مجلة النبأ

إسلامية العلاقات الدبلوماسية

 

أحمد البدوي

مع دخول الاجتماع التقليدي بقنواته المعروفة، أروقة المجتمع المدني الحديث، برزت كثير من المفاصل التي لم يكن يتأطر بها من قبل، إلا أن تكاثف الأحداث ذات الأثر الجيوسياسي، على المستوى الدولي، وبروز الوجه السياسي كوجه محوَّر حوله أولويات حركة الأمم.. حتم تشكل ناظم ينتظم تلك المفاصل ويضبطها ضمن ضابطة، عرفت فيما بعد لا سيما مع بدايات القرن العشرين- بالعلاقات الدبلوماسية، التي تناط عادة بوزارة الخارجية وملاحقها.

ضرورة الدبلوماسية الإسلامية:

يا ترى هل من ضرورة لاعتماد الدولة الإسلامية هكذا بعد في وجودها؟؛ بلا شك في ذلك ضرورة كون هذا البعد، أضحى يمثل ركناً من أركان المجتمع المدني، وبالتالي حركة الدولة فيه مع باقي الأمم.. إلا إذا أرادت الخروج عن الواقع، وهو الخروج عن الوجود، لذا يرى الإمام الشيرازي من اللازم على التيار الإسلامي قبل الوصول إلى الدولة، وكذلك على الدولة الإسلامية اعتماد الدبلوماسية(1)، ويعلل ذلك؛ لوضوح أن الدول لا تستطيع أن تعيش منطوية على نفسها، فإنه لا بد لها من التعامل فيما بينها، وتأمين الانسجام بين مصالحها المتباينة(2).

إلا أنه لا يقصرها على الوجهة الخارجية، في نطاق الدولة وغيرها، وإنما يتجاوز ذلك ويمررها إلى القنوات الداخلية للدولة، كما أن الدبلوماسية الإسلامية تختلف في منطلقاتها عما هو معروف في الوسط الدولي على نسق قاعدة (كل يجر النار إلى قرصه) وليكن ما يكن ما بعد الحدود، بل الدبلوماسية الإسلامية تقوم على قيم ومنطلقات إنسانية أساسها العدالة بين أفراد الأمة وغيرها من الدول، بل حتى الخارجين عن الإسلام، فلا يجوز -لدى الإمام- الحصول على مغنمة ما على حساب دولة أخرى.

هوية الدبلوماسية.. والإطار الإسلامي:

يقول - مبتدءاً بتعريفها ثم الخوض في مفاصلها - الدبلوماسية عبارة عن اللين والمرونة، واتباع الطرق السليمة لحل المشاكل والخلافات والمنازعات الداخلية والخارجية، وتوخي العدالة الكاملة بين أفراد الأمة، كما يلزم العدالة بين أفراد الأمة وغيرها من الأمم، أو الأفراد الخارجين عن الإسلام، والتوفيق بين حقوق جميع الدول في مصالحها المتباينة دون أن يسعى التيار أو الدولة للحصول على مغانم غير مشروعة تحرمها الشريعة الإسلامية على حساب الأفراد أو الدول.. وهذه هي الدبلوماسية الإسلامية(3)، كما أن هذه الوجهة من الرؤى التي حددت في الأفق الإسلامي - يرى الإمام- هي عينها التي يشترك بها العقلاء والمنطق الطبيعي للقيمي.. غير محدد بالإطار الإسلامي.

إن الدبلوماسية كما يراها السيد الشيرازي مبنية على عناصر.. تمثل أسس الهيكل المتحرك عصرياً، منها؛ الكفاءة، وهي المدخل الفلسفي -في نطاق الاجتماع- أو هي البعد العقلاني الذي تتأطر به الأولويات بما تتفرع منه كثير من الأحكام الشرعية التي تتبع هذا المناط (الكفاءة)، كما هو في صفة القيمومة للرجل على المرأة، والقيادة، والإمامة، ونيابتها، وكل إداريات الحياة.

من العناصر الأخرى التي تبتنى عليها الدبلوماسية الإسلامية - كما يراها السيد الشيرازي - هي أيضاً؛ اللباقة والمرونة، وانتزاع ثقة الناس بحسن العمل، وحسن الطريقة، وسياسة الاعتدال، والحرص على تحقيق العدالة الفردية والاجتماعية، والإنصاف، والاهتمام بالصالح العام، وبالمصالح المشتركة، والمشاركة الوجدانية مع سائر الناس(4).

(وبُعد الناس ظاهر في عضوية المركزية داخل أفكار الإمام الشيرازي في أثرها - عضوية الناس - التاريخي والتحولات التي تلوحها، كذلك توجيه المفهوم والوجود للناس أمام الشريعة في إنها إليهم وارتكازه في الاجتهاد على الصالح الذي يعود به الحكم عليهم).

أما نجاح هذا البعد في الدولة الإسلامية داخل المجتمع المدني، فلابدّ أن يحمل المناط به هذا الأمر، مميزات لا تجعل القيم اللينة التي يتحرك بها الإسلامي، وكأنها توهنه، يرى الإمام إن ذلك النجاح يتوقف (على ما تتصف بها الدبلوماسية من حزم، وحيطة، وحذر، وتبصر في حقيقة الأمور، وفي عواقبها، وحسن تقدير للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والعسكرية والتربوية وغيرها، بالإضافة إلى ملاحظة الظروف الدولية، وانعكاساتها والمضاعفات المحتملة، حتى لا يعمل الإنسان عملاً يعتبره الأعداء مظهراً من مظاهر الضعف، فيتشجعون بذلك على القيام بالعدوان، فاللازم على الدبلوماسي الإسلامي اللبق، الاعتدال، وأن لا يبدو بمظهر الضعف والتخلي عن المطالب الحقة، والاستسلام لمن يريد الانتهازية)(5).

بين الإسلام والغرب.. الأسس والمنطلقات..

يقول الإمام بعد عقد مقارنة - على عادة منهجه - مع الأطروحة الغربية أو العرف السياسي لمفهوم الدبلوماسية، كي يضع نتاج الرؤيتين أمام المنطق القيمي، الذي يتحرك من خلاله - عادة- الدعاة المستقلين للسلام العالمي ولحقوق الإنسان.

(المعروف أن كثيراً من مؤصلي الدبلوماسية يرون أنها تقوم على النشاط الخفي، والاتصالات المريبة، والغش، والكذب، والتجسّس، والتآمر، وذكر أنصاف الحقائق وإخفاء النصف الآخر، والتعامل مع الناس تعاملاً بالحيلة والمكر)(6)، وهذا عينه ما عرف في أغلب صفحات المشهد الثقافي العربي، في أن معاوية - بزعم البعض - رجل التيوقراطية كان أدرى في السياسة من إمام العدالة وروحها الإمام علي (ع)؛ لمسيرة معاوية بتلك الخطوط التي أشار إليها السيد الشيرازي فيما يعرف الآن بماهية السياسة، فكان معاوية داهية في الفكر السياسي.. إلا أنهم جهلوا أنه لم يكن أدهى في نطاق الحنكة في إدارة الأمور.. بقدر ما كان يغدر ويفجر، كما يشي بذلك البيان المقدس للإمام علي (ع)، والأغنى معرفياً في البعد السياسي، بتأصيل (للغدر والفجور) يعاد إلى سيرة معاوية، كمرجع في ذلك، بل مرجع أبلغ في المكر والخدع.

يحاول الإمام الشيرازي أن يناقش أطروحات المرجع الفكري للساسة في بدايات هذا القرن وهو الكتاب المشهور (الأمير) لميكافيلي، الذي كان هتلر لا ينام إلا والكتاب (الأمير) تحت وسادته.

يرى الإمام أن كتاب (الأمير) قائم على أن سياسة القوة والغطرسة والتحايل والخداع الدبلوماسي والمكر والكيد هي الصحيحة، لأنها تساعد على تحقيق نجاحات سريعة والحصول على انتصارات باهرة، ولاسيما إذا قامت بها دول تمتلك معدات حديثة ووفيرة وجيوش يرأسها قواد أذكياء ومحنكون(7)، يحاول الإمام مناقشتها بمحاكمتها ومقايستها إلى قاعدة وسنة يتحرك بها التاريخ البشري مستلة من القانون الطبيعي، هذه السنة ترى أن البذرة الصالحة هي التي تنمو، أما البذرة الفاسدة فلا تنمو، الأمر الذي يعرض النتيجة المنطقية لهذه القاعدة مع متبني الخطوط التوجيهية لكتاب ميكافيلي.. أنهم لابدّ أن يؤولوا إلى هلاك لهم وشعوبهم. والإمام يؤصل لذلك منطلقاً من الآية الكريمة: (فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض).

أما اقتضاءات الدبلوماسية (عند الإمام الشيرازي) فاللازم أن تباشر كلياً أثناء السلم ونسبياً أثناء الحرب، كون الدبلوماسية أثناء الحرب غيرها في ظروف السلم، لظروف الحرب الطارئة، فإنه حتى في حالة الحرب يمكن ممارسة بعض الدبلوماسية بواسطة دولة ثالثة، أو إحدى المنظمات الدولية بين الدولتين المتحاربتين، فإذا انتهت الحرب أمكن استئناف الدبلوماسية للدخول في مفاوضات مباشرة أو غير مباشرة تتعلق بشروط الهدنة أو عقد الصلح وحسن الجوار وما أشبه(8).

كما أن السيد لا يجد اقتضاءً في حصر نطاق عمل الدبلوماسية بالشؤون السياسية فحسب، بل يتداول عمل الدبلوماسية أيضاً الشؤون الاقتصادية والتجارية والثقافية والسياحية والمواصلات البرية والجوية والبحرية، والقضايا الفنية على اختلاف أنواعها، والأمور التكنولوجية، كون كلاً منها لها حالة خاصة ترتبط عضوياً بوجود الدولة، ويؤكد ذلك ما يراه ضرورياً الآن في المجتمع المدني من امتلاك السفارات ملحقات مختلفة لمراعاة الشؤون المرتبطة ببعد من الأبعاد التفعيلية لحركة الدولة ضمن النطاق الدولي(9).

كما أن وظيفة الدبلوماسي - لدى الإمام - ليس وضع أسس السياسة الخارجية، وإنما يتحدد عمله في إطار التنفيذ والتوضيح ومحاولة إيجاد الوسائل الأكفأ والأنجح الكفيلة بتنفيذها وتحقيقها، أما الأسس فتحال إلى مجلس الأمة والشخصيات العلمية ومن إليهم، فيضعون السياسة الخارجية، والدبلوماسي الفقيه يستطيع بواسطة تقاريره واقتراحاته الحكيمة أن يسهم في رسم خطط سياسة حكومته، ويعمل على طلب تعديل التعليمات التي يتلقاها، وبذلك يشاطر حكومته الأمور السياسية الداخلية والخارجية(10)، والقاعدة التي يرتكز عليها المقننون للعلاقات التي تربط الدولة الإسلامية بالأمم الأخرى هي المصلحة الإنسانية العامة لخدمة الإنسان بما هو إنسان، فالإسلام جاء لذلك وليس لخصوصية عرقية، بل إن قيام الدولة الإسلامية هي خطوة أولى ومقدمة وأداة لخدمة الإنسانية، وليس لمن حل داخل حدودها فقط. نعم هناك اقتضاءات تفرضها نفس القاعدة، فلذلك يُصغى إلى بتدبر إلى المعادلات التي تحكم الساحة الدولية.

لا يحصر الإمام الشيرازي الدبلوماسية بما هو معروف في نطاق السياسة الخارجية فقط، فيراها السيد تشمل الداخلية أيضاً؛ لما هنالك من تلازم بين الداخلية والخارجية، فهما يكملان بعضهما، بحيث لا تستغني أحدهما عن الأخرى، وداعي ذلك أن الدبلوماسية كما لا تتمكن من أن تعمل دون السياسة الخارجية، فهي لا تتمكن أيضاً من أن تعمل بدون التعامل مع نفس أفراد الأمة(11).

الدبلوماسية والقوة..

يرى الإمام - بداهة - أن الدبلوماسية لا تكون من الفراغ، الأمر الذي يستدعي أن تسندها القوة، بحيث تكون العلاقة بينهما (القوة - السياسة) علاقة ملازمة عضوية في الفعالية الدبلوماسية، بحيث تدعم كل منهما الثانية وكأنها - كما يرى - وجهان لعملة واحدة، ولا يمكن أن تعمل كل منهما على حدة، مستقلة في تأثيرها ونجاحها، فإن انفردت القوة أدت إلى تكديس الأسلحة وصرف الأموال فيما لا يغني، فلا يمكن ضمان الأمن والسلام بالتفوق بالأسلحة فحسب، لأن التسلح بدون الاتزان مع الدبلوماسية يوجب الاضطراب والفوضى، ولا يزال يتطلب المزيد والمزيد حتى يكون كلاًّ على الدولة وعلى الأمة، ويكون الأمر حلقة مفرغة من الخوف والذعر وصنع الأسلحة وصرف الأموال، وهذه الأمور لا تخلو من المخاطر الكبيرة، وأحياناً الكوارث كما كان الأمر في الحربين العالميتين الأولى والثانية(12).

وكذلك الدبلوماسية وحدها ستفضي دون قوة إلى أن تتلاقف أطراف حركتها الدول الأخرى طالما أنها جوفاء في طرحها.

مع هذا فالقوة لم يكن إدراج أسّيتها في حركة الدبلوماسية الإسلامية لأغراض عدوانية، أو لدعم مطالب غير حقة، أو لملء الغرور والدكتاتورية، بقدر ما أدرجت لتحقيق أهداف متزنة رصينة في ثباتها ومهابتها، ومع هذا - بلا شك - سيكون حينئذٍ تحقيق وإشادة للسلم وترسيخ لقواعده.

الرأي العام في الإسلام..

كما أن من أهم بنود الدبلوماسية التي تتحرك في نطاقها - كما يرى الإمام - هو ملاحظة الرأي العام إيجاباً وسلباً، فعلى التيار الإسلامي ثم الدولة الإسلامية أن يلاحظا الرأي العام كي لا يكون مخالفاً لهما أولاً، وإن يوافقهما ثانياً.. لماذا؟.. لما يراه من ضرورة لذلك من جهة الأثر الواقعي لاستمرارية الدولة، وكونه (الرأي العام) حسب تعبيره (كاسراً وجابراً) حيث لا يمكن بقاء الدولة إلا بمساندة الرأي العام، لذا من اللازم عليها إيجاد الرأي العام، كما لو رأت أن الرأي العام يخالفها فيلزمها عندئذٍ أن تترك ما تريده كي لا يجرفها السيل ويشوه سمعتها.

أما الارتكاز الشرعي لهذه الوجهة مع الرأي العام فيعود بجذرها الشرعي تأصيلاً إلى قاعدة (الأهم والمهم).

فبما أن السياسة هي فن دراسة الاحتمالات بما هو معروف في التداول المعرفي للفكر السياسي أغلب الأحيان، وهو أمر (تكاثف الاحتمالات) واقع لاختلاف المداخل في النطاق الدولي، وازدحام المعادلات وتضاربها، الأمر الذي فرض على هذا الفن حكمة الترجيح وحنكته.

الإمام حينما يؤصل لفعالية هذا المفصل بعودته إلى قاعدة الأهم والمهم... القاعدة التي تؤطر باب التزاحم عادة، بأخلاقياتها في جميع مجالات الحياة؛ لذلك كان مستندها وحجيتها منبثقة من سيرة العقلاء؛ فلا يمكن لأحد طرح الأهم لأجل المهم، ولا يمكن لأحد ترك السيئ وأخذ الأسوأ ولا يمكن لأحد إبعاد الأحسن والخوض في الحسن.. إلا وذُمّ من قبل العقلاء.

يعود السيد الشيرازي لهذه القاعدة في البعد الدبلوماسي، الذي تضمنته السيرة النبوية وسيرة المعصوم (ع)، أيام دولة الرسول (ص)، وخلافة الإمام علي (ع) ودولته، فيسحب عدة مداليل منها شكلت أمامه مصداقاً للقاعدة، فيؤيد السير عليها والارتكاز لها.

مثلاً يذكر حادثة الرسول (ص) مع عبد الله بن نفيل؛ فإنه كان يسمع كلام النبي (ص) وينقله إلى المنافقين حتى أوقف الله نبيه (ص) على هذه النميمة، فأحضره النبي (ص) وسأله عنها، فحلف أنه لم يكن شيئاً مما ينمّ عليه، فقبل منه النبي فأخذ هذا الرجل يطعن عليه، ويقول: (هو إذن يقبل كل ما يسمع، أخبره الله أني أنم عليه فقبل، وأخبرته أني لم أفعل فقبل)، فردّ عليه الله سبحانه وتعالى بقوله: (قل أذن خير لكم).

فيرى السيد هنا أن النبي (ص) بتصديقه للمنافق لم يكن إلا بمعنى عدم إظهار تكذيبه من باب الأهم والمهم، كون الرسول (ص) إذا شدد بمعارضته لانفض الناس من حوله... لذلك كانت الآية (فبما رحمة من الله لنت لهم، ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك) موجهة لهذا الأمر، ليعاضد السيد بها (الآية الأخيرة) تفكيكه وتحليله لشأن إهمال النبي المعارضين وعدم مجابهتهم في بعد الانفضاض(13).

كذلك يستند الإمام الشيرازي إلى ما ورد بشأن قول الرسول (ص) لإحدى زوجاته:(لولا أن قومك حديثو عهد بالإسلام لهدمت الكعبة وجعلت لها بابين)، فيرى السيد - مع افتراضه صحة الحديث - أن الحديث يدل على أن الرسول (ص) كان يحذر من مخالفة الناس تقديماً للأهم على المهم.

في قصة الدباب التي دحرجوها أمام ناقة الرسول (ص)؛ يحاول الإمام الشيرازي أن يستلّ منها مصداقاً لنزول قاعدة الأهم والمهم مع ترجيح الرأي العام في البعد الدبلوماسي، ففي العقبة كان قد حدث هذا الأمر، إلا أن الرسول لم يستخدم العنف مع أولئك المتآمرين لسبب وجده الرسول (ص) في أن الناس سيقولون لو قتلهم إن محمداً استنصر بجماعة فلما علا أمره أخذهم وقتلهم، وإلا فلولا ذلك لكان قد قتلهم(14).

أما مع سيرة الإمام علي (ع) فهناك شواهد كثيرة، يرى السيد الشيرازي أن الإمام علياً (ع) كان يترك بعض ما يراه حذراً من الرأي العام وانفلاته من جهة الأهم والمهم فإنه:

أولاً: رفع يده عن رأيه في قصة التحكيم، حيث كان رأيه سلبياً، لكن رأي كثير من أصحابه كان بالنسبة إلى التحكيم إيجابياً، فترك رأيه وأخذ رأيهم اضطراراً.

ثانياً: رفع يده عن الأمر بترك صلاة التراويح، حيث كان رأي كثير من أهل الكوفة إقامتها.

ثالثاً: رفع يده عن عزل شريح القاضي، لما صاح الناس بخلاف ذلك، وقال (ع): (لو فعلت كذا (العزل) لانهدم بعض عسكري) (كما في الكافي).

أما علمية التقديم في الأهم والمهم فتتحقق على أساس تشخيص الموضوع، وهو بعد منهجي للإمام الشيرازي بالانطلاق من فقه الواقع واستكشافه ورفع ما يلابسه، لمعلولية الحكم للموضوع، وترتبه عليه، فقدرة الوصول إلى الحكم، تترتب أولاً على فرز الموضوع عما يلابسه من حيثيات أخرى، قد تبهم الأمر، وتوجد إشكالاً، يتوقف الحكم أمامه؛ لذا يرى السيد الشيرازي إنه لا يمكن (أن يترك التيار أو الدولة الإسلامية كلما يراه صلاحاً للمخالفة، أو يفعل كل ما يراه صلاحاً للموافقة، وإذا تضاربت الآراء حول الأهمية يكون ترجيح الأهم على المهم من أصعب الأمور، مما يحتاج الأمر إلى لباقة وشجاعة، فإن في الطرفين من لا ينجو منه التيار، التيار أو الدولة، إلا من عصمه الله سبحانه وتعالى) (15).

ومع أن الدبلوماسية المعروفة في النطاق والتداول الإعلامي كثيراً ما تسير بما لا ينسجم مع أحكام الإسلام، فإن بينهما مواضع كثيرة للتلاقي مع المواضع المتعددة للتفارق؛ لذا يرى السيد أن بينهما (عموم وخصوص من وجه) حسب الاصلاح المنطقي، ويحاول من هذا الخروج بشقين يعطي كلاً بعده؛ ففي مورد التفارق إن كان من مصاديق قاعدة الإلزام عُمل به، وإن لم يكن كذلك لزم مراعاة قوانين الإسلام، باستثناء الأحكام الثانوية من قبيل وقوع ضرورة أو وقوع مصداق لقاعدة الأهم والمهم.

أما ما يكون بين الدولة الإسلامية، والدولة المسلمة (ذات الجمهور الإسلامي، لا الحكومة الإسلامية) فستتكون حيثيات مختلفة في التعامل على أساس لا بدية التفريق بين الشعوب والحكومة؛ فالشعب المسلم كل أفراده أخوة، سواء كانوا في بقعة هنا ذات حدود محدودة أو في بقعة خارجة، وبالتالي يلزم على الدولة الإسلامية مراعاة الاخوة الإسلامية، وكافة الموازين الشرعية التي توجه العلاقات بين الإنسان وأخيه(16).

أما مع حكومات هذه الشعوب المسلمة، فتكون حركة الدبلوماسية قائمة هنا على أساس الضرورات والأحكام الثانوية.

ويضرب أمثلة في هذا الأفق؛ فالعلاقة مثلاً:

1- مع الشعب الاندونيسي المسلم هي علاقة أمة واحدة.. علاقة الأخوة، بحيث لهم ما لنا وعليهم ما علينا، من غير تفاوت - على حد قوله - ولا في شعرة.

2- مع الحكومة الإندونيسية، فالتعامل معها حسب الإسلام، إذا توافقا، وإلا على أساس الاضطرار والأحكام الثانوية.

3- مع كندا مثلاً، وهو الشق الثاني (التعامل مع الشعوب والحكومات غير المسلمة) فيكون -على ما يرى الإمام - على أساس قاعدة (نظير لك في الخلق)، وليس على أساس قاعدة (أخ لك في الدين) رجوعاً في التأصيل إلى كلام الإمام علي (ع) (17).

أما علاقة رئاسة الدولة الإسلامية (شورى الفقهاء) بالجهاز الدبلوماسي، فعليها واجب الاطلاع على التقارير والبرقيات السرية الواردة من رؤساء البعثات الدبلوماسية، كذلك لا بد من بيان رأي الرئاسة بشأنها، كما يلزم عدم الإعلان عنها، إذا كانت تقتضي سرية ما.

كذلك على الرئاسة ضرورة الاطلاع على المباحثات والمفاوضات الخارجية، وإعطاء التوجيهات لسيرها، أو توقيعها.

كذلك يرى الإمام الشيرازي أن شورى فقهاء الأمة هي التي تبت في هذه الأمور بعد تداولها الكامل، إضافة إلى مدخلية الشعب في رأيها، وذلك بطلب استفتاء في الأبعاد السياسية داخلياً وخارجياً من قبيل؛ صلح، إقرار دعوة، اتحاد وما شابه ذلك.

كما أن من واجبات شورى الفقهاء الزيارات الرسمية للدولة الصديقة أو ما يراد توطيد ذلك معها، ويمكن أن يوكل عنهم شخص آخر. كما على شورى الفقهاء الإدلاء بالبيانات حول السياسة الخارجية والأحداث الدولية، وكذلك الاجتماعات الهامة، ومهمة التوفيق والتحكيم بين الدول في طارئ معين، وعليهم أن يتحرّوا في ذلك المصلحة والمفسدة.. والأحسن فالأحسن(18).

إذن ممكن توجيه هذا المفصل المدني بأبعاد إسلامية، بثوابت وكليات وخطوط عامة شرعية.. إضافة إلى فنية حركة هذا المفصل بما يفضي إلى المصلحة والمنفعة للمجتمع المدني، وهو الإطار الأكبر لكل أس شرعي في نطاق هذا المجتمع الذي مازالت تكتظ تعقيداته يوماً فيوماً.

الهـــوامـــش..

(1) الشيرازي، السيد محمد حسين، موسوعة الفقه، كتاب الدولة الإسلامية، بيروت، دار العلوم، ط1/ 1410هـ - 1989م، ص268.

(2) ن.م،ص268.

(3) ن.م، ص269.

(4) ن.م، ص268.

(5) ن.م، ص269.

(6) ن.م، ص268.

(7) ن.م، ص269.

(8) ن.م، ص270.

(9) ن.م، ص270.

(10) ن.م، ص271.

(11) ن.م، ص271.

(12) ن.م، ص272.

(13) ن.م، ص273.

(14) ن.م، ص274.

(15) ن.م، ص275.

(16) ن.م، ص276.

(17) ن.م، ص276.

(18) ن.م، ص277.