سنن الحسن والرحمة
|
محمد محسن العيد |
قال أمير المؤمنين الإمام علي(ع): (ما دلنا باضطرار قيام الحجة على معرفته وظهرت البدائع التي أحدثها آثار صنعته وأعلام حكمته، فصار كل ما خلق حجة له ودليلاً عليه.. وإن كان خلقاً صامتاً فحجته بالتدبير ناطقة، ودلالته على المبدع قائمة، فأشهد أن من شبهك بتباين أعضاء خلقك وتلاحم حقائق مفاصلهم المحتجبة لتدبير حكمتك لم يعقد غيب ضميره على معرفتك ولم يباشر قلبه اليقين بأنه لا ندّ لك، وكأنه لم يسمع بتبرّؤ التابع من المتبوعين إذ يقولون: (تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين) (الشعراء: 98).. ) ( بحار الأنوار: ج54 ص108). توجيه أمير المؤمنين (ع) هذا، يشير إلى معرفة الله تعالى ابتداء من آثاره الظاهرة البارزة في خلقه جل وعلا، ويبدو ذلك في الملاحظات التالية طبقاً للسنن الحسنة في خلقه، وهي بديهيات كونية بارزة وظاهرة يراها الجميع: |
(1) |
نرى كل الموجودات مستجيبة لأنظمة وجودها ولولا استجابتها لنظام وجودها، لما وجدت ولا ظهرت للعيان، بل لو اختلت استجابتها لنظام وجودها لسبب من الأسباب، لانهارت أو انعدمت. والاستجابة لنظام الوجود من قبل الموجود هو طاعة لمصمم ذلك النظام ومبدعه... فنحن إذاً نرى ظاهر الطاعة من خلال ظاهر الوجود وتوجهاته ونرى ظاهر الاستجابة من قبل الكائن من خلال حسن أدائه لوظائفه الوجودية... كذلك نرى ظاهر انقياد المخلوقات بأداء وظائفها، أو تسخرها بإنجاز وظائف الحياة وفق نظامها، نباتية كانت أو حيوانية، ونرى ظاهر الطاعة والاستجابة من قبل كل عاقل لنظام عقله ليكون عاقلاً ويعرف بالعقل... كل هذه الظواهر في الطاعة التي نراها إنما هي متضمنة في نظام هو تعبير عن مشيئة الخالق المبدع البارئ الحكيم المصور المحسن. فالاستجابة الطوعية من قبل الموجودات والأحياء والناس هي الطاعة، والتوجه الحسن فيها هو التسبيح، والخضوع لإرادة الخلاق العظيم هو السجود. وقد أشار سبحانه وتعالى في كتابه العزيز إلى ذلك في آيات كثيرة، منها قوله عزّ من قائل: (ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين) (فصلت: 11). ومنها قوله تعالى: (وله أسلم من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً) (آل عمران: 83). ومنها قوله: (ولله يسجد من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً) (الرعد: 15). فالطاعة والتسليم والسجود ظاهر لمضمون باطن هو : مربوبية الموجودات والأحياء والناس لله تعالى الواحد الأحد الذي لا معبود سواه في الواقع الصادق. |
(2) |
ونرى كل الموجودات تتكون في بنائها من وحدات بنائية متشابهة؛ فالمادة تبنى من الذرات والجزيئات... وتلك الوحدات البنائية تشدها أواصر المحبة التي يسمونها الألفة الكيمياوية (Chemical effenetty)وتجمعها وتربط بين وحدات بنائها قوة المحبة التي يسمونها الآصرة الكيمياوية (Chemical Bond)، أما في الكائنات الحية، فإننا نرى مظاهر المحبة واضحة جداً تبدو في: المودة والرحمة بين الزوجين، ومحبة الوالدين للأبناء، ومظاهر محبة واسعة بين أجزاء النظام البيئي الحي الواحد، وفي التعاون والتنسيق والتعايش الذي تبديه النظم الحية والحياتية فيما بينها. وأجمل الظواهر الحسنة التي نراها بارزة للحواس، إنما هي حاصل لباطن الرحمة التي كتبها الله تعالى على نفسه؛ فهي أصل مشيئته سبحانه وتعالى في خلقه... لماذا تغرد الطيور؟! لماذا تتلون الورود والأزهار؟! لماذا تعطي الأشجار الأوكسجين وتنتج الثمر الحلو والطيب والغذاء؟! لماذا يعطي النحل العسل، والأنعام اللبن، و القز الحرير...؟! لماذا ترى كل الأحياء في دأب دائم على مظاهر الحب والمحبة؛ أعشاش تبنى وصغار تزق وترضع، بيض يحتضن على مضض، صغار تخدم وتربى...؟!! إنها ظواهر المحبة والود والعطف لباطن الرحمة التي هي أصل الوجود وأصل الحياة... والتساؤل الذي لا بد منه هو: ما هي الرحمة؟ لماذا الرحمة؟ والى أين تتوجه الرحمة؟ ومن أين مصدرها؟: الرحمة علة في ذاتها لذاتها؛ فهي أم العلل كلها، جعلها الله تعالى أصلاً لباطن أسمائه وصفاته، فوسعت كل شيء... يقول تعالى: (قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء) (الأعراف: 156). (ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً فاغفر للذين تابوا.. ) (غافر: 7). وخزائن الرحمة عنده، ما دامت تتسبب بها الأسباب كلها... وقد قال سبحانه في ذلك: (أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب * أم لهم ملك السموات والأرض وما بينهما فليرتقوا في الأسباب) (ص: 9-10). والارتقاء في الأسباب يؤدي إلى بلوغ كونها أم العلل والأسباب كلها، فالرحمة أصل وسبب في بدء الخلق يقف الكون عليها ويقوم بها ويستمر بها، ولولا الرحمة فلا وجود ولا حياة ولا عقل، وكل ما نرى من خلق ووجود هو ظاهر لباطن رحمته جل وعلا. |
(3) |
ونرى أيضاً أن هناك ثوابت كونية في أعداد وأرقام معروفة ومعلومة ومحددة مثلها، في صدق وثبات النسب بين المعاني والعلل.. وكالقوى الكونية التي تضبط الوجود وتحكمه وتتحكم فيه وهي محددة ومرجعها واحد، والحوادث كلها معلومة لأسباب محددة وأصلها واحد هو الرحمة، وأصل التكوين المادي واحد والتصميم البنائي واحد سواء في الذرة المتناهية في الصغر أو في المجموعات الشمسية المتناهية الكبر. ونرى كل ذلك من خلال العقل... فالعقل بأصل سعيه، إنما يقصد الحقيقة؛ فالحق غاية كل علم.. وعند الحق يقف العقل. فلماذا الحق؟ وما هو الحق؟ ولماذا السعي إليه؟ ولماذا نطلب العدل والحق والصدق؟!. إن الحق علة في ذاته... وإن كل ما في الكون بما فيه العقل، إنما تبطنه الحقيقة، والحق بدأ به الكون ويقف عليه ويدوم ويثمر به، فالحق باطن لظاهر الوجود ومظاهره، وهو باطن لظاهر الحياة ومظاهرها، وهو باطن لظاهر العقل... ونحن إنما ندرك العاقل من خلال مشاهدتنا له وهو يصيب الحق، وكذلك فنحن ندرك كمال العقل ونراه ظاهراً من كمال إحاطته بالعدل وقوله وفعله الصدق. فالوجود والحياة والعقل ظواهر لباطن الحق والعدل والصدق. وكلها آثار لمعاني في أسمائه الحسنى جل وعلا وسبيل لمعرفته سبحانه وتعالى كما يشير الإمام علي (ع) في قوله: (فصار كل ما خلق حجة له ودليلاً عليه). |
(4) |
نرى أن الوجود والحياة والعقل معاني بارزة واضحة ظاهرة ضمن نظم (Systems) ولا يكتمل معنى الحسن في خلق تلك المجاميع المعزولة في ذواتها أو في أصناف خلقها، إلا من خلال خلق معين لمعاني الحسن في ذاتها.. أو خلق لمعنى الحسن من صنفها لصنفها، وبدون ذلك الخلق في ذلك النظام ... فلا معنى للحسن لذلك الخلق، ذلك هو الإمام. فمثلاً من الذات للذات في النظام المادي (material System) ، يكون البروتون أو ربما الكوارك هو الإمام للمادة، ولا معنى للوجود المادي بدون خلق البروتون، بل لا يمكن أن نتصور نظام مادي للكون بدون البروتون على الاطلاق، حيث هو إمام المادة. وبالنسبة للنبات أو الحيوان أو الأحياء المجهرية- الأحياء عموماً- فلا يمكن تصور نظام حياة Life System بدون الـ(DNA) وهو الاسم المختصر للحامض الديكسي النووي الريبوزي -Deoxy Ribo Nucleci Aciad- - حيث أن هذا الـ DNA هو إمام الحياة أو كما يسمونه شفرتها ومعانيها. وبالنسبة للحيوان وحده والنبات وحده... لا يمكن تصور معنى للنبات بدون منطقة اتصال الساق بالجذر.. كما لا يمكن تصور معنى للحيوان بدون الدماغ.. كما لا معنى لخلق الإنسان بدون عقل، حيث العقل هو إمام خلق الإنسان؛ وهذا معنى الإمام في خلق الذات للذات، وأما في الصنف للصنف فهو واضح ظاهر بارز في كل نظام خلق حيث لا بد من إمام من صنفه لصنفه؛ في النحل ملكة، وفي النمل ملكة، وفي الظباء الوعل، وفي الضأن الكبش، وفي النمور والأسود القوي، وفي الطير القائد في الهجرة الذي هو على رأس الزاوية كما يظهر، وفي السمك الرائد الذي يظهر في رأس المثلث في سعيها للتكاثر... وفي الإنسان يظهر أكثر وضوحاً في العائلة الرب وفي الأسرة العميد وفي القبيلة الزعيم وفي الشعب القائد وفي الدولة الحاكم...الخ. وهذه حقائق نظم الوجود والحياة والعقل، إنما هي باطن الإمامة، حيث الإمامة باطن لمضمون مشيئة الله تعالى في خلقه الذي يقود لظاهر التنظيم والسيادة والقيادة التي لا بد منها. فلماذا لا بد من إمام؟ لماذا لا بد من نموذج خلق باطن لحسن الخلق الظاهر في ذات كل وجود وكل صنف؟!. إنه مضمون مشيئة الله تعالى الباطن لظاهر الخلق الرباني، فسبحان الذي جعل الخلق الظاهر دليلاً لمعاني الوجود، وأثراً لأسرار عظمته التي يشير إليها إمام البلغاء علي بن أبي طالب (ع): (ما دلنا باضطرار قيام الحجة على معرفته وظهرت البدائع التي أحدثها آثار صنعته وأعلام حكمته). |
(5) |
الموت ظاهر بارز وهو حتم على كل خلق.. فما الموت؟ ولماذا الموت؟ وكيف صار سنة وحتماً؟: الموجودات المادية تموت بالتحول إلى ثقوب سوداء، والأحياء تموت وتعود إلى المادة، والإنسان يموت كذلك.. والموت ظاهر لباطن معنى الحياة والتواصل فيها؛ مثل الولادة والصيرورة فهي ظواهر لباطن الحياة الحقيقية واستمرارها باتجاه الأحسن... فالحسن لازم لرفع القصور المادي؛ فيكون الإنسان في طوره النطفي أفضل من وجوده المادي الميت قبل الصيرورة، وعندما تلجه الروح وهي من أمر الله تعالى في حالة أوسع من رفع القصور عن المادة؛ ولذا فإنه يكون أحسن في خلقه من خلق النطفة.. وهكذا يستمر يتنقل من حال إلى حال أحسن في خلقه؛ جنين فطفل رضيع فصبي شاب فكهل، حتى إذا مات انتقل إلى حالة أحسن من رفع القصور بغض النظر عن الثواب أو العقاب الذي يلقاه؛ فبعد الموت يصير بصره حديداً يقول في ذلك العزيز الحكيم: (وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد * ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد * وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد * لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد) (ق: 19-22) فالحسن لازم لرفع القصور المادي والحيوي والعقلي، مثلما القبح لازم للقصور الكلي... والحياة هي خيار الله تعالى لآدم وذريته، والجنة هي خيار الله تعالى لتلك الحياة، ولذا يقول الإمام علي (ع) في دعائه المعروف بدعاء كميل: (فباليقين أقطع لولا ما حكمت به من تعذيب جاحديك وقضيت به من إخلاد معانديك لجعلت النار كلها برداً وسلاماً وما كان لأحد فيها مقراً ولا مقاما... ). ولذا فإن الصيرورة والولادة والموت والبعث والنشور والحساب والثواب والعقاب كلها وصلات باتجاه الدار الآخرة التي يسميها الله سبحانه وتعالى الحياة الحقيقية (الحيوان)... قال تعالى في إشارة لمعاني الحياة الدنيا والحياة الآخرة: (ولئن سألتهم من نزّل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون * وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن لدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون) (العنكبوت: 63-64). فهذه الظواهر البارزة المترتبة من معاني الحياة والموت هي باطن خيار الله تعالى في حقيقة الحياة ومضمون مشيئته بالتوجه من الحسن إلى الأحسن حتى اللانهاية في حسنه جل وعلا لخاصته في مقعد صدق عند مليك مقتدر؛ قال تعالى: (إن المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر) (القمر: 55). |
(6) |
التغيير والحدوث؛ ظاهر نطلع عليه ونشهده ونعيشه فهو نفسنا، وهو معنى الوجود ومعنى الحياة ووجهة العقل، وهو الأصل الذي تعتمد عليه حواسنا... والحدوث هو واقعنا في كل لحظة من لحظات حياتنا وفي كل حيز من مكان وجودنا.... فهو وجود ظاهر لباطن حقيقة البلاء وسنته الحسنة في الكون؛ فكل شيء في الوجود، وكل جزء من أجزاء الكون لا بد أن يكون مبتلياً ومبتلى به في آن واحد وفي اتجاهين متضادين. وقد أبطن الله تعالى سنة البلاء، فكانت مضمون مشيئته في تجلي حسن مخلوقاته وتمايزها، وقد مضى من ذلك الباطن في خلق الناس ثوابت هي: الاستخلاف في الأرض، وبلاء الدين، وبلاء عداوة الشيطان. وقد يكون البلاء مختاراً لنقمة الله تعالى وعذابه، والتعجيل بفناء خلق أغضبوه، وهو الملك الحق المبين... وقد يكون البلاء مختاراً لرحمته ليرفع من يشاء درجات، أو قد يكون لتثبيت الموقف الذي يجلي حسن الآدمي أو سوءه، وهو الذي يسميه القرآن التمحيص، وهو خاص بالمؤمنين: (وليمحّص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين) (آل عمران: 141)، ويقول تعالى في التمحيص في ذات المعنى: (وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم) (آل عمران: 154) أو يبتلي في سبيل التمايز والظهور والوضوح إذ يقول سبحانه: (ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب) (آل عمران: 179) أو هو فتنة الابتلاء لتعزيز ملكة الصبر التي بها يرتفع الإيمان: (كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة) (الأنبياء: 35) (وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون) (الفرقان: 20). فالحدوث والتغير في أحوال الوجود وأحوال الحياة والأحياء، وأحوال العقل والعقلاء، ظاهر لباطن سنة الله تعالى الحسنة في البلاء. |
(7) |
يبرز واضحاً ظاهراً في هذا الكون الرائع العجيب من خلق الله تعالى التناغم والتناسق والتوافق بين أجزائه ومتراكباته ومكوناته، بصرامة فائقة وبحسابات دقيقة وبتداخل مدروس في كل نهاياته وحدوده الزمانية والمكانية؛ وقد قال أمير المؤمنين علي (ع) في ذلك: (وقدر خلقه تقديراً حسناً جميلاً كاملاً وصور كل شيء فأحسن صورته قبل أن ينفذ مشيئته ويصدر فيه حكم قضائه.. وقبل أن يلزم ميعاده ووقته ويصرف فيه دهوره وحقبه ويلبسه أيامه التي فيها بيان وجوه خلقه). وفوق هذا نجد توافقاً وتناسقاً وتناغماً بين المادة المجردة في ذراتها وجزيئاتها وفي عناصرها ومركباتها ومخاليطها وبين الحياة في معانيها ومميزاتها وبين العقل في ميزاته وتوجهاته وأحكامه؛ وكذا فإن هناك توازناً دقيقاً جداً وصارماً بين البيئات المختلفة، فبيئة تتكامل مع بيئة أخرى، وهناك حسابات دقيقة جداً ومدروسة مسبقاً - كما يشير الإمام علي(ع) في حديثه الآنف الذكر - في النسب المادية التي تبني الكون في ذاته، وفي أشكال الحياة وأدائها، يظهر ذلك واضحاً بارزاً في النسب التي يتكون منها الهواء الذي يحيط بنا، فمثلاً: نسبة الخمس التي يتكون منها الأوكسجين (21%)، لو زادت تلك النسبة أو نقصت فلا حياة، أو لا حياة كما هي التي نراها ظاهرة. ثم التناسق والتركيب المتناغم بين هذه النسب وفعاليات الوجود والحياة، فالذي يستهلك في الحياة تعوضه الحياة.. فالتنفس والاحتراق يستهلك الأوكسجين ويزيد من ثاني أوكسيد الكاربون، في حين أن عملية التركيب الضوئي تستهلك ثاني أكسيد الكاربون وتنتج الأوكسجين لتبقى نسبته ما قدر الله سبحانه و تعالى ثابت. وهناك ظواهر أخرى بارزة يمكن أن نأخذها كأمثلة على تقديرات لنسب أخرى، كنسب كميات العناصر في القشرة الأرضية وكذا المركبات والمخاليط فهي متناسقة مع نسب كمياتها في بناء الأجسام الحية بحكمة تفوق كل حكمة، ألا وهي تقدير المحسن الحكيم. وهناك ظواهر أخرى بارزة لرحمة الله تعالى تبدو في شذوذ الماء عن قوانين الطبيعة بسبب باطن تركيب وتقدير بناء الماء. وهناك أيضاً ظواهر أخرى بارزة تتمثل في مقاربة نسبة كمية أي عنصر في بناء جسم الإنسان مع نسبته في القشرة الأرضية في تقدير هو غاية في الحسن والحكمة، فالماء الذي يغطي 4/5 سطح الأرض له نسبة مماثلة في تكوين الأجساد الحيوانية الحية، وكذا نسب العناصر الفلزية، مثل الذهب الذي لو زادت نسبته لتكون كنسبة الحديد، وصار الحديد - افتراضاً - بنسبة كنسبة الذهب في القشرة الأرضية لتغير وجه الأرض. ولو فقد الحديد مثلاً خاصيته المغناطيسية، لما وجدت محركاً يدور ولا كهرباء ولا أي مظهر من مظاهر الحضارة الحالية... فكل ظاهر جميل نجده اليوم، له باطن من تقدير الله تعالى ومشيئته. إن قيم الثوابت الكونية، الفيزياوية منها والفلكية، هي مقادير ثابتة لا تتغير في كل الحسابات العلمية الفيزيائية والكيماوية والرياضية والفلكية وعلم الفضاء والجيولوجيا.. وكذا وحدة القوى الأربع التي تحكم الطبيعة، ووحدة الشروط التي يتطلبها الوجود... كلها ظواهر تدل على الدقة والحكمة والحسابات المدروسة بعناية وبحكمة فائقة. إذن فالوجود بحسنه وجماله، والحياة بروعتها ودقتها، والعقل بكبريائه واتساعه، هي مظاهر بارزة ظاهرة لباطن حكمة الخالق المبدع والبارئ الحكيم المصور المحسن، وهي في كل ذلك مربوبة لوحدانية هذه الصفات. |
(8) |
ظاهرة إرسال الرسل وإنزال الكتب وقيام المعجزات ظاهرة تاريخية، لاسيما معجزة القرآن العظيم القائمة الآن والى الأبد والتي تتحدى العقول أن تأتي بمثلها.. فلا يستطيع أحد أن ينكرها وإن جحدها، والجحود خلق سوء ينال من النفوس التي يحكمها قدر الشيطان وشركه. هذه الظاهرة البارزة هي لباطن مضمون دعوة المحسن جل وعلا لإحسانه، فلقد صمم وأحسن وبرع وأبدع وأحكم وقدر ثم خلق فكوّن.. ثم أرسل الرسل يدعون لحسن ما خلق وكوّن ويدلون على فعل الحسنات ويحذرون من فعل السيئات، ويعدون بحسن الثواب، وينذرون بسوء العقاب... فمنذ أن خلق الله آدم جعله نبياً، ثم كانت بعده رسله تعالى إلى الناس تترى. ونعود إلى الحقيقة التي تقول بأن الحسن لازم لرفع القصور في أصل الخلقة للمخلوق، فالوجود أحسن من العدم، والحياة أحسن من مجرد الوجود، والعقل أحسن من مجرد الحياة أو بعبارة أخرى: إن الكائن الحي العاقل (الإنسان) أحسن من الحيوان أو النبات، وإن الحيوان أو النبات أحسن من الحجارة، وإن الحجارة كوجود أحسن من العدم. إن القول بالأحسن بديهية عقلية، كما أن الحسن هدف في ذاته في هذا الخلق؛ فكل شيء ينجذب للحسن ويسعى إليه، فهو سنة في أصل الخلقة لكل كائن، والحسن مضمون مشيئة الله تعالى في خلقه. وبما أن العلم هو تطابق السنة التكوينية للنفس الإنسانية، في سعيها لإصابة الحسن، مع السنة الكونية مضمون مشيئة الله تعالى في خلقه؛ لذا فإن تطابق السنتين وبمقداره في النفس يحصل لها العلم وبمقداره يكون سرورها وانجذابها، حيث تعلم وحيث لا حسن إلا مع العلم. ولذا فإن تقرير القول بأن الإنسان أحسن من القرد - مثلاً- لا يثير جدلاً باعتبار ذلك بديهية، ولكن قد تكون شبهة مقابل بديهية مثيرة للجدال، تتسرب من خلال اعتبار بعض مصاديق الإنسان بديلاً عن مفهوم الإنسان... فالجهل له أبواب غير محدودة، تدخل منها الشبهات مقابل البديهيات في نفوس الجهال، لكن بديهية الحسن الكوني لا أحد ينكرها أو يجحدها، وهذا من لطف الله تعالى الباطن بالناس، وإلا فلا علم؛ فكل نفس تنجذب للحسن وتسعى إليه، وهو سنة في كل خلقه، وإن سلسلة التوجه للأحسن، ابتداءً من العدم إلى الوجود والى الحياة، إلى العقل، إلى المحسن جل وعلا، ظاهر لباطن مضمون مشيئة المحسن سبحانه بكل صفاته الحسنى. ولو تساءلنا: لماذا السعي للحسن الظاهر؟! وما يبطن هذا السعي؟! ولماذا يقع الحسن في تطورات متسلسلة؟ وبماذا يتعلق مقدار الحسن ومقدار انجذاب النفس إليه وسرورها به؟!. للإجابة على هذه التساؤلات، هناك موضوع لا بد أولاً من فهمه؛ ففي فهمه جزء من الإجابة، وهو موضوع تعلق القصور واللاقصور في القبح والحسن ورؤيتهما. |
التصــــور والحســـــن |
1- مبدأ القصور الذاتي في المادة: من الثوابت الأولية في علم الفيزياء هو قانون القصور الذاتي، الذي ينص على أن الجسم المادي عاجز عن التأثير في ذاته ما لم تؤثر عليه قوة خارجية تخرجه من قصوره، فتحركه مثلاً إذا كان ساكناً أو توقفه عن الحركة إذا كان متحركاً. مقابل هذا المبدأ في الجوامد، هناك في الأحياء مبدأ القصور الذاتي الحيوي؛ فالكائن الحي قاصر عن التأثير في ذاته الحية، ما لم تؤثر عليه قوة حية خارجية تخرجه من قصوره؛ فالحياة في الكائن - بما تميزه - تخضع لقوانين صارمة ودقيقة تتضمنها شفرة ينم عنها تركيب الحامض النووي الـ DNA في نواة الخلية لكل صنف من أصناف الحياة، مما يجعل الكائن الحي يتميز عن أقرب المقربين إليه. وقد بدى اليوم إلى حد ما، أن الإنسان كقوة حية خارجية، يستطيع أن يرفع القصور الحيوي في بعض الكائنات الحية؛ وذلك لأنه استطاع أن يغير تركيبة الـ DNA لتلك الكائنات الحية من خلال هندسة الجينات. وبهذا أصبح الإنسان القوة الخارجية الحية التي أثرت على قانون القصور الحيوي جزئياً، لتأثيره على الحياة من خارج الذات الحية. فمقابل القصورين الذاتي المادي، والذاتي الحيوي، يوجد قصور ذاتي عقلي؛ حيث يكون الآدمي عاجزاً عن التأثير في عقله للتوجه باختياراته دون خطل لإصابة الأحسن وفق سنن الكون في تمام الطاعة والإحسان والرحمة والعدل والصبر على البلاء والإمامة والدعوة إلى الأحسن... دون قوة عاقلة خارجة عن ذاته تؤثر فيه وعليه وتخرجه من قصوره الذاتي العقلي. فالعقل بذاته عليه حجب، تدخل في تكوينه، المادة بقصورها الذاتي، أو الحياة بقصورها الذاتي، حتى العقل يكون قاصراً بذاته كما يقول الإمام علي (ع): (العقل غريزة تربيها التجارب)، فيخطأ مرة ويصيب أخرى. من أجل هذا كان الوحي الرباني - وهو روح من أمر الله تعالى - يعتبر قوة عاقلة خارجية (محض عقل) لتخرج عقل الرسول (ص) من قصوره الذاتي ضمن سنة كونية حسنة للتكامل في الدعوة الإسلامية؛ فالرسل(ع)، والكتب المنزلة، والمعجزات التي قامت والقائمة الآن والى الأبد المتمثلة بالقرآن العظيم، كلها إنما هي قوائم لسنة الحسن من لدن المحسن لدعوة عباده إليه... فهم (ع) معصومون، يقولون ويفعلون دون خطأ أو خطل، يصيبون الحق ويجسدونه عدلاً يلمس وينظر، ينتقلون بمعاني الحسن الباطن إلى مظاهر الجمال البارز الظاهر، فيصير فعلهم وقولهم جذاباً مسرّاً، ويكونون بذلك أسوات حسنات للناس، فهم أئمة واقعيون دون تكلف، وبذلك فهم مع الكتب المنزلة لا يفترقون في تكاملهم وفي اعتصامهم عن الخطل دون ريب. من هذا وعلى أساس من هذه الحقائق البديهية الظاهرة نجد أن الحسن يرتبط بفهم مضمون مشيئة الله تعالى؛ ففي الوقت الذي يغرق فيه المعصوم في الانجذاب لربه ويذوب في حبه، وهو بما هو عليه من ورع وتقى يبطنه في ذاته، يظهر جزعاً وفرقاً في دعائه وصلاته؛ فقد اطلعوا (ع) على الحسن الحقيقي، وانجذبوا إليه واشتاقوا إليه؛ إذ الوحي هو كما يصفه القرآن: (وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم) (الشورى: 52). فالوحي روح من أمر الله تعالى، قوة عاقلة محض حق، ونور من أمر الله تعالى، يرفع القصور والحجب عن عقل الرسول (ص) باتجاه الكمال في رؤية الحسن من مواقعه وفي ثوابته الكونية. إن الحسن الذي يجسده المعصومون(ع)، ويمثل وسائل جذب للناس في عصور قيمها القبح والظلم والشرك، ثم في قصص يستحليها الناس في مجالسهم.. إن هذا الظاهر الجميل الحسن والنور الذي يستصير به التائهون، إنما هو ظاهر لباطن رفع القصور بأمر الله وروحه ومشيئته في الوحي الذي يستلمه الرسل (ع) ويباشر عقولهم. فكل ظاهر حسن من خلق الله تعالى، وكل خلق الله حسن يبطنه ظاهر حسن من مضمون مشيئة الله تعالى. فالتقدير والتدبير والتصميم مضمون يبطن ظاهر الطاعة.. والرحمة باطن ظاهره المحبة والعاطفة، والحق باطن ظاهره العدل والصدق، والإمامة باطن ظاهره السيادة والحكم والقيادة، والبلاء باطن ظاهره كل الفعاليات للتغير والحدوث، والوحدانية باطن ظاهره التناسق والانسجام والتناغم مع نواميس الكون، والدعوة للأحسن باطن ظاهره إرسال الرسل وإنزال الكتب وقيام المعجزات... فسبحان الظاهر الباطن. |
|