النفس والعدوان
|
د. سعد الإمارة |
إن معرفة أسباب أية ظاهرة إنسانية، سلبية كانت أم إيجابية، تعد من أهم المكتشفات الإنسانية، لا من حيث اكتشافها فحسب، أو دراسة طبيعتها، بل من حيث التعرف عليها وتفكيك مكوناتها بغية الوصول إلى حل يقودنا إلى وضع علاجات لها أو التخفيف منها، وخاصة فيما يتعلق بوجود الإنسان وعيشه وأمنه واستقراره.. إن ظاهرة العنف والسلوك العدواني هي إحدى الظواهر الإنسانية التي تصدر عن النفس الإنسانية في لحظة جنونية غير مسيطر عليها، ربما تدفع إلى ارتكاب حماقة تؤدي إلى إزهاق أرواح البشر، وإحداث أضرار مستديمة تؤدي إلى الإعاقة، أو إحداث أضرار مادية ومعنوية؛ فيكون الثمن خسارة فادحة للنفس الإنسانية... ونحن إزاء ظاهرة السلوك العدواني نحاول جاهدين بحث المكونات المؤدية إلى هذا السلوك، ودوافعه، وحالات الإحباط المصاحبة له قبل حدوثه والعوامل الأخرى ذات التأثير الفعال؛ لذا ففي مسرى الحياة وتحت وطأة الظروف وضنك المعيشة وكثرة الاحباطات والاستثارات، نجد أن ظاهرة العدوان والعدوانية باتت متفشية في السلوك الفردي، والسلوك الجمعي للشعوب، رغم كوابح المنع القوية التي يفترض أنها تخفف من شدة تفاقم الظاهرة العدوانية. |
والدين الإسلامي يعد بحق من أكثر الأديان السماوية اهتماماً بهذه الظاهرة عبر التاريخ، وما زال ينهج نفس النهج الداعي إلى رفض العنف والحد منه، أو إيقافه نهائياً، من خلال الدعوات المستمرة إلى التعايش بسلام وأمان بين جميع الشعوب والأقوام والسلالات البشرية، ولكن يبقى التساؤل المهم: من الذي يوقد جذوة العدوان الجماعي بين الشعوب؟ هل هي السياسة النفعية التي تدعو إلى جعل البشر وقوداً مشتعلة لحروب وأزمات لا نهاية لها.. أم تهيئة الناس تحت ظروف قسوة الحياة وشظف العيش، وهو بفعل فاعل.. وليس مصادفة؟!. إن هدف الإسلام أن يعيش البشر على وجه الكرة الأرضية بأمان وسلام وطمأنينة دون أحقاد أو عداوة؛ حيث قال الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه: (وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم) (الحجرات: 13). إن النفس الإنسانية كما وصفها الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم، هي المحرك الأول والأساس في نشأة السلوك العدواني، لذا كانت وما زالت، وستبقى مجالاً رحباً وميداناً فسيحاً في كل زمان ومكان وهي الأداة التي تشعل أو تطفئ النار، أو تبسط السلام للآخرين، أو توقد جذور الغضب المؤدي إلى العدوان.. فالنفس الأمارة بالسوء، والنفس المسوّلة لا تدعان النفس المطمئنة تعيش بهدوء وسلام مهما احتدم الجدل وضاقت النفس بنفسها؛ فنفس الإنسان هي الأساس في إطفاء أو إشعال نار العنف والعدوان... مع ما يهيأ لها من ظروف مساعدة وإعداد يناسب إشعالها... قال الإمام جعفر الصادق(ع): (ثلاث من كن فيه كان سيداً: كظم الغيظ، والعفو عن المسيء، والصلة بالنفس والمال) (1 :231). |
القرآن والنفس.. |
يعد الدين الإسلامي من أكثر الرسالات والأديان السماوية اهتماماً بهذا المدخل المعقد وقد نظر على أنها للإنسان عالماً لا منتهي في السعة والصعوبة والتعقيد، وقد ذكرها في عدة مواضع من القرآن الكريم مفصلاً إياها تفصيلاً رائعاً رغم تعدد ورودها واختلاف معانيها ومواقعها من حيث الاستخدام والدلالة في المعنى أو التكوين، ومن ذلك قوله تعالى: (ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون) (الحشر:18). (يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك راضية مرضية) (الفجر:27،28). (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً) (آل عمران:30). (يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً والأمر يومئذ لله) (الانفطار:19). (واذكر ربك في نفسك تضرعاً وخيفة) (الأعراف:205). (فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها) (يونس:108). (يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها) (النحل:111). (قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي) (يونس:15). (وإذا النفوس زوجت) (التكوير:7). (وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله) (البقرة:110). (قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا) (الأنعام:130). (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم) (التوبة:111). (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم) (فصلت:53). (يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا) (يونس:23). (أن تقول نفس يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الخاسرين) (الزمر:56). (إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها) (الإسراء:7). فالله سبحانه وتعالى يوجه خطابه إلى الإنسان بما هو إنسان، في عقله وتدبره للأمور، فالله يوجه كلامه بكل المعاني وأشملها وأكثرها قدرة على الاختراق داخل النفس؛ حيث سعة المعنى ودقته، كما أنه يخاطب الإنسان في كل مواقع الحياة بأسلوبٍ في الرؤية ينفرد به القرآن الكريم بتفصيل النفس في خلقها، وفي مسار فعلها، وما تؤديه من أفعال وما تضمره أو تحمله في ثناياها. إن البحث في النفس وما تنطوي عليه من التعقيد والغموض للباحث المتخصص في مجال دراسة الإنسان عموماً، والفرد وتعامله الاجتماعي خصوصاً، والنفس الأكثر شمولية ودقة وتفرداً، إنما هو ضرب من الصراع بين قطبي التناقض داخل النفس الإنسانية في خيرها وشرها.. وهو في نهاية الأمر تشريح النفس ودراستها، انفعالاتها وهدوئها، وما يصدر عنها. فالقرآن الحكيم أبدع في وصف النفس من عدة نواحٍ ورؤى، حتى إن النفس قد وردت في القرآن الكريم (295) مرة وبصيغ متباينة (2 :17)، ولكن يسعى الإنسان في كشف وسبر أغوارها ما استطاع ويفكر في تكوينها وفعلها؛ فنفس الإنسان حيث يتم بحثها في علم النفس الحديث، إنما تبحث في مضمار الدراسة المتعمقة للإنسان بما هو إنسان، ولا بد في هذه الحالة من البدء فيها بأسلوب البحث والتحليل (3: 441). |
النفس والنزعات الإنسانية.. |
يرى الإمام علي (ع) في القوى المحركة للنفس ونزعاتها فعلاً مؤثراً ينطوي على تكوينات مختلفة وأداء يتجاوز حدود التعامل ونتائجه التي تصدر من الإنسان بقوله (ع):( أفضل الأعمال ما أكرهت نفسك عليه)، وقوله(ع) أيضاً: (غاية الأدب أن يستحي الإنسان من نفسه) (4:230)، فالنفس بما تحمله من نوازع وقوى تتصارع في تحقيق الخير تارة والشر تارة أخرى، إنما قد تذعن إلى الخير؛ فينتج عنها مكون الخير، وكل فعل يلقى عند الناس الاحترام والتقدير؛ فإكراه الإنسان لنفسه يعد عملاً شاقاً، والانتصار عليها هو الأصعب، لا بسبب نزوعها إلى الشر دائماً، ولكن للغواية أثر قوي على الإنسان، وهي تنحدر به إلى أحضان اللذّة، واللذة تثير المتعة، وعادة تكون سهلة المنال، على العكس تماماً من فعل الخير، وتوطين النفس عليه، لا سيما أن الإنسان تتنازعه منذ تكوينه وعبر مراحل حياته نزعات وقوى الخير والشر. ويرى ابن سينا في القوى المحركة ونوازعها دافعاً قوياً، وتتمركز هذه القوى في: - القوى الظاهرة: وهي الحواس الخمس: السمع، البصر، اللمس، الشم، الذوق. - القوى الباطنة: وهي على نوعين: أ) القوى المشرفة على الحياة النامية كالهاضمة، والدافعة (إخراج) والغازية والمولدة. ب) القوى المدركة التي في الباطن، وهي الحس المشترك، والمتخيلة، والوهم، والحافظة والمفكرة. - القوى المحركة وهي صنفان: القوى الباعثة والقوى الفاعلة. - القوى العقلية؛ وهي أربع: أ) استعداد الإنسان لقبول العلوم والصناعات الفكرية، وهي قوة فطرية قابلة للتفاوت. ب) القوة التي يتم بها التمييز، وهي قوة غريزية غير قابلة للتفاوت. ج) قوة تحصل بها العلوم المستفادة من الخبرات والتجارب. د) قوة يعرف بها الإنسان حقائق الأمور حتى يقمع اللذة العاجلة إيثاراً للذة الآجلة ويسمى صاحبها عاقلاً (2: 111). فالنفس الإنسانية تحركها القوى والنزعات التي تعد بحد ذاتها تحقيقاً لفعل يصدر عنها وهو السلوك، ووراء كل سلوك دافع، كما عبر عنه علم النفس الحديث، وعمل النفس إنما هو تعبير عن حقيقة الذات الإنسانية بكل قواها وما ينجم عن ذلك من سلوك (2:115). وقال الإمام الشيرازي: (إن كل إنسان سعيه لنفسه) (5:67)، فالنفس تحمل بين طياتها خيرها وشرها، وكلاهما يعود على الإنسان نفسه وعلى مجتمعه؛ فسلوك الفرد داخل الجماعة يختلف عما لو كان وحده، فهو داخلها يكتسب قوة تدفعه إلى مواصلة القيام بكثير من الأفعال التي كان يحجم عن إتيانها وحده؛ فعامل الضبط وسط الجماعة لا وجود له لشيوع تبعة ما يحدث من فرد واحد على جميع أفراد الجماعة (6: 405) فالنفس الإنسانية هي واحدة مع الآخرين أو مع نفسها لوحدها، فعامل الشر والعدوان هو الذي يوعز إليها ويحركها في الاتجاه السلبي، حتى وإن كانت مع حشد من الناس والجماعة. فحالة السكينة والهدوء للنفس الإنسانية المسايرة مع جماعة مسالمة تطغى عليها علاقات التمازج والتفاعل مع الجمع الذي تحركه روح الجماعة، وهي نفس الآلية ودوافعها نحو الشر وفعل التخريب وإيذاء الآخر، إذا ما انبرت في فعله؛ فكل فرد يكتسب خاصية جديدة وسط الجماعة، حيث يفكر ويشعر ويعمل بكيفية تختلف تماماً عما يفعل ويفكر كل منهم على انفراد، وذلك مهما اختلفت صفاتهم وأخلاقهم (6: 405). فالنفس التي تحمل في وجودها تناقضاتها، وهو الصراع الذي يحكمها، فإذا زاد فعل الخير فيها كانت النفس المطمئنة، وإن انتصر الشر فيها، كانت النفس الأمارة بالسوء، وهي التي تقود كل حملات تحقيق اللذة، وإشباع الرغبات، ومن تلك الرغبات العدوان والعنف، وإن اختلفت أشكاله ومسارات فعله، إلا أنه يظل سلوكاً مرفوضاً تارة ويكافأ عليه تارة أخرى. فالقوة قانون ذو حدين، إذا أسئ استعمالها تحولت إلى القسوة والظلم. ولكن ما يهمنا في بحثنا هذا هو القوة الموجهة من الإنسان لأخيه الإنسان، في صور مختلفة ومتنوعة، وتبقى القوة والعنف هما السمتان الأقل تحضراً في حياة الشعوب عبر التاريخ، وهما النقيضان المضادان للحضارة وحكم الدين الأخلاقي، في السلام والأمان، وفي الحضارة والتطور. |
النفس والسلوك العدواني.. |
إن الله سبحانه وتعالى خالق الكون بأكمله وفاطر الخلق، ومن خلقه وتكوينه أنه خلق أصعب المخلوقات وأقساها، هي النفس الإنسانية، وعظمة الله تجلت عندما خلق في هذه النفس الميول، وجعلها تحركها وتمضي بها أطواراً، وخلق من النفس أشكالاً وأنواعاً ومنها النفس الأمارة بالسوء، وهي في صراع أزلي مستمر، دون أن تجد لنفسها إشباعاً محدداً، فظلت دائماً تبحث عن الرغبات والشهوات واللذة... فقال الله سبحانه وتعالى: (وذكّر به أن تبسل نفس بما كسبت) (الأنعام:70)، وقال الإمام علي (ع): (سوء الأدب سبب كل شر) (4: 230)، فالإنسان في صراع مع نفسه إزاء مواقف الحياة، ومن استطاع أن ينازع نفسه ويردها ويجعل زمام أموره مع العقل، استطاع أن يحقق التوازن النفسي، وهو ما يسمى في علم النفس الحديث بالاتزان والتوافق النفسي، وهي حالة من السوية يجعلها الإنسان سمة من سمات شخصيته، وصفة يصفه بها الناس. أما إذا انفلتت الأمور وانحدرت فإنها سوف تؤدي بصاحبها إلى الرذيلة، ومن ثم فإن كل الشر ينجم عن سوء الأدب، وهو السلوك غير المقبول اجتماعياً، ويأخذ عدة أشكال، فعدم احترام الناس أو التقليل من شأنهم أو احتقارهم يعد بحد ذاته سلوكاً عدوانياً وإن اختلفت أشكاله وأنماطه. هذا فضلاً عن أنواع السلوكيات في اعتدالها وتطرفها، كحالة الغضب العادي والسلوك العدواني في مسار فعلهما؛ فالأول يعكس عدم الرضا عن شيء ما يجري، والثاني يبلغ بصاحبه حد التهديد لحياة الآخرين. فالأفراد العدوانيين يمضون في عدوانيتهم حتى يصبحوا خطراً، ويتمثل في سلوكهم العنف الخطير (7: 218)، وقد اختلفت أنواع السلوكيات المؤدية إلى العدوان وكذلك الأسباب، وذهب البعض من علماء النفس والمهتمين بهذه الظاهرة إلى أن الإحباط سبب يؤدي إلى شكل من أشكال العدوان، وقد عرّفوا الإحباط بأنه تلك الحالة التي تظهر عند إعاقة تحقيق الهدف، أما العدوان فهو فعل يكون هدفه إلحاق الأذى بالآخرين، فالإحباط يؤدي إلى عدد من الاستجابات التي تتراوح بين الاستثارة والعدوان، ولكن ليس بالضرورة أن يكون ذلك سلوك عدواني فعلي، وقوة الاستثارة قد تؤدي إلى العدوان وتختلف بحسب العوامل التالية: - قوة الاستثارة إلى الاستجابة المحيطة. - درجة الإعاقة التي تتعرض لها الاستجابة المحيطة (8: 380). - تكرار الاحباطات المستمرة. وقال الإمام الشيرازي: (لذا فعلى الإنسان أن يفكر تفكيراً موزوناً حتى ينتهي إلى العمل الموزون، أما أن يفكر تفكيراً إفراطياً، فإن ذلك لا ينتهي إلا إلى العمل المنحرف، ثم العداوة والبغضاء) (9: 166)، وتتراوح أشكال السلوك من الانفعالات البسيطة المصاحبة للغضب إلى حالات المهاجمة للآخرين، ويمكن استعراض بعضها بالصور المختلفة في شدتها: - الأصوات العالية المصاحبة للصياح وإحداث الضوضاء. - استخدام الألفاظ النابية كالشتائم والسباب. - التلويح باستخدام العنف. - تحطيم الأشياء والحاجات. - إشعال الحرائق وإتلاف الممتلكات. - إيذاء النفس بتجريح الجلد بأداة حادة أو نتف الشعر وإيذاء النفس باليد أو آلة حادة. - ضرب الرأس باليدين أو بآلات مؤذية. - حرق الجلد بالسكاير أو بالنار. - إيذاء الآخرين بدفعهم أو ضربهم وإلحاق الأذى بهم. - مهاجمة الآخرين إلى حد إيذائهم أو قتلهم. إن ما يصدر من الإنسان من أفعال، كما عرضنا بعضها، هي حالات نلاحظها لدى فئة من الأشخاص، لا يظهر تصرفها بشكل فوري ومفاجئ، بل تسبقه استثارة تؤدي إلى السلوك العدواني وهذه الاستثارة هي رد فعل انفعالي يمكن تسميته بالغضب؛ لذا فإن وقف أو منع هذا الغضب سوف يزيد من حالة الانفعال؛ فهي إذاً استجابات تؤدي إلى العدوان، ولكنها لا تظهر ولا تتوضح بشكل ملحوظ إلا إذا سبقها إحباط مقصود، فهي تتهيج وتبدو أكثر حدة في مواقف الإحباط المقصود. |
أسباب السلوك العدواني.. |
يرى الإمام الشيرازي أن من أسباب نشوء بعض السلوكيات الخاطئة المؤدية إلى الانفعالات والتي منشؤها الغضب، أو التي تقود إلى العدوانية؛ أن يرى الإنسان كل خير وفضيلة في نفسه وجماعته، ويرى الآخرين مجردين عن الفضيلة، بل ويراهم منغمسين في الرذيلة، فهذا لا بد أن ينتهي إلى العداوة والبغضاء (9: 166) حتماً، وتنتج عنه أسباب أخرى تقود إلى نشوب حالات الاستثارة والعنف، فالأسباب قد تكون شخصية فردية، أو قد تكون اجتماعية، أو اقتصادية مالية، أو نفسية، ويحددها بعض علماء النفس في الأسباب التالية: - مرضية. - اقتصادية. - نفسية. - عقلية. - بيولوجية. وهناك اتفاق بين المختصين على أن العوامل البيولوجية هي العنصر الأول المؤثر والأساس الذي يدفع الكثير من الأفراد إلى السلوك العدواني والعنف، وأثر العوامل البيولوجية ينحصر في: العطب الذي يصيب الدماغ له الدور الرئيسي في سلوك العنف، ومن ذلك مثلاً تلف بعض خلايا المخ لسبب أو لآخر، ؛ فقد وجد أن 70% ممن يعانون صدمات أصابت منهم الدماغ، يستجيبون بعنف وبعدوانية لأتفه المثيرات ولأسخف الأسباب. كما وجد أن الذين يتعرضون لحوادث تصيب الدماغ أثناء أو بعد الانتهاء من الشراب المسكر أو أولئك الذين يدمنون الكحوليات والمخدرات بعد الإصابة الدماغية، يصبح سلوكهم عدوانياً وعنيفاً؛ لذا فإن أي عطب يصيب الدماغ يمكن أن يؤثر في وظائف الفصوص الأمامية أو الصدغية من الدماغ، وهي المناطق التي تتحكم بالمنطق، وبالحكم العقلي وبالانفعالات الفجة كانفعال الغضب الهيجاني. أما العوامل التطورية، فقد حددتها (الرابطة النفسية الأمريكية) بالعوامل الخاصة بالعنف فيما يلي: - التنشئة الأسرية. - تأثير أقران السوء. - العوامل الاقتصادية. - نقص فرص قضاء الوقت في الحياة اليومية. - تأثير وسائل الإعلام تأثيراً معكوساً. أما العوامل الاجتماعية فقد سمتها (الرابطة النفسية الأمريكية) بالعوامل الخاصة بالعنف في ما يلي: - الفقر المدقع. - الحرمان من كل شيء. - البطالة. - التمييز العنصري. - التحيز. - الانضمام إلى العصابات. - التعرض إلى العنف من جانب الآخرين (7: 218). ويطرح الفكر الإسلامي أسباباً دقيقة لنشوء السلوك العدواني وانعكاسه على الآخرين من خلال تجارب الحياة العملية، حيث قال الإمام علي (ع): (إن الخير والشر لا يعرفان إلا بالناس، فإذا أردت أن تعرف الخير فاعمل الخير تعرف أهله، وإذا أردت أن تعرف الشر فاعمل الشر تعرف أهله) (1: 143). ويرى الإمام الشيرازي بأن للحرمان دوراً كبيراً في نشوء السلوك العدواني و العنف بقوله: (أما دور الحرمان فهو كبير في خلق الانحراف، فإنه يؤثر على الجسم؛ فيؤثر الاختلال الجسمي في الاختلال النفسي، والابتلاء بالانحراف النفسي أكثر بكثير) (4: 250)، لذا فإن التعمق في معرفة أسباب نشوء ظاهرة السلوك العدواني، والحالات المؤدية إلى الغضب والاستثارة، وآليات عملها وجذورها، هو مما لا يمكن معرفته إلا من خلال رده إلى إطاره الاجتماعي وسياقه النفسي في التواصل مع المكونات الاجتماعية؛ فليس بالإمكان رده إلى سبب واحد بعينه دون الأسباب الأخرى، فالظواهر ليست مجردة عن العوامل الأخرى، كما هو الإنسان، حيث تحركه الدوافع، لينتج لنا السلوك، وهذه الطاقة المحركة للسلوك قد تتجه نحو الخير أو نحو الشر.. قال تعالى: (إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها) (الإسراء: 7)، وقوله أيضاً: (يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا) (يونس:23). |
التربية وتنمية العدوانية.. |
تعد التربية بكل أنواعها مقومات تنمية للإنسان وهي تمر عبر مراحل حياته المختلفة، منذ الطفولة حتى المراهقة والرشد، ولا تتوقف عند مرحلة محددة أو تنتهي إلا بانتهاء حياة الإنسان، فيظل يتعلم ويعلم؛ لذا فإن الطفل عندما يتعلم عبر مراحل عمره المختلفة فإنه يتعلم عادات وسلوكيات مكتسبة من واقعه الأسري والاجتماعي، فهو يتعلم من التربية الموجهة أو التربية العشوائية غير المنظمة، عنف المزاج أو شدة التعامل مع أحداث الواقع من خلال ما يشاهده وهو امتداد لعلاقات الفرد في طفولته مع محيطه الاجتماعي؛ وهو ما يؤكد أهمية رعاية الأسرة لتوجيه الطفل توجيهاً تربوياً فعالاً. فالأطفال في مرحلة الدخول للمدرسة أي في سن السادسة وما بعدها يتعلمون بشكل غير مباشر (إيحائي) العلاقات الاجتماعية والاهتمام بالآخرين، وهي مرحلة بداية تكوين الخبرة، واختزان الكثير من الأفعال المكتسبة التي يتم تعلمها من الأقران، وتجد هذه الأفعال المكتسبة في نفسه صدى للتقبل؛ فهو يعلن بشكل صريح تعلقه بالآخرين، والتعبير عن مشاعره وتأثره باتصالاتهم الإيجابية، لذا فإن ظاهرة العنف هي أحد الأفعال المكتسبة التي قد تلقى تقبلاً محموداً لديه، حيث تشكل الظل الأسود الذي يلازمه إذا ما وجد التدعيم والتعزيز من قبل الآخرين من الأهل والمقربين، وذلك من خلال إظهار سلوكيات متطرفة من العنف، في حين تأمل معظم العوائل تبديد هذه الشحنات الانفعالية وتحاول تخفيفها وتعزيز القيم الإنسانية التي تؤكد على السلام والأمن والرخاء. إن التربية هي الحلقة الأكثر أهمية في دورة العنف وتجلياته، وتتضح معها خلفيات وجوده السيكولوجي والاجتماعي والانثروبولوجي والسياسي والتربوي، حيث ينسب تكوينه إلى العنف المدرسي والعنف العائلي والعنف السياسي والعنف الطائفي، وقد أرجعت أسبابه إلى مجموعتين: الأولى: أسباب تعود إلى طبيعة الاتصال الاجتماعي والتفاعل في سياق الحياة الاجتماعية؛ فالعنف في هذا المستوى قد ينجم عن سوء تكيف في طبيعة الاتصال الاجتماعي بين الأفراد. الثانية: أسباب تعود إلى خلفيات سيكولوجية تتصل بطبيعة الإنسان وتكويناته الفطرية. لذا فإن أهمية العوامل التربوية ودورها في توليد العنف أو كبح جماحه ناجمة أساساً عن الطريقة التي يتعامل بها الآباء مع الأبناء من خلال أساليب الترغيب والترهيب، والطرق المعتمدة في توكيد حالة معينة صحيحة أو خاطئة لديهم، فالإمام الشيرازي يرى أن تكوين الشخصية الفردية والاجتماعية يتوقف - في كثير منه - على أسلوب التربية والتثقيف؛ فهي (التربية) نواة لابدّ أن يظهر ثمرها ولو بعد حين، ولا فرق في ذلك بين تأديب الإنسان لنفسه ولأولاده أو أقربائه(4: 230). إن الأهل هم أفضل من يقرر للطفل ما يريده من نظم وأسس لتحديد ما يناسبه من شخصية، وتحديد ما يناسبه من اكتساب العادات والقيم، ولن تلقى هذه الرؤية لدى الطفل قبولاً سهلاً، ولكن يمكن الجمع بين الترغيب والترهيب، فالترغيب يكون في إعطائه مكافأة حينما يقوم بالعمل الذي طلب منه، والترهيب يكون عند عدم الطاعة؛ فعادة اكتساب السلوك العنيف من الأقران في المدرسة أو الشارع والتعامل به مع الأخوة، كثيراً ما تنقل إلى وسط الأسرة في سياق تعامل أفرادها فيما بينهم، فدور الآباء أن يضعوا حدوداً للتعامل مع مثل تلك العادات، عبر توجيه الطفل نحو الخطوات الصائبة، ومنع السلوكيات التي تدخل معها جوانب العنف والخشونة وجعل الطفل يشعر بأنه محبوب وله قيمة، وأنه يشعر بأمان مع أسرته، إضافة إلى أنه يشعر بالرضى عن نفسه بوجود أهله، وإظهار التقبل له، وإخفاء جانب العنف الذي يثيره الآخرون في المدرسة كالأصدقاء. فدور الآباء يتمثل بخلق إحساس لدى الطفل بأهميته، وأنه محبوب في الأسرة؛ فهذا الوضع يعطيه إحساساً بالسلام والأمل، وعلى العكس من ذلك فإن الانتقاد المستمر لا يشجع على تقبل الطفل لنفسه، كما أن جو الأسرة المليء بالتوتر والغضب يؤدي إلى شعور محفز يقود الطفل إلى الشعور بعدم الأمان، وتوليد الشحنات السلبية وتوجيهها إلى الآخرين على شكل سلوك عنيف أو عدواني، وإذا ما قوبل بقوة رد لسلوكه العدواني، فإنه يرتد نحو ذاته، وبذلك تفتك النفس بنفسها. |
المصــــادر: |
(1) تحف العقول: أبو محمد الحسن الحراني، مطبعة شريعة، إيران (1421هـ). (2) القرآن وعلم النفس: عبد العلي الجسماني، الدار العربية للعلوم، بيروت (1997). (3) النفس: مصطفى زيور، دار النهضة العربية، بيروت (1986). (4) الاجتماع: ج1، السيد محمد الحسيني الشيرازي، دار العلوم، بيروت (1992). (5) القانون: السيد محمد الحسيني الشيرازي، مركز الرسول الأعظم، بيروت (1998). (6) علم النفس الاجتماعي: ج2، محمود السيد أبو النيل، دار النهضة العربية، بيروت (1985). (7) العناية بالعقل والنفس: ديانا هيلز وروبرت هيلز، ترجمة عبد العلي الجسماني، الدار العربية للعلوم، بيروت (1999). (8) علم النفس الاجتماعي: ت. انسكو، و ج. سكوبلر، ترجمة عبد الحميد صفوت إبراهيم، مطابع الملك سعود، الرياض (1993). (9) السبيل إلى إنهاض المسلمين: السيد محمد الحسيني الشيرازي، مؤسسة الفكر الإسلامي، بيروت (ب-ت). (10) العنف والتربية: آلان جيلوت، ترجمة علي أسعد وطفه، مجلة شؤون عربية، العدد 105/ مارس (آذار) (2001). |