37)، ك2 (1999). (12) مائة شاهد وشاهد: عبد الزهراء الحسيني الخطيب، (1992). |