حصاد الأفكار
|
منتخبات مما ينشر في الصحف والمجلات من رؤى وأفكار تسهم في عملية تفعيل الوعي الإنساني |
الأيديولوجيا واليوتوبيا |
حسب تصور (مانهايم) أن الأيديولوجيا واليوتوبيا مرتبطتان بالوعي الخاطئ، كما أن كلتيهما متعاليتان على الكائن الاجتماعي، فالايديولوجيا حين تتجه صوب الماضي، تكون وظيفتها هي الحفاظ على الوضع الاجتماعي، في حين أن اليوتوبيا، وهي مشرئبة نحو المستقبل تكون عاملاً ثورياً. ومدلول (التعالي على المجتمعات) يحتاج في نظر الشخص ذي التصور اللاتاريخي إلى دليل، إذ أن الأيديولوجيا، وهي مركزة حول الماضي، ستكون بالأحرى متجاوزة من طرف المجتمع، بعد أن تكون مجاوزة له. وبالإضافة إلى ذلك، فإن (مانهايم) يتجاهل الالتباس الكبير لمفهوم اليوتوبيا، الذي يعني أحياناً سلوكاً فردياً خصامياً، وفراراً إلى أحلام عقيمة، ويشير أحياناً أخرى إلى الجماعات التي تحلم باللاممكن لتحقيق الممكن. الشكل الأول لليوتوبيا يتجاهل التاريخ، في حين يتدخل الشكل الثاني فيه بقوة، في إطار هذا الاستعمال الثاني سيقترب مفهوم اليوتوبيا من مفهوم الأسطورة الاجتماعية. وهذان الشكلان يقابلان في النهاية زمانين تاريخيين مختلفين: اليوتوبيا السيكولوجية تندرج ضمن مكان ذي صبغة زمنية، في حين أن اليوتوبيا الاجتماعية - السياسية تقع في زمن انفجاري وبالتالي من الخطأ دمجهما في مفهوم واحد. وأن نعتبر هذين المدلولين يتضمنان الوعي، فهذا أمر ممكن، بل ومحتمل، لكن مفهوم الوعي الخاطئ ذاته سيصيبه حينئذٍ الالتباس الخاص باليوتوبيا، وسيدل تارة على موقف متطرف لنزعة فكرية (عقلانية معتلة) وتارة أخرى على عدم وضوح الرؤية... أما القيام بصياغتها مع صياغة مفهومية، فهي محاولة لا غبار عليها من الناحية المنطقية لكنها عقيمة منهجياً لأنها ستحول دون إمكان تطوير نوع من البحث الشمولي. بين اليوتوبيا والشمولية: شيء واحد على الأقل يجمع ما بين ما ذهب إليه الفيلسوف الألماني (بيتر سلوتردبيك) و(جان فرانسوا روفيل)، و(ادجار موران)، فقد اجمع الثلاثة على ارتباط المنظومة اليوتوبية بالنزعة الشمولية، وهو الارتباط الذي نجد تأصيلاً علمياً له لدى (رولان أومنيس)، الفيلسوف الفرنسي، عندما أكد على أن شعور ولا شعور الإنسانية مملوءان بيوتوبيا القوة والسلطة، ومن ينكر أن يوتوبيا التسلط تفضي إلى تسلط اليوتوبيا؟ والنتيجة كانت بزوغ النازية والفاشية الستالينية. القادة السياسيون الذين عملوا على إسقاط رؤاهم اليوتوبية على أرض الواقع أبدعوا في ابتكار ممارسات ديكتاتورية، شمولية واقطاعية من صنف ديكتاتوريات (هتلر، موسوليني، ستالين، بول بوت). وعندما نستوعب تلك الحاجة المميزة لليوتوبيا، نكتشف ضعفها ونقائصها حسب ما ذهب إليه ريكور: في اللحظة التي تولّد فيها اليوتوبيا طاقات وقدرات هائلة على التغيير تدعو أيضاً إلى إقامة أنظمة استبدادية مستقبلية قد تكون أفظع من الأنظمة التي تريد الإطاحة بها وتغييرها. كلما تطرفنا في الأيديولوجيا (اليوتوبيا نموذجاً) ابتعدنا عن الحقيقة، هنا يكمن مأزق تطبيق اليوتوبيا (الخيال) على فعل الحاضر، أو فعل الواقع، وهو المأزق الذي نخلقه بأيدينا نحن البشر عندما نتعمد تجاهل التعريف الزمكاني لليوتوبيا، والقائم على ثنائية اللامكان -المستقبل البعيد، إن لليوتوبيين الحق في إضفاء الشرعية على اطروحاتهم الرمزية طالما بقوا بعيدين عن الإمساك بالسلطة الزمنية- السياسية، أو بتعبير (توماس مور)، من الأفضل ترجي اليوتوبيا على التشوق إليها. منتصر حمادة/ مجلة سطور: العدد 55. |
كراهية العرب صنع في هوليوود |
فن الكراهية صناعة سينمائية أمريكية معترف بها عالميا ولها أصولها وقوانينها وآلياتها وتدعمها ميزانيات ضخمة وتقنيات متطورة وطاقات فنية مبدعة. ففي كل مراحل التاريخ الأمريكي -على تنوعها- كانت وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) تلجأ إلى صنّاع السينما لإنتاج أفلام تدعم السياسة الخارجية الأمريكية وتمهد الرأي العام لضرباتها غير الإنسانية تجاه شعوب أخرى. وتم اعتماد هذه السياسة رسمياً للترفيه عن الجنود الأمريكان قبل كل عملية عسكرية خارج حدود الوطن، وذلك من خلال عروض سينمائية منتظمة ومكثفة تصور لهم الأعداء على أنهم صراصير حقيرة أو حشرات ضارة أو فئران تجلب الطاعون، وهي رسالة واضحة تقول للجندي الأمريكي: (إن عدوك ليس بشراً مثلك بل هو شيء ضار لابد من تدميره، فلا تتردد في القتل، ومهما فعلت... لا تشعر بالذنب). ولقد كان للعرب والمسلمين نصيب الأسد في صناعة الكراهية، فلقد حرصت هوليوود دائماً على أن تضع العرب في قالب ثابت للشر والعنف والتخلف والجهل والشراهة المفرطة في الملذات والرذائل. فصورة العربي على الشاشة الفضية لهوليوود لن تخرج عن واحدة من هذه الصور النمطية: صورة أعرابي من البدو الرحل وبجواره ناقة وخيمة ومن حوله الصحراء الجرداء، أو صورة العربي المنغمس في اللهو والملذات والمجون وتعاطي الخمر، أو صورة العربي المتجرد من الحضارة وآداب السلوك في الطريق العام وفي معاملة الآخرين وفي اتباع آداب الطعام والنظافة، أو صورة المسلم المتطرف المتشدد الذي يسوق خلفه زمرة من الحريم المتشحات بالسواد، أو صورة العربي الأبله المندهش أو المنبهر دائماً بالحضارة الغربية، أما أكثر الصور شيوعاً فهي صورة الإرهابي المجرم مختطف الطائرات و الحافلات ومفجر المباني وقاتل الأبرياء. الجديد في هذا الموضوع هو ذاك الكتاب المهم الذي صدر حديثاً لأحد خبراء الإعلام في أمريكا ويدعى جاك شاهين وهو أمريكي من أصل عربي عكف على دراسة وتحليل صورة العرب والمسلمين في أعين الغرب من خلال النمط السائد الذي تقدمه هوليوود، واستغرقت الدراسة عشرين عاماً كاملة استطاع خلالها أن يستعرض كل الأفلام التي تناولت العرب والمسلمين منذ عام 1896 وبلغت حصيلة الأفلام 900 فيلم أميركي. واستخلص شاهين من دراسته أن هوليوود تتعمد أن تقول للمشاهد: (إن العرب قوم سوء بكل ما تعنيه هذه الكلمة من إيحاءات سلبية). ويتعجب شاهين من حقائق كثيرة تكشفت له أثناء البحث الطويل، عندما ثبت له أن وزارة الدفاع والجيش والبحرية والحرس الوطني الأمريكي، كلها جهات حكومية تحرص على وضع كل عدتها وعتادها تحت تصرف منتجي هوليوود، لإنتاج أفلام جماهيرية قوية ومؤثرة هدفها تمجيد انتصار أميركا على أنماط الشر العربي!. كما أن أفلاماً مثل (قواعد اللعبة) عام 2000، و (أكاذيب حقيقية) عام 1994، و (القرارات النافذة) عام 1996، و (ضربة الحرية) 1998 ساهمت المخابرات الأميركية (إف بي آي) مباشرة بدعم منتجي هذه الأفلام، وكذلك في فيلم (الحصار) عام 1998 والذي تدور قصته حول قيام أمريكيين من أصول عربية بهجوم مسلح على مدينة (مانهاتن) الأمريكية. وعلى مدى عقود من الزمان استطاعت السينما الإسرائيلية وأعوانها داخل هوليوود إنتاج عشرات الأفلام التي تدور حول فكرة واحدة وهي: (إن نهاية أمريكا ستكون على يد العرب مثال على ذلك فيلم (مطلوب حياً أو ميتاً) وفيلم (قوة الدلتا) وكلاهما إنتاج عام 1986م). فهناك أفلام صورت عرباً يقومون بعمليات تخريب في نيويورك ولوس أنجلوس، وأخرى صورتهم يفجرون مبان هامة في واشنطن، وأخرى تدور حول عرب يختطفون طلبة مدارس من (إنديانا). والصورة تنحصر دائماً في موجات من الإرهاب المسلح وخطف الرهائن وقتل المدنيين والاغتصاب والتدمير، وتكون بعض المشاهد مصحوبة بصيحات الجهاد (الله أكبر) أو بصورة مئذنة أو بصوت آذان، أو صورة للكعبة المشرفة، المهم تشويه أي رمز إسلامي!!. يبقى الثابت فيما تقدمه هوليوود من فنون وإبداعات، إن على صورة العرب والمسلمين أن تظل راسخة في ذهن المشاهد على أنهم أشرار وأن كل عربي إرهابي وكل مسلم متطرف. هناك 900 فيلم صنفها جاك شاهين على أنها محرضة على كراهية العرب والمسلمين، وكلما أراد أن يختار أحدهما ليحتل لقب الأسوأ يفاجأ بأن هناك ما هو أسوأ. في كتاب (العرب قوم سوء) يؤكد مؤلفه جاك شاهين على انه في بداية سنوات بحثه كان يتصور أن تشويه صورة العرب والرموز الإسلامية كان بسبب الجهل، لكنه اليوم وبعد عشرين عاماً من البحث يجزم بشكل قاطع بأنها صناعة مغرضة تعمل على أسس علمية ونفسية وسياسية دقيقة ولديها من يعلم جيداً الثقافة العربية واللغة والتاريخ والرموز الدينية وهي تضرب بقوة وتضرب في مقتل. صدر أخيراً الكتاب في الشهر الماضي تحت عنوان (العرب قوم سوء.. كيف استطاعت هوليوود تشويه أمة). غادة سليم: دنيا الاتحاد العدد (9509) |
المثقف الوطواط! |
كبرت في الآونة الأخيرة ظاهرة وجود المثقفين الوطاويط، واتسعت، فلا تدري من أي كهف جاءوا، ولا كيف يتوالدون، انهم يحومون فوق رؤوسنا، حتى ليكادوا يسدون السماء. قل هو الظلام، أجل هو الظلام، وعشاق الظلام يمرحون في صحيفة هنا ومجلة هناك، ويطلون علينا من هذه الفضائية أو تلك، وكلهم يطلقون صوتاً واحداً: الظلام، الظلام. ولا يستغربن أحد عشق الوطاويط هذه للعتمة، إنها الفضاء الوحيد الذي يجيد فيه المثقف الوطواط الطيران. ولهذا تراه العدو الأكبر للنور وللمعرفة وللحقيقة وللحق وللإنسان، أجل فهذا الفأر ذو الجناحين الفاقد للعينين وقد أدمن الإقامة في الظلام لا يخشى إلا الحرية. فتراه يطلق أول ما يطلق من رصاص على هذه القيمة الكبرى، إنه العدو المطلق للإرادة الحرة والمدافع الفج عن الاستبداد، فعالم الاستبداد عالمه، والعالم الراكد بيته، والفساد السياسي إهابه، إن سمع صوتاً ينادي بالحرية ارتعد، وإن صرخ المضطهدون: الديموقراطية الديموقراطية راح يشرح للبشر ضرورة الفساد وضرورة دولة الإكراه، وإن رسم مفكر حر صورة للحلم الإنساني هب مدافعاً عن الواقع التعس بوصفه أفضل العوالم الممكنة، عارضاً واقعيته الآسنة مقابل يوتوبيا أولئك الذين يحلمون. الوطواط مجبول بماء الكره الفاسد، فهو يكره المعرفة والعلم والوعي العلمي، وينشر كلاماً عن خرافة العلم، وهذا أمر طبيعي إذ كيف للوطواط أن يتحمل نور العلم والمعرفة؟. المثقف الوطواط يمدح لكنه معلم في الشتيمة وهو لا يدري أن شتيمته لإنسان ما هو إلا المدح بعينه. يتقوقع الوطواط بغرائزه المبتذلة خلواً من القلب فهو مجبول بالكره للحب بالمعنى الشامل للحب، وما أن يسمع وعداً جميلاً بالحياة حتى يتوعد الوعد ومبدعه، هذا العبد المستمتع بعبوديته يشهر حبل الخنوع ظناً منه انه يرهب أحداً، وما يدري انه هو ذاته وهم يتهاوى من أي سنية تشع من عين شاعر أو فيلسوف أو فنان، أولئك الذين يصنعون عالماً جميلاً حقاً، وكلما أدرك المثقف الوطواط مكانته الوضيعة في النفوس العظيمة ازداد حقداً وكرهاً وكذباً، كيف لا يكذب المثقف الوطواط والآخر لم يعد موجوداً بالنسبة إليه إطلاقاً؟ الآخر عدوه ولهذا يكذب دون إحساس بأي ذنب، إنه وقد فقد دمه وضميره وعقله وقلبه صار شيئاً يكره الأحياء، فينحدر إلى الدرك الأسفل، ولهذا تراه ينفخ نفسه بريح كريهة معتقداً انه قادر على الارتفاع قليلاً عله يرى على نحو ليس هو كما في الواقع. من شيمة المثقف الوطواط الغدر والوشاية، فيواجه حجة المفكر الحر بتقول لا سند له، ويعارض شجاعة الأنا المبدع بجبن وقح. أحمد برقاوي: النقاد، العدد (64) |
عسكرة الفضاء تؤرق أمريكا والعالم |
ثمة من يؤرخ للحقبات الإنسانية بالحروب والمعارك، فالحرب ليست حدثاً عسكرياً فحسب بل حدث اقتصادي وتقني وثقافي وعمراني أيضاً. لهذا يقال في وصف الأزمنة: (ما قبل الحرب النابوليونية وما بعدها)، أو (ما قبل الحرب العالمية الثانية وما بعدها). والتأريخ للحروب هو، بمعنى ما، تأريخ لمسارح الزمن الكبرى، أو للأماكن الأهم التي يصنع فيها، فالعالم كان يصنع قراره في البر ذات مرة لأن الحروب كانت برية أساساً. بعد ذلك، مع نشأة الإمبراطوريات التجارية والماركنتيلية، صار البحر مسرح الزمن الأكبر، وصار الأسطول الرمز الأهم. أما في العصر الحديث، فانعقدت القيادة للجو حصراً، وغدت الطائرات الحربية نجم النجوم، يكفي أن نتذكر الأثر الضخم الذي خلفته طائرات كالميراج الفرنسية والميغ الروسية على مصائر شعوب وأمم؟ والآن تلوح الولايات المتحدة بالانتقال إلى الفضاء الخارجي وعسكرته، على أن تكون هذه النقلة أهم من سابقاتها جميعاً بسبب التقدم التقني المتحقق راهناً، والذي يمكن القول إلى حد بعيد أنه تقدم أمريكي أساساً. وليس من المبالغة القول إن المستوى الثقافي قد يكون الصدى الأول لهذا التحول الفضائي. فالعناصر التي سجلت انتصارها، بنتيجة ما يحصل على هذه الجبهة، ثلاثة: أولاً: وبطبيعة الحال التقنية المختصة بالفضاء والتي (وهذه مفارقة بذاتها) كان الاتحاد السوفييتي السابق أول مستخدميها، قبل أن تؤول قيادتها إلى الولايات المتحدة. ثانياً: السينما؛ فالفن السابع أول من تحدث عن الفضاء، وأول من استعان بقصص الخيال العلمي لتصويرها ونقلها على الشاشات. ثالثاً: البيولوجيا، فالكلام على الفضاء يستجر، كما دلت السينما وأدب الخيال العلمي، الكلام على الكائنات الأخرى التي ربما أقامت فيه، وهذا بدوره، يقود إلى مسألة الأنواع والأجناس. وفي هذا الإطار يلاحظ بعض النقاد الأمريكان مفارقة مؤداها بالتالي: فيما تتقدم التقنية على نحو لا سابق له، يتراجع الوعي الاجتماعي إلى سوية البيولوجيا، وهو زواج لم يحصل بعفوية وبراءة إذ أنتجه، كما يضيف النقاد، وعي يميني حاد يستولي الآن على البيت الأبيض. نظرية العسكرة: وقصة عسكرة الفضاء تقوم على نظرية تم تطويرها في مكاتب وزارة الدفاع الأمريكية قبل وصول (جورج دبليو بوش) إلى الرئاسة، أما المنظِّر السياسي لها فبيروقراطي البنتاغون، المدني المسن، وصاحب الآراء المؤثرة على صانعي القرار(اندرو مارشال). وقد رأى مارشال هذا (ضرورة إقامة قاعدة عسكرية تدعم الدور الأمريكي في الفضاء الخارجي، مع إجراء تعديلات كبرى في بنية القوة الحربية، هكذا يقل الاعتماد على قوات الجيش والقواعد المنتشرة في الخارج، فيما يتزايد التعويل على التقنية الرفيعة التي تصيب هدفها عن بعد). وبالفعل تبنت هذه النظرية لجنة فوضها الكونغرس تدارس مستقبل (إدارة الفضاء) (أو بترجمة أخرى تسييره) رأسها (دونالد رامسفيلد) قبل أن يستلم وزارة الدفاع. وعملاً بأفكار مارشال وتلميذه رامسفيلد، يتوقع أن يصبح الفضاء الخارجي ساحة حرب، تماماً مثلما كانت الأرض والبحر والجو في حقبات التاريخ الماضية. ولهذا حض تقرير اللجنة، الولايات المتحدة على أن تحرز (السيادة) هناك، وسيادة كهذه تعني، بين أمور أخرى، إهمال السعي وراء إقامة أمن جماعي منظم في الفضاء الخارجي والتركيز في المقابل، على إدامة السيطرة الأمريكية هناك هدفاً وحيداً، وهذا بدوره، لا بد أن يستثير في وقت قريب أو بعيد، ائتلافاً من خصوم واشنطن، وقد يدفع من ثم، في اتجاه صدام جديد وخطير. وفي آخر المطاف يبقى الأكثر حكمة أن يصب العالم جهوده لتصفية ما تبقى من أسلحة على الأرض بدل الانكباب على عسكرة الفضاء الخارجي، أما المثقفون الإنسانيون فيضيفون أن التقدم التقني أعطانا فرصة غير مسبوقة كي نتوقف عن التأريخ بالحروب، فلماذا نعطي الحروب حقبة ذهبية جديدة وصفحات كثيرة أخرى في كتاب التاريخ؟. مجلة الوسط: العدد 494 |
إشكاليات الثقافة والسلطة |
لقد اعتبر عبد الرحمن الكواكبي أن الاستبداد هو الإشكالية المركزية في أي نهضة، سواء (فكرية أو اجتماعية) ورأى أن غياب المجتمع المدني وسيطرة الاستبداد يمنعان المعرفة الحقة. فالاستبداد ضد العلم، ولا نهضة دون مناهضة الاستعباد، لذا، فإن أصل الداء عنده هو الاستبداد. أما علاج هذا الداء فهو بالشورى الدستورية، أما دور المثقف فهو الاهتمام بعلوم الحياة، مثل الفلسفة العقلية وحقوق الأمم السياسية المدنية، ويؤكد الكواكبي على الجانب العلمي للوظيفة المعرفية، فالاستبداد هو أصل كل فساد، فهو يفسد العقل والعلم والدين، لذا فعلى المثقف الاندماج في أمته ومجتمعه لإزالة الجهل والاستبداد. وتنعكس هذه المقولة على جدلية المعرفة والسلطة، فالنهضة ترتبط بمعرفة متنورة والانحطاط بسلطة مستبدة، فالاستبداد يمنع التربية الصحية والمعرفة الصحيحة، ولذا كانت الأولوية عند الكواكبي تحرير العقل وإقامة مجتمع العدالة والحرية والشورى. إلا أن عمق الهزيمة الحضارية مع الغرب أدى إلى نشوء وعي مشوه، لم ينظر إلى الاستبداد بوصفه ركن الانحطاط، بل اعتبر الدين سبب هذا الانحطاط، فولد أزمة هوية لم تتمكن الهوية الوطنية والقومية من تجاوزها، وتحول الاستبداد الفكري والسياسي إلى مشروع لنهضة الأمة عبر القومية العلمانية المفروضة من نخب تقطعت وانقطعت عن الفئات الشعبية، فتحول المجتمع إلى مجتمع بطركي حديث، وظفت فيه الدولة المثقفين من أجل إنتاج أيديولوجيا استبدادية شعبوية تبيح تدمير المجتمع الأهلي وقواه وممثليه وإنتاج مجتمع مقولب على طريقة النخب العشائرية والطائفية والعائلية. إن علمانية الدولة السلطوية أدت إلى صعود الإسلام السياسي، فالقول بعلمانية الدولة العربية، وتديّن المجتمع العربي هي دعوة للقول بتغربها عن مجتمعها، فالنخبة العلمانية تسوغ قمعها للمجتمع وعدم منحها الأكثرية السلطة الفعلية تحت شعار أن الأكثرية هي أكثرية طائفية. لذلك تجد هذه الأكثرية في الدين آخر مرجع لها في مواجهة السلطة النخبوية السلطوية. فالمثقف العربي الحديث خرج من اصطدام المجتمع العربي بالغرب، ولم تنشأ تكتلات بديلة للعصبيات القديمة (العائلة والعشيرة والطائفة) كبديل يمثل المجتمع الأهلي، لذا بدأ المثقف في قطيعة مع الأيديولوجيا الشعبية والثقافة التقليدية، لكنه دخل السلطة من المواقع التقليدية باسم مشروع تغيير في الدولة والمجتمع. لذا تزاوج النص المؤسسي الغربي والبنية العصبية المحلية. وبذلك ولد تقنيو المعرفة العلمية والعملية ليشكلوا فئة النخبة الحديثة، وبهذا تحول المثقف إلى خادم للسلطة عند قبولها له، وبعودته لخدمة عصبياته التقليدية. أحمد الموصلي: المستقبل 13/7/2001م |